حين قرأت كتاب (الله) للأستاذ العقاد، وقفت طويلا عند بحثه براهين وجود الله وبخاصة عند الأدلة القرآنية؛ وذلك إذ أني رأيت العقاد في أصالته وضلاعته وسعة أفقه قد أجاد أيما إجادة إذ تناول هذا الجانب القرآني، وتمنيت يومئذ لو تناول العقاد القرآن كله بالدرس على طريقته هذه , وها هى ذى أمنيتى صارت حقيقة بهذا الكتاب الذي أقدمه للقارئ في غبطة عظيمة.
هو (كتاب عن مباحث الفلسفة الروحية والاجتماعية التي وردت موضوعاتها في آيات الكتاب الكريم) كما يطالعك بذلك عنوانه، وقد أراد الأستاذ المؤلف أن يبرهن فيه (على صلاح العقيدة الإسلامية أو الفلسفة القرآنية لحياة الجماعات البشرية) وأن الجماعات التي تدين بها تستمد منها حاجتها من الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة، ولا استعدادها لمجارات الزمن حيثما أتجه بها مجراه).
وفي رأي الأستاذ العقاد (أن القرآن الكريم يشتمل على مباحث فلسفية في جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن وأن هذه الفلسفة القرآنية تغنى الجماعة الإسلامية في باب الاعتقاد ولا تصدها عن سبيل المعرفة والتقدم هي لذلك تحقق ضرورة الاعتقاد , وتمنع الضرر الذى يبتلى به من تصدهم عقائدهم عن حرية الفكر وحرية الضمير وليس للعلماء ولا للفلاسفة أن يطلبوا من الدين غير هذا) .
بهذا الرأي الروح كتب المؤلف كتابه، وقد أحكم تبويبه لأن موضوعه كله كان قائما في ذهنه جملة قبل أن يسرد تفصيله، لذلك لم يدع شيئا (من جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن) فبعد أن مهد للبحث بفصلين ممتعين بين في أولهما نظرة القرآن العلم وأورد الآيات التي تدل على أنه (يحث على التفكير ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع حيثما استطاع.
كما لم يكفل كتاب من كتب الأديان) وبين في الثاني (إن الحوادث كبيرها وصغيرها لا يمكن أن تحدث إلا بأمر الخلق المباشر من إرادة الله) أقول بعد ذلك تناول المجتمع بما فيه من الأسرة وشئونها والمرأة ومركزها والطبقات والحكم والأخلاق، ثم تناول العلاقات الدولية، ثم تجاوز الأرض وما عليها إلى البحث في الإله الخالق وتعرض لمسالة الروح والقدر والعبادات ثم أختتم هذا البحث الجليل القدر بفصل في التصوف وآخر في الحياة الآخرة.
وبعد، فهذا كتاب يجب أن تقراه لتعرف مبلغه من الأهمية ومكانته بين ما آلف في الفلسفة الإسلامية، فما يغنى كلام مهما طال في التعريف به، ولا نقد مهما استفاض عن فصل واحد منه وقصارنا أن نتقدم بالتحية للأستاذ الجليل الذي أسدى إلى الفكر الشرقي بكتابه (الله) وإلى الدين الإسلامي بكتابه هذا (الفلسفة القرآنية) صنيعين لا يقدم مثلهما إلا الأفذاذ؛ وللمكتبة العربية أن تعتز بأمثال هذين البحثين الذين ينفيان عنا تهمة التقصير.
وحسب المسلم أن يخرج من هذا الكتاب الذي أحدثه عنه، وفي نفسه أنه (في هذا العصر الذي تتصارع فيه معاني الحياة بين الإيمان والتعطيل وبين الروح والمادة، وبين الأمل والقنوط، تلوذ الجماعات الإسلامية بعقيدتها المثلى ولا تخطئ الملاذ، لأنها عقيدة تعطيها كل ما يعطيه الدين من خير، ولا تحرمها شيئا من خيرات العلم والحضارة) وهذا ما بينه الأستاذ الجليل أحسن بيان في هذا الكتاب.
