جميع الحقائق الكبيرة واضحة ، ولكن ليست جميع الحقائق الواضحة حقائق كبيرة ، فمن الواضح أن الحياة قصيرة ، وأن القضاء محجوب عنا ، وأن سعادة الإنسان تعتمد إلى حد كبير على الإنسان نفسه ، ولا تعتمد على الظروف الخارجية ، وكذلك من الواضح أن أغلب الآباء والأمهات يحبون أولادهم ، وأن الناس يتعلقون بمنازلهم وأوطانهم ، وبما تعلموه فى طفولتهم من معتقدات وآراء ، وكذلك بالقانون الخلقى للجماعة التى نشأوا فيها . وهذه الحقائق جميعا حقائق واضحة ، وكلها حقائق كبيرة ، لأنها شائعة فى العالم أجمع ، ولأنها تدل على خصال أصيلة فى الطبيعة الإنسانية .
ولكن هناك نوعا آخر من الحقائق الواضحة ، وهى الحقائق التى تخلو من المعانى الخالدة ، ولا تدل على خصال أصيلة فى النفس الإنسانية ، فمن الواضح أن فى مدينة نيويورك عددا كبيرا من السيارات ، وكثيرا من الأبنية الشاهقة . ومن الواضح أيضا أن معاطف هذا العام أطول من معاطف العام الماضى . وأن الإنسان يستطيع الانتقال بالطائرة من لندن إلى باريس فى ساعتين ونصف . وهذه الحقائق واضحة ولكنها ليست حقائق كبيرة . فقد يحين الوقت الذى لا نرتدى فيه المعاطف ولا نرى فيه السيارات إلا فى المتاحف .
ويستغل الفن الشعبى هذين النوعين من الحقائق الواضحة ، صغيرها وكبيرها . فقد يقلق الجمهور من
الموضوعات المستمدة من الخيال ، ولكنه يجد لذة ومتعة من مجرد التعرف على ما اعتاد رؤيته من الأشياء والأحداث ، ويسر من قراءة وصف الطرقات والسيارات والمطاعم التى اعتاد مشاهدتها ؛ وهو لا يتطلب الحقائق الواضحة الصغيرة فحسب ، بل يتطلب أيضا الحقائق الواضحة الكبيرة . فيريد من القائمين على الفنون أن يصوروا له حب الأمهات لأطفالهن ، وأن يؤكدوا له أن الأمانة تقود إلى الخير ، وأن زواج العاطفة خير من زواج المصلحة ، وأن الحياة الإنسانية قصيرة ، فيقدم القائمون على الفنون ما يطلب منهم ، ويعالجون الحقائق الكبيرة الواضحة الأصيلة فى الطبيعة البشرية ، ولكنهم يعالجونها على الأغلب بشكل غير لائق ينبو عنه الذوق السليم .
وكان الفنانون فى الماضى يعالجون الحقائق الكبيرة الواضحة بطريقة تبدو بها أكاذيب كبيرة . ولكن الأمر لم يصل من قبل إلى الحد الذى وصل إليه الآن . والأسباب لذلك كثيرة : أولها أن انتشار التعليم ، واتساع أوقات الفراغ ، وارتفاع مستوى الحياة ، قد أوجد إقبالا كبيرا على الفن الشعبى . وعدد الفنانين النادرين قليل ، فاحتاج الأمر إلى كثير من الفنانين غير القادرين ، الذين عالجوا الحقائق الكبيرة الواضحة فى أغلب الأحيان معالجة غير لائقة ينبو عنها الذوق السليم .
وربما كان لأنحلال التقاليد القديمة ، وانتشار الآلية فى العمل ، وفى قضاء أوقات الفراغ ، أثر سئ على الذوق العام ، وإدراك الجماهير ( وقد خلت جهود أغلب الناس فى العالم المتمدين من الابتداع والابتكار ) . ولكن مهما كانت الأسباب ، فالحقيقة أن العصر الحالى قد أنتج مقدارا كبيرا لم يسبق له مثيل من الفن الشعبى . ( شعبى بمعنى أنه أنتج للشعب ولم ينتجه الشعب ) . وأن نصف الفن الشعبى مكون من الحقائق الواضحة الصغيرة التى صورت فى كثير من الجهد والاقتراب من واقع الحياة ، ونصفه
الآخر مكون من الحقائق الكبيرة ، التى صورت فى شكل قاصر حتى إنها تبدو مزيفة منفرة .
وكان لهذا الحال تأثير غريب فى بابه على بعض من انصف بشدة الحساسية من الفنانين ، فقد أصبحوا يخشون الحقائق الواضحة كبيرها وصغيرها . وليس من شك فى أن كثيرا من الفنانين فى كل عصر كانوا يخشون الحقائق الواضحة الصغيرة أو بالأحرى يترفعون عنها . ويعد المذهب الطبيعى Naturalism ظاهرة شاذة فى تاريخ الفن . ولكن من اتصف بشدة الحساسية من الفنانين لم يرفضوا الأخذ بالمظاهر الخارجية لواقع الحياة فحسب ( وهذا شئ نحمده لهم ) بل رفضوا أيضا الأخذ بباطن الواقع ؛ فلم يعترفوا بأغلب حقائق الطبيعة الإنسانية . ولما كانت أغلب نواحى الحياة مكونة من الحقائق الواضحة ، فإنهم قد قصروا جهودهم على شطر ضئيل من الوجود .
وامتاز فنانو فرنسا بالتطرف فى هذا السبيل ، كما امتازوا بالاتجاه إليه عن قصد . ولكن هذا الاتجاه كان ظاهرة سادت أغلب بلاد العالم ؛ فتجردت فنون النحت من كل عناصرها الأدبية ، وأصبحت الصور والتماثيل مجرد أشكال وخلت الموسيقى من التعبير عن عواطف الحزن والحنان ، واقتصرت على التعبير عن النشاط الجسدى وأغانى السرعة والحركة الآلية ، وتأثرت الموسيقى والفنون البصرية بهذه الحركة الابتداعية Romanticism الجديدة ، التى مجدت الآلة والزحام والجسد ، واحتقرت الروح والعزلة والطبيعة . وامتلأ الأدب بهذه الابتداعية المعكوسة ، وتبسطت موضوعاته بتجنب جميع الحقائق الواضحة الخالدة فى الطبيعة الإنسانية .
ويبرر هؤلاء الفنانون هذا الاتجاه تبريرا نظريا بنوع من فلسفة التاريخ ، وهى فلسفة تؤكد أن الطبيعة الإنسانية قد تغيرت تغيرا أساسيا فى السنوات الأخيرة ،
وأن الإنسان الحديث يختلف عن أسلافه وأجداده أو ينبغى أن يختلف عنهم . ولا يبدو خوف الفنانين من الحقائق الواضحة فى الموضوعات فحسب ، بل هم يخافون الوضوح فى وسائل التعبير الفنية أيضا ، فيقودهم هذا الخوف إلى هدم اللغة التى طالما بذلت الجهود فى سبيل الوصول بها إلى حد الكمال . بل قد يجنح المتطرفون منهم إلى الرغبة فى فناء جميع الفنون والعلوم ، وإلى انحلال المجتمعات الإنسانية المنظمة .
وكانت أغلب الأعمال الفنية التى تميزت بالجرأة نتيجة لهذا الرعب والخوف الذى ساد فى عصر تميز بالابتذال ، وانتشرت فيه الحقائق الواضحة .
وإذا شاء شباب الفنانين أن يبرهنوا حقيقة على شجاعتهم وجرأتهم فعليهم أن يواجهوا الحقائق الواضحة ، وأن يحاولوا غزوها ، والسيطرة عليها سيطرة فنية ، لا أن يهربوا منها قرفا ورعبا . فالحقائق الواضحة الكبيرة حقائق موجودة ، وهؤلاء الذين ينكرون وجودها ويعلنون أن الطبيعة الإنسانية قد تغيرت منذ إعلان الحرب الكبرى فى ٤ أغسطس عام ١٩١٤ ، إنما يخلقون المبررات للرعب الذى داخلهم ؛ وقد عبر الفن الشعبى تعبيرا قاصرا مبتذلا عن الحقائق الواضحة ؛ وشديدو الحساسية من الفنانين يكرهون الابتذال . ولذلك يبرهنون بطرق طبيعية - وإن كانت غير علمية - على عدم وجود الأشياء التى عبر عنها الفن الشعبى فى ابتذال . ولكنها أشياء موجودة - كما يثبت ذلك أى بحث عن الحقائق مجرد من العاطفة ؛ وما دامت موجودة ، فيجب أن نواجهها ونكافحها ونخضعها إلى النظام الفنى الصحيح . وأما التظاهر بعدم وجود أشياء هى فى الواقع موجودة ، فقد يؤدى إلى أن جانبا كبيرا من الفن الحديث الراقى يقضى على نفسه بالقصور والجدب والشيخوخة المبكرة والموت .
