لو أن مريضا ذهب منذ خمسين سنة إلى طبيب يشكو الصداع والأرق ، فسأله : من أى البلاد أنت ؟ ومع من تعيش ؟ وكم تربح من عملك ؟ لكان هذا الطبيب ، فى نظر مريضه ، فضوليا غاية الفضول ، لأنه يحشر نفسه فيما لا يعنيه ، ويسأل عما لا يهمه أن يعرف !
ولو أن باحثا من أهل الأدب فى القرن الماضي أراد أن يدرس شعر شاعر أو فن كاتب ، فراح يسأل : هل عاش ذلك الشاعر أو الكاتب متزوجا أو عزبا ؟ وهل كان يعيش فى سعة من الرزق أو فى ضيق وعسر ؟ لكان مكان هذا الباحث من الفضول هو مكان ذلك الطبيب !
ولكن طبيب اليوم يسأل عما لا يخطر فى بال المريض أن يسأل عنه نفسه ؛ والباحث الأديب يحاول اليوم أن يعرف عن حياة صاحبه الذى يدرس فنه ما لا يحاول غيره أن يعرفه ؛ لأن طبيب اليوم وأديب اليوم يعرفان من الصلة بين الشخصية والفن ما لم يكن يعرف طبيب الأمس وأديب الأمس ، فما يتأنى لواحد منهما أن يحكم حكمه ويقرر نتيجته فى قضية من قضايا الطب أو من قضايا الأدب ، إلا أن يعرف ظروفها وملابساتها ؛ حتى القاضى : قد يصدر حكمين مختلفين فى جريمة واحدة ، مستندا فى حكمه إلى قانون واحد ، لأن إحدى القضيتين تختلف ظروفها ومسبباتها عن القضية الأخرى ؛ وما دامت النفوس تختلف فى مقدار التأثير والتأثر ، فما بد أن يختلف الحكم على الأثر الناتج عن كل منها وإن اتحد ظاهره فى رأى العين .
وقديما قال علماء البلاغة : إن الكلام المطابق لمقتضى
الحال لا يسمى بليغا إلا إذا صدر ممن يعنى أن يطابق كلامه مقتضى الحال ، فان جاء كذلك عفوا وبلا قصد فلا بلاغة فيه وإن جاء على ما تقتضى قوانين البلاغة . أليس علماء البلاغة يقررون بذلك الصلة بين الأثر والمؤثر ، أو بين الفن والشخصية ؟
إذا تقررت هذه القاعدة ، وهى مقررة نافذة ، وجب أن نسأل : هل تجرى أحكامنا الأدبية فيما ندرس من آثار الكتاب والشعراء الذين سبقونا بجيل أو جيلين - على قاعدة مضبوطة وأساس ثابت ؟
أما أنا فأزعم أن كل أحكامنا فى هذا الباب هى أقرب إلى الحدس والتخمين ، لأنها لا تقوم على الموازنة الصحيحة بين شخصية الفنان وفنه ؛ إذ كان علمنا بحياة من ندرس آثارهم من هؤلاء الكتاب والشعراء لا يتجاوز تاريخ مولده وتاريخ وفاته والعصر الذى عاش فيه ؛ وحتى ذلك العصر لا نعرف له صورة حية فى أخبار ناسه وتاريخ رجاله ؛ فمن أين لنا أن نحكم على تلك الآثار وليس بين أيدينا من وسائل الحكم إلا فن مجرد من شخصية صاحبه ومن المؤثرات الحقيقية " الخاصة " التى عملت فى إنشائه وتكوينه ؟
ها نحن أولاء نتكلم منذ ثلث قرن عن قاسم أمين ، ودعوة قاسم أمين ، وكتاب قاسم أمين ؛ فأى الباحثين الذين قالوا فأكثروا حدثنا عن شخصية قاسم امين الخاصة ، فى أهله وصحبه ، وفى عمله وفراغه ، وفى جده وعبثه ؛ لنعرف من جملة ذلك ، المؤثرات التى دفعته إلى هذه الدعوة الجريئة التى نشاهد اليوم من آثارها ما نشاهد ونتوقع ما نتوقع ؟
هل كان الرجل شقيا فى بيته أو سعيدا ؟ وهل كان صاحب إيمان وفكر ورؤية ، أو صاحب هوى واندفاع وطيش ؟ . . . ثم ما كانت تسليته فى فراغه ؟ أ كان
قارئا أم رحالة ؟ وكان لاعب شطرنج أو لاعب نرد ؟ وكان يؤمن " بالحظ " أو كان يؤمن " بالعمل والجزاء " ؟ هذه مقدمات لابد منها لنعرف أكان قاسم أمين
فى دعوته " مصلحا " دعا دعوته رغبة فى الخير العام ، أو " مقامرا " رمى رميته ولا يعنيه ما تكون النتيجة ؟
هذا المثل الذى سقته عن قاسم أمين له نظائر كثيرة فى كل ما نتحدث به عن أعيان هذا الجيل والجيل الذى سبق ؛ وإن الباحث فى غد لحرى بأن يقع فى الحيرة والضلال حين لا يجد بين يديه من وسائل الحكم إلا نثر الناثر أو شعر الشاعر ، ثم لا شئ بعد ذلك ؛ وإننا لأسعد حظا فيما ندرس من آثار أدبائنا القدامى ، إذ ترك لنا معاصروهم من أخبارهم الخاصة فيما أنشئوا من كتب التراجم ما فيه بعض العون والفائدة ؛ وإننا مع ذلك لننعى على هؤلاء بعض ما فينا ونرميهم بالقصور والتقصير ! ***
لقد غيب الموت فى هذا العام طائفة غير قليلة من أدبائنا وكتابنا وذوى القدر والخطر بيننا ؛ فمات محمد مسعود ، وعبد الوهاب النجار ، والصحافى العجوز ، ومى زيادة ، وفخرى أبو السعود ، وإبرهيم أدهم ؛ فماذا بقى من هؤلاء الذين ماتوا إلا لوعة فى قلوب الخاصة ، وذكرى خافتة فى قلوب العامة ، وكتابا أو كتبا فى معارض الزجاج على أبواب المكتبات ؟ ثم ماذا يبقى منهم فى غد لمن يريد ان يبحث ويدرس ويتعقب الأسباب إلى نتائجها ؟
وللناس فى مجالسهم الخاصة أحاديث عن محمد مسعود ، وعبد الوهاب النجار ، والصحافى العجوز ، ومى زيادة ، وفلان وفلان ؛ ولكن إلى كم تبقى هذه الأحاديث ؟ وما مبلغها من الصدق والكذب ؟ وما أثرها فيما أنشئوا وكتبوا ؟
سأتناول طرفا واحدا من هذه الاحاديث ، فأعرضه للبحث والنظر . . .
. . . لقد كانت " مى " أدبية من أديبات المشرق ، بل كانت فى الذروة من أديبات المشرق ؛ وإن لها لمذهبا فى البيان تعرف به وتتميز ، ولها مارب من الفكر لا يهدى إليها غيرها من أهل البيان والنظر ، ولها آثار أدبية يقف الفكر عند كل أثر منها وقفة إجلال وبهر ... ذلك حق لا ريب فيه .
وكان لها مجلس فى كل " ثلاثاء " ، هو ندوة الأدب ومجمع أهل الشعر والبيان ، يتنادون إليه من أقطار المدينة يلتمسون مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس ؛ فما أحد من رواد مجلسها إلا لها أثر فى نفسه ونفحة فى ضميره وهمسة فى وجدانه ونغمة فى شعره . . .
وذلك حق أيضا . وهى فتاة عذراء ، لم تخلع ولم تلبس الا لمرآتها ، وإنها لذات مال وجمال ، ترنو إليها العيون ،وتخفق حولها القلوب . . . وذلك أيضا حق .
ويقال : لقد كان الرافعى يحبها وتحبه ، وإن بينهما لرسائل . ويقال : بل كانت تحب داود بركات ويحبها ، وإن له فى قلبها لمكانا وإن لها . ويقال : بل كان هواها مع جبران فى وطنه ومهاجره ، وإنها لتبدو فى أدبه متبرجة سافرة وإنه . ويقال : بل كانت هى وإسماعيل صبرى قلبا لقلب ونغمة تجاوب نغمة . وكان من رواد مجلسها لطفى السيد ، ومصطفى عبد الرازق ، وخليل ثابت ، وفلان وفلان !
هذه ، وهذا ، وهؤلاء - إنهم أعيان الجيل وأدباء العصر ؛ وما منهم إلا له بيان وفكر ، وكتاب وشعر ، وصوت يرن فى مسمع التاريخ ؛ فماذا يعرف التاريخ من شأنهم وشأنها ، وأثرهم وأثرها ، فيما كتبت وكتبوا ؟
أترى الناس فى غد يعرفون مى فى كتابها وحده وقد جهلوا خبرها ؟ أم تراهم يعرفون فلانا وفلانا فى كتابهما إذا لم يعرفوا الروح التى ألهمت ، والقلب الذى أوحى ؟
وأى حب كان حبها ؟ وأى عاطفة كانت تختلج فى نفسها ؟ ولماذا بقيت عذراء وقد جاوزت الأربعين ؟
وهل كان جنونها جنونا أو حيلة طامع ؟ وهل كان عزوفها عن الناس فى أخرياتها حرص الحريص أو جبن الخائف ؟ وأين مظهر ذلك كله فيما كتبت وخطبت ، وفيما ألفت ونشرت ؟
أرأيت إلى التمثال القائم فى الميدان تشخص إليه العيون ؟ فليفنن صانعه فى نحته وصقله ما يفنن ؛ فما هو بقادر على أن يبعث فى النفس رهبته ، إلا أن يجعل له عينا تنظر ولسانا ينطق ؛ وهيهات !
وما الفن مجردا من شخصية فنانه إلا حجر من الحجر كالتمثال القائم فى الميدان ؛ ***
قال صاحبنا فى المجلس الحافل بصفوة أهل الفكر والبيان : لقد قرأت شعر بيرون منذ حداثتى ، فانه ليجرى فى دمى وفى أعصابى و ينبض به قلبى ؛ وما زال هذا مكان بيرون فى نفسى حتى قرات "حياة بيرون " , فاذا كل شئ فى نفسي قد حال وتبدل ، فما هو شعر شاعر ، ولكنه سفاهة داعر وهذيان ممرور ! . . .
وإن بيرون لشاعر فى الصدر من شعرائهم . ولعل صاحبنا لو عرف حياته قبل ان يقرأ شعره لكان رأيه أولا هو رأيه أخيرا ، ولما نقص عنده شيئا من قدره ؛ ولكنه عرف الفن قبل أن يعرف فنانه ، فتصورت صورته فى وهمه غير ما هى فى حقيقتها ؛ فلما قابل الأصل بالمثال حطم رأسا فى رأس وأسقط الاثنين من حسابه ! كذلك قلنا وما نزال نقول : إن الشعر هو الشاعر ،
وإن الفن هو الفنان ؛ ولكننا نكاد ننكر فى هذا الجيل أثر دراسة الشخصيات فى دراسة الأدب ، فما لنا عناية بأدب التراجم ولا له نصيب من مجهودنا الأدبى فى هذا الجيل ، فلماذا ؟
لماذا ؟ . . . سؤال سألته منذ أسابيع (١) ، وما أزال أردده ؛ أهو طابع السرعة فى أدب العصر الذى يأكل ناسه وهم ماشون فى الطريق ؟ أم النفاق الاجتماعى الذى يفرض علينا أن تكون لنا حياتان عامة وخاصة ؟ أم هى جناية الصحافة على الأدب ؟ أم هى الغفلة وقصر النظر ؟ أم هو الجحود ونكران الجميل ؟ أم هو كل ذلك إلى أشياء غير ذلك ؟
سؤال ينتطر الجواب ، وفى النفس بقية من الحديث
