الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 43الرجوع إلى "الثقافة"

الفولاذ ....

Share

هذه المدنية الحاضرة التي تنبهر مؤرخي التقدم البشرى بما تم معها من انقلاب بعيد في وسائل النقل والصناعة وأساليب العيش جميعاً ، لو ذهبت تمتحتها وتردها إلى أصولها لوجدتها في قرارها عالة على بضع مواد قليلة مما تخرج الأرض، بحيث لو قدر أن تنتزع هذه المواد من الأرض لتداعى بناء المدنية الحاضرة ودكت أركانه

وكذلك كان الشأن في كل عصر وكل مدنية يرتكز بناؤها على مادة أو بضع مواد تستند عليها في كل أعمالها ، أو إن شئت فقل تتخذ منها آلة العيش ، وآلة الدفاع وآلة الغلبة ، وآلة اللهو ، وآلة العبث ، وآلة الترفيه

وهل الانسان - على حد ما يقول كارليل - إلا حيوان يصنع الآلات ؟ فهو بغيرها من أضعف الكائنات حولاً وأقلها خطراً ؛ وهو بها سيد الكون الذي تمنو له الكائنات ، وتسخر لخدمته قوى الطبيعة ، وتذلل أمامه کل الصعاب.

وهل تاريخ التقدم البشرى إلا قصة جهاد الانسان في سبيل درس مواد الأرض ، وتخير أصلحها لصنع آلاته وأطوعها للتشكل على النحو الذي يريد ، وأثبتها الاحتمال ما يكلفها من جهد ؟

وإذا كانت بدايته في هذا السبيل ضعيفة متعثرة، غاية ما ناله فيها من التوفيق انتقاء غصن ملتو يصلح للجذب ، أو حجر مدبب يصلح للثقب ، أو حجر صلب ينفعه في الدق والطرق ، فإن جهوده البطيئة الضنية خلال القرون الطويلة ، لم تلبث أن كالت باستكشاف بعض الفلزات كالنحاس والخارصين والحديد، وباهتدائه إلى النار التي تلين هذه المعادن وتعينه على تشكيلها دخل في أدوار من المدنية أعظم ازدهاراً وأغزر إنتاجاً ، ثم انتهت به جهوده

إلى الفولاذ ، فكان ظهوره إيذاناً بهذا الانقلاب الصناعي العظيم الذى غير الحضارة الحديثة.

وإذا كان المؤرخون قد طاب لهم أن يسموا عـصر الدنية الأول بالعصر الحجرى ، وما تلاء بالعصر البرونزي ، تم بالعصر الحديدي ، فان العصر الحديث الذى يقوم على نحو مليون ونصف مليون من أطنان الفولاذ سنوياً ، خليق أن يسمى بحق عصر الفولاذ .

بل ما أحسب عصراً من العصور اعتمد كل الاعتماد على مادة واحدة من مواد الأرض اعتماد هذا العصر الذي نعيش فيه على الفولاذ .

جرد العالم اليوم من فولاذه تجد هذه الحضارة المزدهرة قد تقلص ظلها وفقدت كل خصائصها.

فكر فيها يستخدم فيه الفولاذ تجده قد مد نفوذه إلى كل دائرة في الحياة ، وبسط سلطانه على كل الأعمال البشرية ؛ ستجده فى المنازل فى صورة السكاكين والمقصات وآلات الخياطة ، وأجهزة الطهى بالكهرباء وآلات السكر وأقران الغاز والأفعال والمفاتيح والأدوات الصحية ؛ وحتى هذه جميعاً إذا استطعت أن تجد منها عوضاً باستخدام غيره من المعادن، فلست واجد منه بديلا في آلات النجارة والبرادة ومئات غيرها من الآلات التي يرتزق بها ذوو الحرف المختلفة.

على أنك إنما تدرك أثر الفولاذ وخطره حين تتخطى دوائر العمل الصغيرة ، وتمتد ببصرك إلى المصانع الكبيرة والمؤسسات الضخمة كالطرق الحديدية والبواخر المائلة التى تمخر عباب المحيط ، والقناطر العظيمة التى تصل شواطئ الأنهار وأمثالها ؛ فما كان لمادة أخرى أن تحتمل ما يحتمله الفولاذ من جهود جسيمة تتطلبها طبيعة تلك الأعمال ، ولا أن تصمد وتقاوم عوامل الانتهاك والابلاء صموده

ومقاومته ؛ وما كان بالامكان ان تصبر مادة صبر الفولاذ على ما تتعرض له بعض الآلات ، كالآلات البخارية ، وآلات ديزل التى تقوم بأشق الأعمال ؛ وما كان لمادة أخرى أن يصنع منها ما يصنع من الفولاذ من الطواحين الدوارة الهائلة ، والمكابس العظيمة ، والمطابع الضخمة ، والآلات التى تقطع وتثقب وتدق أعصى المعادن وأشدها مقاومة.

لقد أحدث الفولاذ في العالم أعظم انقلاب شهده التاريخ، بما أتاح من وسيلة لإنشاء آلات الصناعة بمقاييس هائلة فاقت كل تصور، وبما سهل من ابتكارات متعددة لم تدر يخلد إنسان

كان الحديد معروفاً من عهد بعيد عند إلى أربعة آلاف سنة أو يزيد ، وقد وجدت قطعة منه في أهرام الجيزة، وهذا النموذج محفوظ الآن بالمتحف البريطاني ؛ والمعروف أن المصريين والأشوريين قد أدركوا شيئاً من الحذق فى أشغال الحديد وتابعهم فى ذلك الاغريق

وكان الفولاذ أيضاً معروفاً على صورة ما لدى الأقدمين، إذ من الطبيعي أن يجىء استكشاف الفولاذ تبعاً لعرفة الحديد وصهره وإلانته بالخشب الموقد، فالخشب ليس إلا ضرباً من الفحم، أو بلغة الكيميائيين الكربون ؛ والفولاذ ليس إلا خليطاً من الحديد والكربون بنسبة معينة ، أو بعبارة أصبح : هو خليط من الحديد النقي وكربيد الحديد . فلا بدع أن يصنع الفولاذ باليسر الذي يصنع به الحديد متى كان وقوده الفحم ، لأن الكربون يتحد بالحديد المختزل من خامه ، وبهذا كان من الهين على أذكياء الصناع أن يصلوا أثناء اشتغالهم بالالة الحديد إلى نوع من أنواعه

وقد وصل بعض صناع الشرق من عهد بعيد إلي صنع الفولاذ ، ومهر الهنود خاصة في ذلك ، وصار الفولاذ الهندي مضرب الامثال بجودته ؛ ولعل هذا هو السر في

ان العرب ينعتون السيف بالهند ويمتدح الشعراء سيوفهم بأنها من سيوف الهند .

ولكن الصعوبة في طريقة الأقدمين أن نوع الفولاذ الذي كانت تنتجه لم يكن بالامكان ضمانه ، فقل ان وجد من منتجاتها نموذجان متجانسان ، وما كان للعالم ان يصل إلى ما وصل إليه اليوم ، من تقدم مادي في الصناعة والنقل والبناء ، حتى يهتدي إلي طريقة تكفل إنتاج فولاذ متجانس الصفة وإنتاجه بكميات كبيرة ونفقات بسيرة .

وكان أول الرواد في هذا الباب ( بنيامين هنتسمان » وهو صانع ساعات من أهل دونكاستر بانجلترا ، وكان ما حفزه على الاتجاه  لدراسة صناعة الفولاذ هو رغبته في إيجاد فولاد جيد رخيص بقى محاجاته للقطع اللازمة لصنع ساعاته ؛ وقد وفق هنتسمان بعد عمل طويل شاق بالغ في إخفائه على الكتمان، إلى أن يهتدى سنة ١٧٤٠ إلى إنتاج الفولاذ بطريقة الجفنة ؛ ولم يكن هذا الفولاذ كفيلا بسد حاجاته في صناعة الفولاذ فحسب، بل كان أفضل من فولاذ الهند وأجود منماً . فافتتح مصنعاً لانتاج الفولاذ بطريقته وظل محتفظاً تكتمه

على أن هنتسمان لم يسجل اختراعه ، فاحتال صناع السلاح بشيفيلد على معرفة طريقته ، واستطاعوا بوسائل عدة أن يكشفوا سرها ، فأخذت مصانع شيفيلد تحضره بتلك الطريقة حتى عمر استعمالها

ولم تكن طريقة الجفنة سوى طريقة يقطع بها الحديد ويصهر في جفنة حتى يستحيل بالصهر إلى سائل متجانس يعالج بعد ذلك بالفحم فيكفل إنتاج صلب متجانس .

وتلت ذلك اختراعات شتى كان أهمها ما وفق إليه " هنری بسمر " سنة ١٨٥٠ . فقد وفق الطريقة تنتج الصلب مقادير كبيرة ونفقات زهيدة. ومن العجيب أن يسمر لم يسبق له علم بالفولاذ ، فقد كان يشتغل بسبك الحروف : ولكنه من طراز كان يؤمن بأن العقل المجرد

الذى يدخل أى ميدان من ميادين العمل ، غير متأثر بالاتجاهات السابقة فيه ، يستطيع أن يصل إلى نتيجة أفضل ممن درج على الطرق المعهودة وتأثر بعقليتها. ولقد كان مقصده الأول تحسين نوع الحديد لا إنتاج الفولاذ .

وقد بدأ دراسته بقراءة كل ما كتب عن صناعة الحديد والفولاذ ، وزار شتى المصانع ، ثم أخذ يجرى التجارب ؛ وقد كان نصيبه أولاً الاخفاق ، ولكنه وفق أخيراً لا لانتاج حديد سهل الطرق فقط ، بل لانتاج نوع ممتاز من الفولاذ .

وقد يكون مما يخرج من دائرة القارئ العام أن ندخل به في تفاصيل طريقته ، ولكننا تجمل القول بأنه استطاع إنتاج الفولاذ بطريقة تجاربه بنفخ ذوب الحديد بالهواء من غير استعمال أية مادة إضافية غير ما تتطلبه عملية توليد لفحات الهواء، وعمر الحديد المذاب بعد ذلك في أدوار يضاف فيها الكربون وغيره من الواد بنسب معينة حسب نوع الفولاذ المطلوب ، وتتكرر عملية نفخ الهواء في مراحل شتى من العملية ، ويتكون في دور من أدوار العملية ما يسميه الألمان سبيجلابيرن أو الحديد الوضاء وفى دور آخر يتكون جديد نقى ، وبإضافة الاسبيجلايزن الذائب ( ويتألف من حديد ومنجنيز وكربون) إلى الحديد النقى النائب يتكون ذوب الفولاذ المطلوب

وفى الواقع يتكون هذا الفولاذ من النسب الآتية : ٩٨.٥ في المائة من الحديد، مر في المائة من الكربون ٠.٩ فى المائة من المنغنيز وارد في المائة من السلسيوم و ٠.١ فى المائة من الفينور و ٦ ٠ .٠ فى المائة من الكبريت.

وقد أحدث اختراع يسمر تأثيراً قوياً في صناعة الفولاذ ، ووسع دائرة الأغراض التي يستخدم فيها ، وظل زمناً طويلا العملية الشائعة لإنتاج الفولاذ .

على أن هناك طريقة أخرى وبما كانت أكبر خطراً من طريقة بسمر ، وهي التي يعم استعمالها الآن، وهى طريقة

القرن المكشوف لسيمنز ، وفى هذه الطريقة لا يوضع الحديد المذاب الوارد من فرن النفخ في محولات كما هو الشأن في طريقة بسمر ، وإنا يوضع في فرن يشبه الحمام ، يعرض الحرارة عظيمة ناشئة عن نفحات من غازات ساخنة قابلة للاحتراق وهواء مضغوط ، ثم يخلط الحديد المذاب في القرن المكشوف بقراضة الفولاذ والفحم وغيره من المواد حسب النسب المطلوبة

وتمتاز طريقة سيمنز على طريقة بسمر بأنها أبطأ وأسهل قيادة ، وأن من الممكن امتحان نوع الفولاذ بسحب جزء صغير منه والعملية دائرة

ويستخدم فولاذ سيمنس في صنع الصفائح الفولاذية والمقاطع اللازمة للأعمال الإنشائية ، لأنها يطمأن إلى تجانسها أكثر من سواها. أما فولاذ يسمر فيقصر استعماله على القضبان الفولاذية والمقاطع الثقيلة الدوارة

وتصنع الآن أنواع شتى من الفولاذ كل يلاثم عرضاً خاصاً ، فزيادة قليل من المنغنيز زيد في صلابته ، وزيادة قليل من النيكل تزيد في مرونته ، والكروميوم يهذب جوده ، والسلسيوم يكون معه سبائك تقاوم فعل الأحماض ؛ وفولاذ المنغنيز يكثر طلبه في صنع الخزائن التي تقاوم السرعة ، وفولاذ النيكل في صنع الصفائح المدرعة ، وفولاذ الكروميوم في صنع آلات القطع ، وفولاذ النيكل والكروميوم في صنع أجزاء السيارات ومقذوفات المدافع ..

والفولاذ الذى لا يصدأ الذى يكثر استعماله الآن فى كثير من فروع الصناعة ، والذي كان نعمة كبرى المنازل مما وفر من عناء التنظيف الكثير، تم استكشافه مصادفة

فهذا النوع من الفولاذ اختراع انجليزي، ويحتوى على نحو ١٢ في المائة من الكروميوم، واكتشفه مستره. برولی أثناء قيامه بتجارب لإنتاج فولاذ لأغراض أخرى تختلف عن الأغراض التى يقوم بها هذا الفولاذ .

فقد صنع نموذجا محتويا علي ١٤ في المائة من

الكروميوم ، ولم يسبق له أن جرب إضافة مثل هذه التسمية الكبيرة، وكانت النتيجة غير محققة لغرضه ، ولذلك ألقى بهذا الفولاذ فى زاوية مهملة من زوايا معمله .

وبعد أسبوعين لاحظ أحد مساعديه أن هذا الفولاذ المهمل ظل محتفظاً ببريقه، ولفت إليه نظر المستر بريولى . وقد عملت مباحث دلت على أن هذا الفولاذ بس غير قابل للصدأ فحسب، بل هو كذلك في مناعة من تأثير الأحماض ؛ وتبين عند ذلك أن كشفاً جديداً أضيف إلى المدنية ؛ والآن وصل إنتاج الفولاذ الذي لا يصدأ إلى درجة رفيعة من الكمال وأصبح يستخدم في أمور كثيرة .

اشترك في نشرتنا البريدية