جاء ابتداء ظهور القصة كفن من فنون الأدب فى مصر متأخرا، الى حد أننا نلتمس العذر لمن يدرس الأدب المصرى، اذا هو رجع الى ما أنتجته من قبل (مدرسة الكتاب السوريين) من الآثار ليبحث عما اذا كان هناك فى الأصل علاقة بينها وبين نمو القصة.
وفيما عدا ما يحتمل من أن نجاح القصصيين السوريين قد شجع الكتاب المصريين على انتاج نوع من القصص يلائم شعبهم، ستبقى (القصة المصرية) وهى موضوع هذا المقال، أثناء البحث مستقلة تمام الاستقلال عن تاريخ القصة السورية.
أما المؤثرات الغربية، فقد ظهرت بوضوح فيما ولى ذلك من الأطوار كما أنها استخدمت استخداما مباشرا، ولكن على الرغم من هذا فان (آداب التسلية) فى مصر قد ظلت لمدة طويلة تعتمد على ما خلفه العرب من النماذج الأدبية العالية، والنماذج العرفية التى درج الناس عليها. فلما آن لها أن تتحرر من تبعيتها لتلك النماذج، كان تحررها ببطء وبعد تردد، ومن ثم كان نجاحها فى ذلك الاتجاه فرديا موزعا، ولم يكن نتيجة لحركة تطور مستقيمة.
ونحن فى الواقع اذا أردنا أن نتحدث عن (نمو) القصة فى مصر، فلا بد أن نمد فى معنى هذا اللفظ (القصة) حتى يشمل شعبة واسعة من فنون الكتابة يربطها جميعا رباط الخيال القصصى، وان كان بينها كثير لا يمكننا مطلقا أن نعتبره قصة اذا قصدنا المعنى الحقيقى لهذا اللفظ.
ويعزى تأخر مصر فى هذا الميدان، ميدان القصة، اذا هى قورنت بتركيا والهند -وهما المركزان الأساسيان الآخران للثقافة الاسلامية- الى عدة عوامل أوضحناها فى مقال سابق فى صدد الكلام عن الأسباب الأدبية، والأسباب التعليمية التى كانت عقبة فى سبيل ظهور آداب للتسلية من نوع جديد فى مصر. ونستطيع أن نضيف اليوم الى تلك العوامل أن المصريين وجدوا غنية ومتاعا فيما خلفه العرب من آداب عالية متنوعة، مما لم يكن له مثيل فى كلتا اللغتين التركية والأردية. وهناك بعض عوامل محلية خاصة سنعرض لها فى شيء من التفصيل فى بحثنا هذا، ولكننا نحب أن نشير الآن الى تلك الحقيقة التى تحوى شيئا مما سنعرض له، وهى أن تلك الطبقة المحصورة التى تعلمت تعلما حديثاً فى مصر، كانت تستطيع أن تجد بغيتها فى الأدب الفرنسى والأدب الانجليزى، ومن أجل ذلك انعدمت فى الدوائر الأدبية البواعث التى تشجع على تأليف كتب التسلية بالعربية. فلما مست الحاجة إلى هذا النوع من الكتب، كان المسلك الطبيعى الذى سلكه الأدباء هو اقبالهم على ترجمة القصص الفرنسية والانجليزية، وفضلوا ذلك على أن يقوموا بانتاج أدب قصصى جديد لا يرجون له انتشارا، اذ كان ذلك العمل يتطلب منهم خلق فن جديد من فنون الكتابة.
ولما كانت هذه القصص قد ترجمت ترجمة سقيمة، ولم يراع فى اختيارها حالة مصر الاجتماعية، ولا حالة الثقافة العامة، ولا الذوق الأدبى فى البلاد. فان قبول القراء لها على الرغم من عيوبها ليدل على انه كان هناك شعب يتذوق هذا النوع من الأدب ويقدره حق قدره.
على أن هناك كتابا يصح اعتباره مقياسا للكياسة والمهارة اللتين ينبغي أن يتصف بهما من يريد القيام بترجمة قصة أوربية، بحيث يجعلها تلائم ذوق شعب ثقافته اسلامية كالشعب المصرى،
ذلك الكتاب هو ترجمة عثمان جلال لقصة (بول وفرجينى) فان تلك الترجمة على ما فيها من الاختصار والتصرف فى الجملة ظلت محافظة على الروح الأصلية وعلى ما جاء فى الأصل من المعانى. أضف الى ذلك أن استعمال السجع فى عبارات سهلة. ووضع المؤلف بعض المقطوعات الشعرية محل الأفكار الفلسفية التى وردت فى الأصل، قد أكسب هذه الترجمة مسحة عربية، لم توجد مع الأسف فى معظم ما عاصرها أو جاء بعدها من الكتب المترجمة. ويمكننا أن نستشهد على ذلك بالفقرة الآتية: (وما أنت أيتها الصغيرة فلا عذر لك فى السفر، ولا بد من تسليمك للقضاء والقدر، وأن تطيعي أمر الاقارب وان ظلموا وأن تسلمى لما به حكموا، فان سفرك وان كان لا أحد يرضاه، فهو على ما حكم الله. فلقد أنزل تعالى فى كتابه العظيم، على لسان نبيه الكريم: قل لا أسئلكم عليه أجرا الا المودة فى القربى، وان سفرك ان شاء الله لنعم العقبى، أفتعصين الله ما أمر، أم تسلمين للقدر). وهناك غير هذا الكتاب مئات أخرى بينها عدد ليس بالقليل
مما لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحائها، ولكنها ورثت مما سبقها من "الحواديت" المشهورة ميلا شديدا الى الحركة والمخاطرة فعوض ذلك عليها بعض مساوئها، واننا لنشعر بشئ من اللذة أثناء قراءة الصفحات التى لم نحشر فيها الخرافيات لانها تعد بين القصص الحى.
أما ما تدين به تلك القصة (للقصة التاريخية) فهو طريقة سرد التاريخ فى ثنايا القصة. ولقد تعرضت هذه القصة لشرح عظمة مصر القديمة. وهى جديرة بالاعتبار من هذه الناحية. على أن خطرها الحقيقى انما يرجع الى أنها كتبت بذلك الأسلوب الفخم الذى قلد شوقى زعامة الشعر فى الأدب المصرى. ويعد النثر المسجوع فيها من أفصح ما عرف من هذا النوع ولقد كانت الفقرات تجرى على روى واحد أربع مرات أو خمسا فى غير إملال. وكانت تتخلل هذه الفقرات بعض المقطوعات الشعرية الرائعة للمؤلف. وأن الأنسان ليأسف على انه لم يتح لهذا الأسلوب موضوع آخر ومواد أخرى غير التى استعمل فيها.
بجانب تلك المحاولة التى قام بها شوقى، ظهرت محاولة أخرى بعد ذلك ببضع سنوات كانت أبعد نجاحا وأعظم أثرا وهى التجاء الكتاب الى ذلك الضرب المعروف بالمقامات، وهى تعد فى نظر من يدرسون الأدب العربى فى العصور الوسطى أقرب ضروب الكتابة فى ذلك الوقت الى القصة بمعناها الحقيقى. ولقد ظلت المقامة تستعمل فى شكلها التقليدى حتى أواخر القرن التاسع عشر. وعلى الأخص على يد ناصيف اليازجى وعبد الله باشا فكرى، ولكنها كانت فى يدى هذين الرجلين وغيرهما من كتاب مدرستهما مقصورة على الموضوعات القديمة ولم يكن لها بحياة عصرهم غير ارتباط قليل.
ولكن ظهر بجانب هذه المقامات نوع آخر لجأ اليه الكتاب فيما طرقوه من الموضوعات وعلى الأخص فى النقد الاجتماعى؛ وأقبل عليه عدد من الكتاب المصريين فأخرجوا طائفة من الآثار الادبية؛ كانت أحدى المظاهر الخاصة التى امتاز بها الانتاج الادبى فى السنوات العشر التى سبقت عام ١٩١٤.
ويعد (حديث عيسى ابن هشام) لمحمد ابراهيم المويلحى (1858 - 1930) أقدم وأحسن تلك المجموعة الجديدة، بل أن هذا الكتاب فى تصوراته وطريقته ليكاد يصل الى القصة بمعناها الحقيقى. ولقد لجأ المويلحى أيضا فى ذلك الكتاب الى الخرافيات، لأن الخيط الذى يربط أجزاءه، هو تجارب أحد الباشوات
الذين عاشوا فى عهد محمد على، وقد بعث هذا الباشا من مرقده فهاله ما وجد من الظروف الاجتماعية الغريبة التى لم يألفها فى القاهرة التى استحالت إلى مدينة أوربية. وبهذه الوسيلة تسنى للمؤلف أن ينتقد فى حوار ممتع حالة عصره، وأن يقارن ذلك بالماضى مظهرا ما فى الحاضر من مساوىء، أهمها ولع أهله بتقليد الأوربيين تقليدا مرذولا. على أن هذا الكتاب، كما لاحظ محمود تيمور، ينقصه الخواص الجوهرية للقصة، وأعنى بها الخطة البسط، ولكنه فى تصوير الأشخاص قد نجح الى درجة جديرة بالاعتبار. ولقد أضيف الى الطبعة الأخيرة لهذا الكتاب جزء آخر سمى (بالرحلة الثانية) غيرت فيه المناظر الأولى بمناظر باريس أبان المعرض العظيم عام ٩٠٠، وبذلك تسنى للمؤلف انتقاد مساوئ التشبه بالغربيين، وأوضح معايب المدنية الغربية لدى منابعها. ومما هو جدير بالملاحظة أن الباشا لم يرجع ثانية الى قبره، ذلك إلى مثله فى الكتاب ما يحملنا على الظن بأن المؤلف قد نسى الفكرة التى بدأ بها كتابه.
ولا يعزى نجاح هذا الكتاب وشهرته الى القصة نفسها ولا الى مغزاها بقدر ما يعزى الى براعة الأسلوب والمقدرة على الوصف، فان المؤلف يقلد تقليدا متقنا الخصائص الحسنة التى يمتاز بها أسلوب المقامة مضافا الى ذلك سهولة حديثة وظرف. ويتخلل عباراته المسجوعة حوار فى لغة سهلة حديثة. ولقد يلجأ المؤلف الى اللفظ العامى الاصطلاحى فيستعمله فى غير تردد، وذلك على الرغم من أن الحوار نفسه كان يتطرق كثيرا الى عبارات وصفية مسهبة. وكان السجع مزيجا متقنا من القديم والحديث مما أكسب الأسلوب طرافة ورونقا، وجعل القارئ يستمتع بأثر من الآثار الأدبية الحية جدير بأن ينافس آثار المنفلوطى فى الأسلوب مع تفوقه عليها فى عمق الحس وحسن الترتيب.
وتستطيع أن تضيف الى كتاب المويلحى كتابين آخرين، جرى فيهما صاحباهما على سنة المويلحى فى اختيار طريقة المقامة للكتابة فى النقد الاجتماعى، وان كانا أقل منه لباقة ورقة، أولهما (ليالى سطيح) لمحمد حافظ ابراهيم وهو أقوى منافس لشوقى فى زعامة الشعر العصرى (١٨٧١ - ١٩٣٢) وظهر هذا الكتاب عام ١٩٠٧. وخطة هذا الكتاب بسيطة تتلخص فى أن جماعة من الناس كانوا يشكون فى ليالى متوالية ما يلاقونه من مساوئ الأحوال السائدة فى مصر، فيجيبهم على التوالى صوت خفى مبينا أسباب ما يضجون منه من المساوئ فى نثر مسجوع تتخلله بعض المقطوعات الشعرية، واصفا لهم الدواء. على أن خطة الكتاب تأخذ بعد ذلك فى التغير تدريجا
حتى يصير الجزء الأكبر منه عبارة عن محاورات فى نثر مرسل سهل تضيع فيه المعالم الأصلية للكتاب. ولقد قوبل هذا الكتاب بحماس واقبال فى الدوائر الأدبية المصرية ولكن مما تلذ ملاحظته فى هذا المقام أن أصواتا عالية قد ارتفعت فى ذلك الوقت منددة باستعمال السجع فى مثل هذه المؤلفات
أما ثانى هذين الكتابين فهو (ليالى الروح الحائر) للكاتب السياسى والمؤلف المسرحى محمد لطفى جمعة. ولقد سار المؤلف فى هذا الكتاب على طريقة المقامة بالدقة، دون أن يلجأ الى السجع. ويلاحظ فى كتابه أثر كتاب (المدرسة السورية الامريكية) واضحا خصوصا فى هذا النوع من الأنشاء المعروف باسم الشعر المنثور أو الشعر الحر. أما المتحدث فى هذا الكتاب فهو روح غير مجسمة كما يفهم من اسمه، وأغلب هذا الحديث فى انتقاد الأحوال الاجتماعية فى مصر، ولقد أشار زيدان بحق إلى جمال هذا الكتاب وفصاحة أسلوبه. وفى نظرى أنه فى هذه الناحية أهم منه فى الناحية الأخرى: ناحية التعمق فى الأفكار التى تعرض لشرحها. وقبل أن أترك هذه المجموعة المتشابهة أحب أن أشير هنا الى كتاب آخر عظيم الشبه بها وان امتاز منها فى الروح ثم فى الأسلوب الى حد كبير، ذلك هو مجموعة الفصول التى جمعت تحت عنوان (أين الأنسان) لمؤلفها الشيخ طنطاوى جوهرى. ولقد قدمت هذه الرسالة الى المؤتمر الدولى الذى انعقد فى لندن عام ١٩١١. أما المتكلم فى هذه الرسالة فهى روح سماوية، وأما الحديث فأنه يدور حول التقدم العالمى والأخاء البشرى. ولم يلجأ الكاتب الى استعمال السجع، وهذه الرسالة مفخرة للأدب العربى العصرى، وهى جديرة بأن تكون موضوع دراسة خاصة، ولكنى أكتفى هنا بالأشارة اليها لخروجها عن موضوع بحثى. ويمكننا أن نتبين فى هذه المؤلفات عدة محاولات مجتمعة لايجاد نوع جديد من الأدب، يسد حاجة جمهور قارئ جديد، ويتصل بعض الاتصال بمشاكله ونظراته الى الحياة، بحيث يسهل تناوله، ويثير اهتمامه، ويلائم خياله. على أن أصحابها لم يصادفوا نجاحا فى تلك المحاولات لأنها كانت أقرب الى الأدب العالي منها الى آداب التسلية، فلم يقبل عليها الا عدد صغير من خاصة القراء
وبدل أن يطرقوا موضوعات جديرة طريفة تسرى عن الجمهور
" بقية على صفحة ١٩"
(القصة المصرية - بقية المنشور على صفحة ١٧)
ما يلاقيه من متاعب الحياة نراهم يوجهون اهتمامهم الى هذه المتاعب نفسها فيتناولها بالدرس والتحليل، وأدهى من ذلك أنهم كانوا يسلكون فى كتاباتهم طريقة الوعظ الجافة، أضف الى ذلك أنهم لم يسلموا من تسلط الفكرة القديمة، فكرة العصور الوسطى، التى تنظر الى الأدب كوسيلة من وسائل المباهاة والظهور، سواء فى ذلك ساروا على الطريقة القديمة أو من قاموا بترجمة بعض المؤلفات الغربية كعثمان جلال والمنفلوطى، ولم يخل الكتاب السوريون من التشيع بهذه الفكرة أيضا وحتى كتاب الأقاصيص التافهة التى تركت فى زوايا النسيان الذى استحقته منذ ظهورها، قد قصدوا فى كتاباتهم الى ذلك الغرض الوعظى الخلقى. ويظهر لنا من هذا أن أولئك الكتاب كانوا ينظرون الى القصص التى تكتب للجمهور نظرة ازدراء مما كان له أكبر الأثر فى تأخر نمو القصة كفن من فنون الأدب العربى.

