ولد توماس هاردي عام ١٨٤٠ وتوفى عام ١٩٢٨ أى أنه عاش نيفا وثمانين عاما وهو عمر طويل لم يكن متوقعا أن يكتب لمن فى مثل صحته المعتلة وبنيته الضعيفة وقد تسلم ذروة الأدب الإنجلزي فى الثلاثين عاما الأخيرة من حياته فظل فى هذه الفترة الطويلة العميد الذى لا ينازع للقصاصين والشعراء وتلك منزلة رفيعة لم يحظ بها إلا الأقلون
وقد منح نوط الجدارة تكريما على حسن بلائه فى الأدب وحج إليه الأدباء من كافة أنحاء العالم وزاره ولى عهد انجلترا وقتذاك ليحييه نيابة عن أبيه ولكن هاردى كان فى هدوئه وعزوفه زاهدا فى المجد زاهدا فى الشهرة زاهدا فى الملق والزافى لا عن كراهة للناس أو حقد عليهم بل عن هدوء أصيل فى النفس ودعة فى الطبع ورهف فى الحس
وظل طول حياته تقريبا تقريبا فى منطقته الريفية دوشتر أو وسكس كما أسماها فى كتبه إلى أن وافاه الأجل فكرم بدفن رماد جثته فى وستمنستر ولكن قلبه لا يزال مدفونا فى إحدي كنائس وسكس
ومع هذا الانزواء كان من أفهم الأدباء لطبائع النفوس وما يحركها من عواطف ومطامع وما يحيرها من أمل ويأس وما يتحكم فيها آخر الأمر من صدفة لا تبصر وقدر لا يرحم
وقد اختلف النقاد فى أمر شعره وقصصه فمنهم من يرون شعره أخلد من قصصه ومنهم من يرون عكس هذا
الرأى وكان هاردى نفسه من الأولين حتى لقد هجر كتابة القصص فى أواخر حياته ليختمها بالشعر كما بدأها به ويرى أنصار الرأى الثانى أنه أخلد في القصة منه فى الشعر فهو من أكبر قصاصى العالم فى جميع العصور ولكنه فى الشعر لا يسمو إلى هذه المنزلة ولا يعدو أن يكون من شعراء الصف الأول فى عصره وعندهم أن شهادة هاردى نفسه ليست فصل الخطاب فى هذا الموضوع ولا يصح أن يكون لها أثر خاص فى الميزان لأن الإنسان آخر من يفهم نفسه وكثيرا ما ينخدع عما فى نفسه من نواحى القوة والضعف وطالما أدى الإحساس بالنقص إلى استشعار الكمال
ومهما يكن من حجح أنصار الرأيين فخصومتهما فى رأينا غير ذات موضوع لأن قصص هاردى يمكن أن تعد من أروع الشعر إذا جاز للشعر أن يتحرر من قوالبه التقليدية كما أن شعر هاردى لا يخلو من نكهة قصصية وأروع ما نظم من شعر ملحمة العواهل وهى قصة شعرية أدار حوادثها على نابليون وحروبه وهكذا ترى هاردى قاصا فى شعره شاعرا فى قصصه فلا جدوى لكد الأذهان فى الموازنة والمفاضلة بين ناحيتى عبقريته
ومن جيد شعره عدا ملحمة العواهل قصائد الماضى والحاضر وقصائد وسكس ومن أروع قصصه قس سليلة ديرفيل ١ وفى معزل عن الجمهور الصاخب وعودة المواطن ونافخ البوق ومجموعة من السيدات الفضليات ومن أقاصيصه البارعة مفارقات الحياة الصغيرة ٢
وتتسم قصصه وأقاصيصه بطابع عام يميزها عما عداها ويتمثل فيها مزاجه وطبيعته أصدق تمثيل فسرحها كلها
منطقة دوشستر التى خلدها فى قصصه باسم وسكس تلك المملكة القديمة التى كانت فى جنوب انجلترا الغربى وأشخاصه يعيشون فى الريف كما يعيش هو بعيدا عن ضوضاء الحياة وصخبها تسير فيه نفوسهم على سجيتها فى براءة لم تدنسها المدنية ولم ترهقها زحمة الحياة وتحس فى قلوبهم حبا وعطفا يستثيران ما فى نفس القارىء من حب وعطف
وتكاد تخلو قصصه جميعا من شخص شرير وإذا لزم أن يكون أحد أشخاصه على جانب من الشر انتحل له العذر من ظروفه أو بيئته أو تربيته وألقى مسئولية ما يصيب أشخاصه من سوء على الصدفة السيئة أو حقيقة غامضة فى الطبيعة البشرية أو ما إلى ذلك ولكنه لا يلقيها على إنسان شرير بالمعنى الدقيق ويأخذ عليه بعض النقاد خلو قصصه من وغد ونرى أن هذا إذا كان يصيب قصصه من بعض الوجوه فإنه من جهة أخري يسبغ عليها رواء شعريا ويظهرنا على النفوس ونوازعها والقلوب ودوافعها والعواطف وتفاعلها وهذا هو الشعر فى أسمى معانيه وإن كتب بالنثر وهو وحى الروح الشاعر المرهف الحساس الذى يفهم الحياة ويحب الأحياء بل تتسع عاطفته لغير الأحياء أيضا فقد كان يبكى أسى إذا نزع غصن من شجرة وكأنه رضيع نزع من أمه
وثمة ميزة أخرى تتسم بها قصصه فهى تجمع بين مزايا القصص فى مذهبيه المحكم والمفكك ذلك أن علماء القصص يقسمونه إلى قصص محكم الخطة وقصص مفكك الخطة ويعنون بالأول ما تمد حوادثه وتنسق خطته فى تدبير وإحكام يؤديان إلى نتيجة رسمها الكاتب لقصته ويعنون بالثانى ما لم يرسم له تصميم بل تترك حوادثه وأشخاصه تنساب فى سهولة ويسر لتصل إلى نتيجتها الطبيعية وربما خلا ذهن كاتبه وهو يشرع فى الكتابة
من فكرة واضحة عما يكون سير القصة ونهايتها
وليس من همنا الكلام عن المذهبين وإنما أشرنا إليهما لنلقى ضوءا على ناحية من نواحى عبقرية هاردى القصصية فأعداء القصص المحكم يأخذون عليه عدم استقامة شخصياته لأن الكاتب كثيرا ما يضحى بها فى سبيل إحكام خطته والوصول إلى نتيجته وبذا يعجز هذا النوع من القصص عن أن يخلق شخصيات خالدة تظل حية فى خاطر السنين والأحقاب
ويشذ هاردى عن هذه القاعدة فهو مهندس معمارى هجر مهنته ولكنها لاحقته في الأدب حتى غدا التصميم الهندسي من أبرز سمات قصصه ومع ذلك فقد استطاع أن يخلق شخصيات خالدة فقارئ قصصه وأقاصيصه لا ينسى نس و آنا وهليرو و إلا
وهو قصاص واقع تتسم قصصه بالصدق ولا نعنى بذلك طبعا أنها وقعت بالفعل وإنما نعنى أنها صادقة شعريا ممكنة الحدوث متسقة مع الحياة والطبيعة البشرية
وهو كاتب ساخر ينقد ما تواضع عليه الناس من آراء ونظريات لا بإحلال غيرها محلها بل بوضع حقائق الحياة إلى جانبها تعلق عليها تعليقا صامتا فالحقائق عنده لا تسخر لخدمة النظريات ولا ترضى أن تصمت عن الكلام حتى يؤذن لها به بل هى تقتحم طريقها وترفع صوتها متهكمة على آراء الإنسان ومعتقداته
وهذا التهكم العملى والفهم لسخرية الحياة ميزة اختص الله بها القليل من العباقرة وقراءة هاردى تظهرنا على توفر هذه الميزة فيه وعلى أنه من أعمق المتأملين ومفسرى الحياة لا يقل فى ذلك عن سيرفانت وشكسبير
