الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 418الرجوع إلى "الثقافة"

القصة, عند توماس هاردى, مهداة إلى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد

Share

ولد توماس هاردي عام ١٨٤٠ وتوفى عام ١٩٢٨ أى أنه عاش نيفا وثمانين عاما وهو عمر طويل لم يكن متوقعا أن يكتب لمن فى مثل صحته المعتلة وبنيته الضعيفة وقد تسلم ذروة الأدب الإنجلزي فى الثلاثين عاما الأخيرة من حياته فظل فى هذه الفترة الطويلة العميد الذى لا ينازع للقصاصين والشعراء وتلك منزلة رفيعة لم يحظ بها إلا الأقلون

وقد منح نوط الجدارة تكريما على حسن بلائه فى الأدب وحج إليه الأدباء من كافة أنحاء العالم وزاره ولى عهد انجلترا وقتذاك ليحييه نيابة عن أبيه ولكن هاردى كان فى هدوئه وعزوفه زاهدا فى المجد زاهدا فى الشهرة زاهدا فى الملق والزافى لا عن كراهة للناس أو حقد عليهم بل عن هدوء أصيل فى النفس ودعة فى الطبع ورهف فى الحس

وظل طول حياته تقريبا تقريبا فى منطقته الريفية دوشتر أو وسكس كما أسماها فى كتبه إلى أن وافاه الأجل فكرم بدفن رماد جثته فى وستمنستر ولكن قلبه لا يزال مدفونا فى إحدي كنائس وسكس

ومع هذا الانزواء كان من أفهم الأدباء لطبائع النفوس وما يحركها من عواطف ومطامع وما يحيرها من أمل ويأس وما يتحكم فيها آخر الأمر من صدفة لا تبصر وقدر لا يرحم

وقد اختلف النقاد فى أمر شعره وقصصه فمنهم من يرون شعره أخلد من قصصه ومنهم من يرون عكس هذا

الرأى وكان هاردى نفسه من الأولين حتى لقد هجر كتابة القصص فى أواخر حياته ليختمها بالشعر كما بدأها به ويرى أنصار الرأى الثانى أنه أخلد في القصة منه فى الشعر فهو من أكبر قصاصى العالم فى جميع العصور ولكنه فى الشعر لا يسمو إلى هذه المنزلة ولا يعدو أن يكون من شعراء الصف الأول فى عصره وعندهم أن شهادة هاردى نفسه ليست فصل الخطاب فى هذا الموضوع ولا يصح أن يكون لها أثر خاص فى الميزان لأن الإنسان آخر من يفهم نفسه وكثيرا ما ينخدع عما فى نفسه من نواحى القوة والضعف وطالما أدى الإحساس بالنقص إلى استشعار الكمال

ومهما يكن من حجح أنصار الرأيين فخصومتهما فى رأينا غير ذات موضوع لأن قصص هاردى يمكن أن تعد من أروع الشعر إذا جاز للشعر أن يتحرر من قوالبه التقليدية كما أن شعر هاردى لا يخلو من نكهة قصصية وأروع ما نظم من شعر ملحمة العواهل وهى قصة شعرية أدار حوادثها على نابليون وحروبه وهكذا ترى هاردى قاصا فى شعره شاعرا فى قصصه فلا جدوى لكد الأذهان فى الموازنة والمفاضلة بين ناحيتى عبقريته

ومن جيد شعره عدا ملحمة العواهل قصائد الماضى والحاضر وقصائد وسكس ومن أروع قصصه قس سليلة ديرفيل ١ وفى معزل عن الجمهور الصاخب وعودة المواطن ونافخ البوق ومجموعة من السيدات الفضليات ومن أقاصيصه البارعة مفارقات الحياة الصغيرة ٢

وتتسم قصصه وأقاصيصه بطابع عام يميزها عما عداها ويتمثل فيها مزاجه وطبيعته أصدق تمثيل فسرحها كلها

منطقة دوشستر التى خلدها فى قصصه باسم وسكس تلك المملكة القديمة التى كانت فى جنوب انجلترا الغربى وأشخاصه يعيشون فى الريف كما يعيش هو بعيدا عن ضوضاء الحياة وصخبها تسير فيه نفوسهم على سجيتها فى براءة لم تدنسها المدنية ولم ترهقها زحمة الحياة  وتحس فى قلوبهم حبا وعطفا يستثيران ما فى نفس القارىء من حب وعطف

وتكاد تخلو قصصه جميعا من شخص شرير وإذا لزم أن يكون أحد أشخاصه على جانب من الشر انتحل له العذر من ظروفه أو بيئته أو تربيته وألقى مسئولية ما يصيب أشخاصه من سوء على الصدفة السيئة أو حقيقة غامضة فى الطبيعة البشرية أو ما إلى ذلك ولكنه لا يلقيها على إنسان شرير بالمعنى الدقيق ويأخذ عليه بعض النقاد خلو قصصه من وغد ونرى أن هذا إذا كان يصيب قصصه من بعض الوجوه فإنه من جهة أخري يسبغ عليها رواء شعريا ويظهرنا على النفوس ونوازعها والقلوب ودوافعها والعواطف وتفاعلها وهذا هو الشعر فى أسمى معانيه وإن كتب بالنثر وهو وحى الروح الشاعر المرهف الحساس الذى يفهم الحياة ويحب الأحياء بل تتسع عاطفته لغير الأحياء أيضا فقد كان يبكى أسى إذا نزع غصن من شجرة وكأنه رضيع نزع من أمه

وثمة ميزة أخرى تتسم بها قصصه فهى تجمع بين مزايا القصص فى مذهبيه المحكم والمفكك ذلك أن علماء القصص يقسمونه إلى قصص محكم الخطة وقصص مفكك الخطة ويعنون بالأول ما تمد حوادثه وتنسق خطته فى تدبير وإحكام يؤديان إلى نتيجة رسمها الكاتب لقصته ويعنون بالثانى ما لم يرسم له تصميم بل تترك حوادثه وأشخاصه تنساب فى سهولة ويسر لتصل إلى نتيجتها الطبيعية وربما خلا ذهن كاتبه وهو يشرع فى الكتابة

من فكرة واضحة عما يكون سير القصة ونهايتها

وليس من همنا الكلام عن المذهبين وإنما أشرنا إليهما لنلقى ضوءا على ناحية من نواحى عبقرية هاردى القصصية فأعداء القصص المحكم يأخذون عليه عدم استقامة شخصياته لأن الكاتب كثيرا ما يضحى بها فى سبيل إحكام خطته والوصول إلى نتيجته وبذا يعجز هذا النوع من القصص عن أن يخلق شخصيات خالدة تظل حية فى خاطر السنين والأحقاب

ويشذ هاردى عن هذه القاعدة فهو مهندس معمارى هجر مهنته ولكنها لاحقته في الأدب حتى غدا التصميم الهندسي من أبرز سمات قصصه ومع ذلك فقد استطاع أن يخلق شخصيات خالدة فقارئ قصصه وأقاصيصه لا ينسى نس و آنا وهليرو و إلا

وهو قصاص واقع تتسم قصصه بالصدق ولا نعنى بذلك طبعا أنها وقعت بالفعل وإنما نعنى أنها صادقة شعريا ممكنة الحدوث متسقة مع الحياة والطبيعة البشرية

وهو كاتب ساخر ينقد ما تواضع عليه الناس من آراء ونظريات لا بإحلال غيرها محلها بل بوضع حقائق الحياة إلى جانبها تعلق عليها تعليقا صامتا فالحقائق عنده لا تسخر لخدمة النظريات ولا ترضى أن تصمت عن الكلام حتى يؤذن لها به بل هى تقتحم طريقها وترفع صوتها متهكمة على آراء الإنسان ومعتقداته

وهذا التهكم العملى والفهم لسخرية الحياة ميزة اختص الله بها القليل من العباقرة وقراءة هاردى تظهرنا على توفر هذه الميزة فيه وعلى أنه من أعمق المتأملين ومفسرى الحياة لا يقل فى ذلك عن سيرفانت وشكسبير

اشترك في نشرتنا البريدية