الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 451الرجوع إلى "الثقافة"

القضية المصرية أمام مجلس الأمن، مناقشة أقوال الطرفين

Share

أجلنا فى العدد السابق من هذه المجلة كيف عرض دولة النقراشى باشا شكوى مصر من المملكة البريطانية المتحدة أمام مجلس الأمن ، وما تلاء من رد المستر كادوجان ممثل بريطانيا لدى المجلس ، وكان رده منصبا على عريضة  الدعوى - ثم تلا ذلك فى جلسة أخرى بيان ثان للنقراشى باشا عقب به على أقوال مستر كادوجان، وتعليق المستر كادوجان على بيان النقراشى باشا الأول. وفى جلسة ثالثة تكلم مستر كادوجان ردا على البيان الثانى للنقراشى باشا وتكلم النقراشى باشا تعليقا على أقوال المستر كادوجان فى الجلسة الثانية ، وتبين أن كلا من الطرفين التزم فى دفاعه الخطوط الرئيسية التى رسمها لنفسه فى أول جلسة ، وأن ما جاء به كل منهما من جديد لم يعد أن يكون توضيحا وتفصيلا ومناقشة لما أثير من الموضوعات.

والخطة التي انتهجتها مصر في عرض قضيتها كانت خطة بسيطة غير معقدة . فقد صورت احتلال بريطانيا لأراضيها على أنه إجراء غير شرعى يتنافى مع كونها دولة ذات سيادة مشتركة في هيئة الأمم المتحدة ، ويتنافى مع

ميثاق هذه الهيئة ومع قراراتها السابقة التي تحرم احتلال جيوش أجنبية لأراضى دولة أخرى مشتركة في الهيئة بغير رضاها . وأن من شأن بقاء قوات بريطانيا في مصر تهديد السلام في الشرق الأوسط وتعكير العلاقات بين الدولتين . وتهديد حرية مصر الداخلية ، وإخضاعها لنفوذ بريطانيا . وقد اقتضاها بيان ذلك أن تشرح الظروف التي نشأ فيها الاحتلال البريطاني لمصر منذ خمسة وستين عاما ، والأدوار التي مر بها هذا الاحتلال حتى نهاية الحرب العظمى الأولى ، وكيف قامت بسبب وجوده ثورة داخلية في مصر من سنة ١٩١٨ إلى سنة ١٩٢٢ انتهت باعتراف بريطانيا باستقلال مصر مع تحفظات تحد من هذا الاستقلال.

وكيف دارت المفاوضات بين مصر وبريطانيا بشأن تلك التحفظات ، ولم تصل إلى نتيجة حتى سنة ١٩٣٦ حيث عقدت معاهدة بين الطرفين في ملابسات دولية خطرة قبلتها مصر مرغمة .

وصورت مصر الحالة في السودان تصويرا يوضح كيف تنفرد بريطانيا بحكم هذا الجزء من وادي النيل حكما

إداريا شاذا يحول دون تقدم السودان ، وكيف جرت السياسة البريطانية على توهين الصلات بين مصر والسودان مع حيوية هذا الإقليم لصر .

أما خطة بريطانيا فقد كانت التمسك الحرفى بنصوص معاهدة سنة ١٩٣٦ ، وهى معاهدة تجيز لبريطانيا إبقاء قواتها بمصر إلى حين ، وبقاء النظام الإدارى القائم فى السودان إلى أن يتفق الطرفان على تغييره . وتمسكت بأن معاهدة سنة ١٩٣٦ معاهدة شرعية تبقى نافذة المفعول إلى سنة ١٩٥٦ ، مع جواز تغييرها بعد عشر سنوات من إبرامها إذا رضى الطرفان ذلك بمفاوضات تقوم بينهما وتتوافق فيها إرادة الطرفين . وأن مصر عرضت المفاوضة في الوقت المحدد فقبلتها بريطانيا ، ودارت مفاوضات قطعتها مصر بسبب عدم قبولها أن يكون للسودانيين حرية الاختيار بين الاستقلال والاتحاد مع مصر ولهذا لا يكون هناك محل لعرض الشكوي على المجلس ، وزادت ان المشكلة لا تهدد السلام إلا إذا كانت مصر تنتوى ذلك.

وظاهر أن القضية قد أصبحت موازنة بين مطالب مصر التى تراها حقا طبيعيا لها وهى إجلاء جيوش بريطانيا  عن وادى النيل وانتهاء نظام إدارى شاذ يحكم به السودان، وبين تمسك شكلى من جانب بريطانيا بنصوص معاهدة سنة ١٩٣٦ وهى معاهدة برهن الجانب المصرى على أنها معاهدة استنفدت مهمتها ولم يعد مايبرر بقاءها ، وهى تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة ومع قراراتها، وهى معاهدة أبرمت تحت ضغط ظروف دولية لم يبق لها وجود.

وقد بدت محاولات من الجانب البريطاني لنقل النزاع عن دائرة البحث السياسي إلى الدائرة القانونية ؛ ولكن الجانب المصري فوت عليه ذلك ، بما أوضحه من أن الخلاف في جوهره خلاف سياسي يترتب على تركه بغير حل

عادل نتائج يخشى منها على السلام العالى .

ويبدو عجيبا أن تتمسك بريطانيا بمعاهدة سنة ١٩٣٦ مع أنها سلمت بعدم صلاحيتها وضرورة تغييرها . وقد سلمت أثناء المفاوضات بسحب قواتها من مصر لأن بقاءها ليست له ضرورة ستراتيجية . فاستمساكها ببقاء تلك القوات بعد ذلك لمجرد أن مصر لم تنته معها فى المفاوضات ليس له مبرر ظاهر إلا تهديد مصر وجعل خروج هذه القوات موضع مساومة مع مصر فى أمور أخرى.

أما السودان فأمره أعجب ، فهي تبدى غيرة مصطنعة على حق السودانين في الاختيار بين الانضمام لمصر او الانفصال عنها وتنقل النزاع من أن يكون نزاعا على بقائها بالسودان منفردة بحكمه إلى نزاع وهمي بين مصر والسودان . فلتقرر أولا أنها ستجلو عن السودان ومصر ، ثم لتنتظر ما سيكون بين مصر والسودان بعد ذلك ؟ فإن نشب بيهما خلاف عند ذلك جاز لهيئة الأمم أن تتدخل . أما أن تخلق حالة خلاف لم تقم ، وتتبرع بالغيرة على حرية الشعوب من غير أن يكون لها شأن ، فهو ليس إلا تهربا من الحقيقة الواقعة ، وهي أنها معتدية على السودان ومصر مما ، وانها بعد أن كادت تفقد سيطرتها على قسم تتذرع بأوهي الأسباب للسيطرة على القسم الآخر .

إن بريطانيا لا تزال تنزع للروح الاستعمارية التى تغلغلت في طبائعها ، وهي لا تستطيع أن تواجه التطورات التي تقتضيها روح العصر ، فهي تراوغ وتداور كسبا للوقت . ولكن الزمن سيضطرها رضيت أو كرهت إلى أن تدع الشعوب وشأنها حرة في تصريف أمورها . لقد كشفت بيانات النقراشى باشا بصورة قوية حقيقة الدور الذي لعبته بريطانيا في مصر والسودان . وكيف أخرت تقدمهما زمنا طويلا . ولن يجدى فى دفع هذه البيانات ما ذكره ممثل

بريطانيا من بيانات غير صحيحة خالف بها حقائق التاريخ المعروفة

بقى أن نعرف ما سيكون لهذه المناقشات من أثر في مجلس الأمن . ومع توقعنا ان تكون للعوامل السياسية والمصالح الخاصة لكل دولة هي المحدد لاتجاه أعضاء المجلس ، فإننا نعتقد أننا قد كسبنا إظهار العالم على حقيقة قضيتنا . وأوضحنا الأساليب الاستعمارية البريطانية في صورتها الحقيقية . ونحن واثقون من الظفر بمطالبنا ، اليوم أو غدا . (...)

اشترك في نشرتنا البريدية