قال صاحب القلب السكين : ووقفت المحامية و مكانها بين الحراس تزدحم عليها من كل ناحية , وقد ظهرت للموجودين ظهور الجمال للحب , ونقلتهم ف الزمن إلى مثل الساعة المصورة التى ينتظر فيها الاطفال سماع القصة العجيبة ؛ ساعة فيها كل صور اللذة للقلب
وكانت تدافع بكلامها ووجهها يدافع عن كلامها , فلو نطقت غيًّا أو رشدا فلهذا صواب ولهذا صواب , لأن أحد الصوابين منظور بالأعين
كان صوت النائب العام كلاما يسمع ويفهم أما صوت المحامية الجميلة فكان يسمع ويفهم ويحس ويذاق , تلقيه هي من ناحية ما يدرك , وتتلقاه النفس من ناحية ما يُعشق فهو متصل بحقيقتين من معناه ومعناها , وهو كله حلاوة لانه من فمها الحلو
وبدأت فتناولت من أشيائهامرآة صغيرة فنظرت فيها - النائب العام : ما هذ ايا أستاذة ؟ - المحامية : إنك تزعمون أن هذه الجريمة تأليف عينيَّ , فأنا أسأل عينيَّ قبل أن أتكلم
- النائب : نعم يا سيدتي ؛ ولكنى أرجو ألا تدخلى القضية فى سر المرآة وأخواتها ... إن النيابة يخشى على اتهامها إذا تكحَّلت لغة الدفاع فضحكت المحامية ضحكة كانت أول البلاغة المؤثرة .. - النائب : من الوقار القانونى أن تكون المحامية الفتانة غير فتانة ولا جذابة أمام المحكمة - المحامية : تريد أن تجعلها عجوزا بأمر النيابة ؟... (ضحك )
- النائب : جمال حسناء , فى ظرف غانية , فى شمائل راقصة , فى حماسة عاشقة , فى ذكاء محامية , فى قدرة حب . هدا كثير - المحامية : يا حضرات المستشارين . لم تكن المرآة هفوة من
طبيعة المرأة , ولكنها الكلمة الأولى فى الدفاع . كلمة كان الجواب عنها من النائب العام انه اقر بتأثير الجمال وخطره , حتى لقد خشى على اتهامه إذا تكحلت له لفتى
- القضاة يبتسمون - النائب : لم أزد على أن طلبت الوقار القانونى . الوقار نعم الوقار , فأن المحامية أمام المحكمة , هى متكلم لا متكلمة - المحامية : متكلم بلحية مقدَّرة منع من ظهورها التعدر ....( ضحك )
كلا يا حضرة النائب ؛ إن لهذه القضية قانونا آخر تنتزع منه شواهد وأدلة ؛ قانون سحر المرأة للرجل , فلو اقتضانى الدفاع أن أرقص لرقصت , أو أغنى لغنيت , او أثبت سحر الجمال لأثبته اول شىء فى النائب العام ... - الرئيس : يا أستاذة ؟ - المحامية : لم أجاوز القانون , فالنائب فى جريمتنا هو خصم القضية , وهو أيضا خصم الطبيعة النسوية
- النائب : لو حدث من هذا شىء لكان إيحاء لعواطف المحكمة . فأنا أحتج - المحامية : احتج ما شئت , فى قضايا الحب يكون العدل عدلين , إذ كان الاضطرار قد حكم بقانونه قبل أن تحكم أنت بقانونك - النائب : هذه العقدة ليست عقده فى منديل يا سيدتي : .بل هي عقدة فى القانون
- المحامية : وهذه القضية ليست قضية إخلاء دار يا سيدى , بل هي قضية إخلاء قلب - الرئيس : الموضوع , الموضوع - المحامية : يا حضرات المستشارين . إذا انتفى القصد الجنائي وجبت البراءة . هذا مبدأ لا خلاف عليه فما هو الفعل الوجودى فى جريمة قلبي المسكين ؟ النائب : أوله حب راقصة
- المحامية : آه دائما هذا الوصف . هبوها فى معناها غير جديرة بأن يعرفها لأنه رجل "تقي , أفليست فى حسنها جديرة بأن يحبهالأنه رجل شاعر ؟ احكموا يا حضرات القضاة . هذه واقصة ترتزق وترتفق , ومعنى ذلك أنها رهن بأسبابها ، ومعنى هذا أنها خاضعة للكلمة التي تدفع ... فلماذا لم ينلها وهي
متعرضة له , وكلاهما من صاحبه على النهاية , وفى آخر أوصاف الشوق ؟أليس هذا حقيقا باعجابكم القانونى كما هو جدير باعجاب الدين والعقل ؟ وإن لم يكن هذا الحب شهوة فكر , فما الذى يحول دونها وما يمنعه أن يتزوجها ؟...
القضاة يتبسمون - النائب . نسيت المحامية أنها محامية وانتقلت إلى شخصيتها الواقعة على النهاية وفي آخر أوصاف الشوق . فأرجو أن ترجع إلى الموضوع , موضوع الراقصة - المحامية : آه دائما الراقصة . من هى هذه المسكينة الأسيرة فى أيدي الجوع والحاجة والاضطرار ؟ اليست مجموعة فضائل مقهورة ؟ أليست هى الجائعة التي لا تجد من الفاجرين إلا لحم الميتة ؟نعم إنها زلَّت . إنها سقطت . ولكن بماذا ؟ بالفقر لا غير ؛ فقر الضمير والذمة فى رجل فاسد خدعها وتركها ؛ وفقر العدل والرحمة فى اجتماع فاسد خذلها وأهملها . يا للرحمة لليتيمة من الإهل , وأهلها موجودون ! والمنقطعةِ من الناس , والناسُ حولها !
تقولون : يجب ولا يجب , ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شاءت فتجعل ما لا ينبغى هو الذي ينبغي , وتقلب ما يجب إلى مالا يجب , فاذا ضاع من يضيع فى هذا الاختلاط , قلتم له : شأنك بنفسك ونفضتم أيديكم منه فأضعتموه مرة أخرى . ويحكم يا قوم ! غيروا اتجاه الأسباب فى هذا الاجتماع الفاسد تُخرج لكم مسببات أخرى غير فاسدة تأتى المرأة من أعمال الرجل لا من أعمال نفسها , فهى تابعة وتظهر كأنها متبوعة ؛ وذلك هو ظلم الطبيعة للمسكينة ؛ ومن كونها تظهر كأنها متبوعة , يظلمها الاجتماع ظلما آخر فيأخذها وحدها بالجريمة , ويقال سافلة وساقطة وما جاءت إلا من ساقل وساقط
لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن ؟ أهى تريد القتل والتعذيب والمثلة ؟ كلا فان القتل ممكن بغير هذا وبأشد من هذا . ولكنها الحكمة السامية العجيبة : إن هذا الفاسق هدم بيتا فهو يُرجم بحجارته ما أجلَّك وأسماكِ يا شريعة الطبيعة ؛ كل الأحجار يجب أن تنتقم لحجر دار الأسرة إذا انهدم تستسقطون المسكينة ولو ذكرتم آلامهالوجدتم فى ألسنتكم
كلمات الاصلاح والرحمة لاكلمات الذم والعار . إنها تسعى برذيلتها إلى الرزق فهل معنى هذا إلا أنها تسعى إلى الرزق بأقوى قوتها . نعم إن ذلك معنى الفجور ولكن أليس هو نفسه معنى القوت أيها الناس ؟
الرئيس وهو يمسح عينيه الموضوع الموضوع - المحامية : ما هو الفعل الوجودى فى جريمة قلى المسكين ؟ ما هو الواقع من جريمة يضرب صاحبها المثل بنفسه للشباب فى تسامي غريزته عن معناها إلى اطهر وأجمل من معناها ؟ لبئس القانون إن كان القانون يعاقب على أمر قد صار إلى عمل دينيِّ " من أعمال الفضيلة
النائب : ألا يخجل من شعوره بأنه يجب راقصة ؟ - المحامية وم يخجل ؟ أمن جمال شعوره أم من فن شعوره ؟ ايخجل من عظمة فى سمو فى كمال ؟ ايخجل البطل من اعمال الحرب و هى نفسها أعمال النصر والمجد ؟ أتأذنون ياحضرات المستشارين أن أصف لكم جمال صاحبته وأن أظهر شيئا من سر فنها الذى هو سر البيان فى فنه ؟
- النائب : إنها تتماجن علينا يا حضرات المستشارين , فالذى يحاكم على السكر لا يدخل المحكمة ومعه الزجاجة .. - الرئيس : لاحاجة إلى هذا النوع من ترجمة الكلام إلى أعمال يا حضرة الأستاذة - المحامية : كثيرا ما تكون الألفاظ مترجمة خطأ بنيات المتكلمين بها أو المصغين إليها ؛ فكلمة الحب مثلا قد تنتهى إلى فكر من الأفكار حاملة معنى الفجور , وهي بعينها تبلغ إلى فكر آخر حاملة إلى سموه من سموها . وعلى نحو من هذايختلف معنى كلمة الحجاب عند الشرقيين والأوروبيين ؛ فالأصل فى مدنية هؤلاء إباحة المعاني الخفيفة من العفة ... و إكرام المرأة إكرام مغازلة .. يقولون إن رقم الواحد غير رقم العشرة فيضعونه فى حياة المرأة ، فما أسرع ما يجىء " الصفر " فاذا هو العشرة بعينها ...
أما الشرقيون فالأصل فى مدنيتهم التزام العفة وإقرار المرآة فى حقيقتها . لا جرم كان الحجاب هنا وهناك بالمعنيين المتناقضين : الاستبداد والعدل , والقوة والرحمة , و . - النائب : وامرأة البيت وامرأة الشارع .. المحامية : وبصر القانون وعمى القانون ..
- الرئيس وحسن الأدب وسوء الأدب ..٠٠٠ الموضوع الموضوع - المحامية :لا والذى شرفكم بشرف الحكم يا حضرات المستشارين . ما يرى القلب المسكين فى حبيبته إلا تعبير الجمال . فهو يفهمها فهم التعبير ككل موضوعات الفن . وما بينه وبينها إلا أن حقيقة الجمال تعرفت إليه فيها . أئن أحس الشاعر سرا من أسرار الطبيعة , فى منظر من مناظرها قلتم أجرم وأثم :
هذا قلب ذو أفكار , وسبيله ان يعان على ما يتحقق به من هذا الفن . قد تقولون : إن فى الطبيعة جمالا غير جمال المرأة فليأخذ من الطبيعة وليعط منها . ولكن ما الذى يحيى الطبيعة إلا أخذها من القلب ؟ وما هى طريقة أخذها من القلب إلا بالحب ؟وقد تقولون : إنه يتألم ويتعذب , ولكن سلوه . أهو يتألم بإدراكه الألم فى الحب ؛ أو بإدراكه قسوة الحقيقة , وأسرار التعقيد فى الخير والشر ؟
إن شعراء القلوب لا يكونون دائما إلا فى أحد الطرفين : هم أ كبر من الهم , وفرح أكثر من الفرح . فاذا عشقوا تجاوزوا موضع الوسط الذي لا يكون الحب المعتدل إلا فيه ؛ ومن هذا فليس لهم آلام معتدلة ولا أفراح معتدلة
هذا قلب مختار من القدرة الموحية اليه , فالتي يحبها لا تكون إلا مختارة من هذه القدرة اختيار ملك الوحي . وهما بهذا قوتان فى يد الجمال لأبداع أثر عظيم ملء , قدرتين كلتاهما عظيمة
فأن قلتم إن حب هذا القلب جريمة على نفسه , قالت الحقيقة الفنية : بل امتناع هذه الجريمة جريمة إن خمسين وخمسين تأتى منهما مائة ؛ فهذا بديهى , ولكنه ليس أبين ولا أظهر ولا أوضح من قولنا : إن هذا العاشق وهذه المعشوقة يأتى منهما فن
قال صاحب القلب المسكين : وانصرف القضاة الى غرفتهم ليتداولوا الراي فيما يحكمون به , وأومأت لى المحامية الجميلة تدعوني إليها ، فنهضت أقوم فإذا أنا جالس وقد انتبهت من النوم ؛
( طنطا )

