تأمل دراثينه دل كني صفاني بتدريج حاصل كني
مكربوئي أزعشق مستث كند طلبكار عهد ألستت كند
سعدي
تأمل في مرآة القلب تحصل على الكمال بالتدريج) (لعل رائحة من العشق تسكرك وتجعلك من طالبى عهد ألمت
يرتكر التصوف الإسلامي على أن في الإنسان شيئا سوى البدن المادى، له ما هيته وملكاته الخاصة ووسائله المعرفة بدون توسط ، وعلى القول بوجود إله هو موضوع الإيمان العقلي ومنتهي شوق الروح ومحبة القلب ويوجود عوالم أخري غير العالم المشاهد . وإذا كان القول بوجود الروح والإيمان بوجود الله مما تقضي ضرورة العقل العلمي الفلسفي ، وإن كان هذا العقل قاصرا عن إدراك الماهيات ، فإن أداة المعرفة المباشرة سواء أكانت معرفة
الإنسان لنفسه أم معرفته له وللأمور الإلهية والعوالم الاخري ، هي عند الصوفية ليست الحس ولا هي العقل ،العلمي الفلسفي ، بل هي الروح إذا صفت من كدر المادة فتحررت بذلك من وسائل المعرفة الحسية العادية ووصلت إلي حالة الإدراك الذاتي . هذه الروح هي عند الغزالي النفس وهي العقل وهي القلب ، وهذه كلها أسماء تشبه أن تكون عنده اصطلاحات مساعدة تشير إلى مسمى واحد هو المبدأ الروحي الأعلى في الإنسان أو هي بمثابة رمز جبري لشئ غير معلوم ؟ إلا أن الغزالي يؤثر استعمال اللفظ الأخير ، لفظ القلب ، فيعبر به عن هذا العضو الميتافيزيقي في الإنسان ، وهو الذي يعتبره ماهية الإنسان على الحقيقة ويري أن به شرفه الذي يرفعه فوق كثير من .أصناف الكائنات
أراد الغزالي أن يجعل الإيمان والمعرفة شيئا داخليا في النفس وأن يقيم بناءهما في القلب ، وهو في ذلك يخالف
من يجعل الإيمان مسألة قانون شرعي أو إيمانا بنصوص أو مسألة مجموعة عقائد يصل إليها الإنسان بالأستدلال العقلي ؛ فهو لا يريد أن يتلقي الإيمان من الخارج فقط في صورة نص عقيدة أو أصول مذهب ، بل يريد أن يكتشفه في داخل نفسه ويجعله موضوع تجربة داخلية وشيئا يصل إليه الإنسان بمجهوده الخاص إلي حدما . فالغزالي ليس موضوعي للنزعة في الدين ، بل هو ذاتها . ومقياس العقيدة الحقة عنده ليس محصورا فيما يتلقاه الإنسان من نظريات دينية ولا في انتمائه لدين قومي يؤخذ عن الأباء أو المعلمين أو مؤسسى المذاهب الاعتقادية أخذا عماده الثقة بهم ، لأن مثل هذا الإيمان مهما كان قويا فهو لا يزال سطحيا مزعزعا ؛ لأنه لا ينفذ في الروح ، بل ترجع صلابته إلي عدم اتساع قلب صاحبه لغير ذلك . وهذا هو شأن إيمان الجماهير ، وهو أيضا شأن إيمان علماء التوحيد أو غيرهم من أهل النظر والاستدلال ؛ فإن إيمان هؤلاء ، وإن كان أقوي استنادا إلي العقل فهو قريب من درجة إيمان العامة ، ولا يخلو من مخالطة وتهويش وفساد ، بسبب أن بعض مقدمات الاستدلال فيه غير مبرهن عليها ؛ وهو على كل حال موضوعي " آت من الخارج ، ولا يعني كثيرا عند الغزالي" ،الذي لا يعتبر الإيمان الحقيقي ، أعني إيمان العارفين خضوعا ولا اتباعا للخير ، بل تجربة روحية ، وذوقا من الباطن ومشاهدة بنور اليقين ، أعني معرفة مباشرة لا يمكن .معها الغلط أبدا
هذه النزعة عند حجة الإسلام دعته إلى تأسيس علم جديد ، هو علم الباطن أو علم القلب وأسراره ، باعتباره مصدرا للمعرفة الدينية وغير الدينية . ويستند الغزالي في مذهبه إلى حديث أن كل مولود يولد على دين الفطرة وأنه بعد ذلك يتخذ دين أبويه ، وإلى القول بأن للانسان صبة إلهية . وهو يري اختلاف الديانات "الموضوعية " وغفلة الإنسان عن طبيعته الحقيقية ، وعن الدين " الذاتي" الذي
له بفطرته ، فيحاول أن يعرف دين الفطرة من جهة ، وأن يشعر الإنسان بصبغته الربانية من جهة اخري ؛ وعلى هذا لا تكون مهمة علوم الدين وضع الديابات القومية في صيغ اعتقادية أو في صورة مذاهب ثابتة ، بل يجب أن يكون همها كشف عضو التدين والإيمان الأصيل وتعهده والعناية به
ويجري الغزالي علي ما في القرآن والحديث من ذكر القلب على أنه أداة للفهم والنظر ، فيري أن القلب ليس هو الضفة المودعة في الصدر ، بل الشخص الداخلي الذي يفكر ويعلم ويفقه ويتسع لمعرفة اللانهائي ، كما في حديث من سأل النبي عليه السلام : أين الله ، أهو في السماء أو في الأرض ؟ فأجاب إنه في قلوب عباده المؤمنين ؛ فالقلب عند الغزالي هو تلك " اللطيفة الربانية الروحانية " التى تتعلق بالبدن تعلقا يجبر الألباب ، والتي لا يمكن تعريفها ولا إدراك حقيقتها بالعقل العلمي ، لأنها من عالم آخر . هذا القلب هو مقر الإيمان والتدين ؛ وهو الوسيلة لإدراك الأمور الإلهية ولمعرفة الدين الحق ؛ وهو الذي يعرف الله ويسعى إليه ؛ وهو الطبع العابد على الحقيقة ، وإنما يتجلي علي الجوارح بعض أنواره فقط ؟ هو الذي يقترب من الله أو يبتعد عنه ؛ ،هو مظهر فيض الرحمة الإلهية المبذولة بحكم الجود والكرم والتي ليست مضنونا بها ، لكنها إنما تظهر في القلوب الصافية المتعرضة لنفحات رحمة الله . هذا هو شأن القلب في المعرفة ، ومن طلب معرفة أمور الربوبية بالعقل النظري الجدلي فهو كمن يريد أن يري بالأذن أو يسمع بالعين
فالوظيفة الأساسية للقلب هي المعرفة ، معرفة الله وكل الحقائق في كافة العلوم ؛ وكل قلب فهو بحكم جوهره قادر ، على أداء وظيفته الطبيعية هذه ، دون حاجة إلى توسط الحس لأنه حامل أمانة المعرفة والتوحيد ، وهو بالنسبة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالنسبة إلى صور الأشياء المتلونة ، فإن لم يقم بوظيفته كان المانع له من ذلك شيئا من جنس ما يحول
دون ظهور الأشياء في المرآة . وذلك قد يكون عدم النضج ، فقلب الصبي مثلا لم يتهيأ بعد للمعرفة ؛ وقد يكون كدرا في مرآته بما تراكم عليها من الخبائث ،والشهوات ، أو عدولا منه عن جهة الحقائق المطلوبة كحال من يشتغل بتفاصيل الطاعات ولا يصرف فكره إلى تأمل الحقائق الإلهية الخفية ؛ وقد يكون اعتقادا سابقا تقليديا احتل القلب فحال بينه وبين إدراك ما عداه ، على نحو ما يكون عند المتعصبين للآراء الجامدين عليها ؛ وقد .يكون أخيرا ناشئا عن الجهل بالطريق الموصل إلى المطلوب ولما كان لا يخلو قلب من أحد هذه العيوب التي تحجب عنه أسرار الملكوت فإن مهمة علوم الدين تتلخص في إرشاد الإنسان إلى طبيعة قلبه وصفائه ، وإلى أنه أمر رباني ،شأنه الكمال العلمي والخلقي وميله الطبيعى إلي الأمور العليا وأنه لا يميل إلى غير ذلك أو يقصر عن تحقيق ما وجد له إلا لمرض أو مانع لابد من إزالته ، كما تتلخص في تبصيره بما نشأ للقلب من اتصاله بالمادة من قيود وشوائب وبكيفية تهذيب قوي النفس حتى تخضع كلها لسياسة المبدأ .الروحانى الأعلى
وإذا كان في الإنسان صفات كالسبعية الناشئة من كونه تحت سلطان الغضب ، أو البهيمية التي مصدرها كونه تحت سلطان الشهوة ، او الشيطانية التي تتلخص في انه ،يستعمل العقل في استنباط الحيل لقضاء الشهوات الدنيا فان هذه الصفات كلها عارضة ، وهي مثابة شوائب تخالط صفته الحقيقية وهي الصفة الربانية . تتجلى هذه الصفة في ،مجموعة خصال عليا هي للانسان دون ما تحته من الكائنات وهي تؤدي به إلى السعي وراءا رغبات جليلة هو وحده الذي يعرفها ويسعى إليها ولا يمكن أن تكون مشتقة من طبيعته المادية ؛ فالإنسان يريد الإحاطة بكل ما يصل إليه العلم وأن يستولي على كل شئ بقوة هذا العلم ، كما أنه يعجب بكل صور الكمال والجمال ، ويطمح إلى ما لا يدركه الحس
،ولا الخيال ؟ وهو يحب الاستعلاء والتخصص والحرية ،ويقدر على التضحية والحب والرحمة والإحسان والعفو وقد ينفق كل قواه طول حياته في طلب ما لا يعود على كيانه ،المادي بنفع ؛ وهذه صفات ربانية ، وهو مكلف بتحقيقها فلابد أن تكون بينه وبين الذات الإلهية مناسبة ما ، وإلا لما كان تحقيق هذا التكليف ممكنا . ولما كان كل كائن ينحصر مصيره وغايته في تنمية استعداداته الخاصة ، وجب أن تكون غاية الإنسان هي التشبه بالله والاقتراب منه اقترابا حقيقيا من الناحية المعنوية ، ولا يتأتي هذا له إذا بقي مقيدا بالبدن وشهواته ، فلا بد من كسرها جميعا وإخضاعها حتى تستقر في القلب الصفات الربانية من العلم والاستيلاء على الأشياء بقوة البصيرة ونحو ذلك ، وتنتشر عليه من ضبط الشهوات ، وردها إلى الاعتدال صفات شريفة كالعفة والهدوء والصبر والحلم . فلابد للانسان من تعهد قلبه ، هذا القلب الذي خلق ليتبوأ عرش الخلود ، والذي يندفع بشوق لا يهدأ نحو شئ عظيم خالد لانهاية له ؛ لكن القلب لما كان مقيدا بأغلال البدن وكان البدن مستقرا في ،المادة متمسكا بالفانيات التي بها يتغذي وينمو فإن الإنسان يقف بين البدن والقلب أمام قرار خطير وكفاح عظيم : هو يطمح إلي كل كمال ، ويشرئب إلي .الحرية ، ولكن المادة تجذبه وتريد إبقاءه في العبودية ولما كان أكثر الخلق ليسوا أبطالا في ميدان الجهاد فإن مصيرهم العبودية للشهوات على أنواعها ؛ ولذلك يطالبنا الغزالي باتخاذ القرار الحاسم الخطير ، وهو الزهد في الدنيا .لتحرير القلب وإبلاغه إلي الملك الخالد الذي يصبو إليه
إن قلب الإنسان سجين في بدنه ، ولا تزال تنصب عليه سهام من كل جانب ؛ فهو هدف لما تأتى به الحواس الظاهرة والباطنة ، ولما تثيره جنود الشهوات . هذا إلى انه تدور حوله معركة بين قوي الخير وقوي الشر ، بين الملائكة والشياطين ، وهو وسط هذه المعركة لا يهدأ ، بل
لا يزال منها أشد تقلبا من القدر في غليانها ، فلا يزال يرتفع إلي أعلي عليين ، ثم ينحط إلي أسفل سافلين ؛ ولا سبيل إلي نجاته إلا بسد كل أبواب الشهوات ، وكل كلمة تدخل منها جنود الشرور . وعند ذلك يتحرر القلب وتنجلي مرآته ، فيستطيع القيام بوظيفته التي هي المعرفة والتقوي . وهو إن تعهده الانسان على طريق أهل الاستدلال والتفكير العلمي والفلسفي كان هو العقل النظري عند الفلاسفة وأهل النظر من المتكلمين ؛ وهو يصل إلي المعارف بالتعلم والاستدلال ؛ أما إن تعهده على طريقة أهل التصوف ، أعني بالزهد والرياضة والذكر والتفكر فهو القلب كما يتصوره الصوفية ، وهو في هذه الحال يتصل بالعالم الإلهي اتصالا مباشرا ، ويحاذي ،بمرآته الصافية حقائق الموجودات في صورتها الأصلية فتنعكس فيه على ما هي عليه . ولكن طريق الصوفية طويل شاق وغير مضمون النتيجة ، فقد لا يتحمل الانسان مشاق المجاهدة ، وربما فسد مزاجه واختلط ، أو تشبت القلب مخيال فاسد يقف عنده ، خصوصا عند من لم يقدم للتصوف بتهذيب النفس ورباضتها بحقائق العلوم ؛ ونظرا لهذه الصعوبات اختار الأكثرون طريق التعلم ، لأنه أوثق وأسهل
ويعبر الغزالي عن ذلك بقوله : إن للقلب بابين أحدهما مفتوح نحو عالم الحس والشاهدة ، والثاني مفتوح نحو عالم الملكوت ؟ فأما العلماء فهم يحصلون معارفهم من الطريق الأول ، أى من طريق الحواس الظاهرة والباطنة ؟ وأما الصوفية فهم يكتسبون معارفهم من الطريق الثاني ؛ فالقلب يتصوره الغزالي يشبه حوض ماء تجلب إليه المياه من مجار كثيرة فوق سطح الأرض ، ولكن لو حفرنا أسفل الحوض وتعمقنا وصلنا إلى معين الماء الصافي ، وهو يكون أنقي وأغزر من الماء المجتلب من الخارج . وهذا هو حال القلب والعلم . ويشبه الغزالي العلماء والصوفية بحال أهل الروم
وأهل الصين الذين تنافسوا في النقش ، فأما أهل الروم فانهم جاءوا بأصباغهم وآلاتهم وأفرغوا كل مقدرتهم الفنية في عمل لوحة ، وأما أهل الصين فانهم أقبلوا يصقلون جانبهم حتى جعلوه كالمرآة الصافية ، فلما رفع الحجاب تلآلات عجائب الفن الرومي في مرآة أهل الصين مع زيادة إشراق وبرق . وهكذا شأن القلب بالنسبة للمعارف ، فان درجة .المعرفة تتوقف على درجة صفاء القلب
ولكن هل من المؤكد أن يبلغ الإنسان هذه الدرجة من النقاء ومن العلم إذا سلك طريق التصوف ؟ ليس هنا أي ضمان ، فإن كثيرا من القلوب لا تزال رغم الاجتهاد المخلص بعيدة عن السكينة مملوءة بالتعلق بالدنيا محبوسة ،في خيالات فاسدة ؛ فأمواج القلب وخيوطه في يد أخرى .والمرجع الأخير إلى فضل الله وتوفيقه
هذا ما يتصوره الغزالي في أمر القلب ؛ فهو يريد أن يستنبط العلم من القلب ، ولكن أي العلوم يريد ؟ هو لا يريد علوم الدنيا لأن هذه العلوم وسائلها معروفة ، بل يريد تحصيل علوم الربوبية وأسرار العالم الذي وراء الحس ، وهو يلجأ إلي وسيلة من جنس مطلوبه ليدخل إلي المطلوب من بابه تاركا وراءه من لا يريد إدراك الحقائق إلا بالحس الغليظ .أو ما يشبه الحس الغليظ
لقد كانت الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الإسلام وتاريخ الدنيا . وفي مجري حياة كل بطل نقطة تحول يندفع عندها نحو غايته ؛ وأي قضية أعظم عند الإنسان من قضية روحه وقلبه ؟ لقد حول الغزالي مجري العلم الديني من اتجاهه نحو الخارج ، ووجهه نحو الداخل ، نحو القلب وأسراره ، وفتح للقلب باب العالم الإلهي الذي لا نهاية له ؛ .فكان له عند أصحاب القلوب مجده الخالد
