الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 453الرجوع إلى "الثقافة"

الكبش الجريح

Share

وثب الذئب على الكبش فمزق منه وانتهش ؛ وفرح الذئب لأن فى طبيعته أن ينهش ويمزق ؛ كذلك فرح الكبش ، ولم أكن أعلم أن فى طبيعته ما يستطيب النهش والتمزيق .

فرح الذئب حين مزق وانتهش ، لأن له فى ذلك طعاما وشرابا فغذاه ونماه ؛ إن من يلوم الذئب لافتراسه الكبش كان كمن يلوم النار لأنها تلتهم الهشيم ، والسيل لأنه يتدفق هدارا من قمة الجبل .

لقد قيل إن الدليل على وجود الله أقوى الدليل هو ما تراه فى الكون من تنسيق جميل ؛ قلت : وهذا التنسيق ما معناه ؟ قيل : معناه الذي ليس له معنى سواء هو ما بين الأشياء من توافق كأنها فيه على اتفاق ؛ فضوء الشمس له طبيعة خاصة ، وشبكية العين لها طبيعة خاصة ، أعدت بحيث تتلقى ذلك الضوء ؛ ولو تغير ضوء الشمس قيد أنملة

أو تغيرت شبكية العين قيد شعرة ، لكان ضوء الشمس لنا عبثا فى عبث ، ولكانت أعين الانسان والحيوان ضربا من الاسراف والتبذير ؛ و كذلك قل فى الذئب والكبش ؛ فلولا طراوة الكبش لكانت أنياب الذئب ومخالبه زوائد لاتقتضيها الحكمة ولا يرتضيها حسن التدبير ؛ فمن كمال الله وجلاله أن للذئب أنيابا تنهش الكبش ومخالب تمزقه وتفريه .

قال الانسان : إنى موجود لأنى افكر ؛ فكان بقوله هذا فيلسوفاً . وقال الذئب : إنى موجود لأنى آكل وأفترس . فأثبت أن الفلسفة ليست وقفاً على الانسان . قلت للذئب : هلا سموت بنفسك فأشفقت على هذا المسكين ؟ فقال الذئب ساخرا : هكذا يسمو الناس ، لكن ما هكذا تسمو الذئاب . ومن الذئاب ما يسكن البيوت مع الناس ، ومنها ما يسكن الغاب .

ليس على الذئب في ذلك كله لوم ولا تثريب . إنما يقع القوم والتثريب على صاحبنا " الخروف " الذي

استمرأ ضرب المخالب واستلذ وقع الأنياب ؛ دماؤه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة ، ويلغ الذئب فيه ويلعق وفى عينيه نظرة استسلام ورضى .

عبثا ينبري بقلمه كاتب ليدفع الأذى عن هذا الخروف ، وعبثا يرتقى المنبر في سبيله خطيب ، لأن عدوان الذئب يصادف في نفسه القبول ؛ فليعدل الخروف من طبيعته أولا ، وبعد ذلك فليكتب الكتاب ليدفعوا عنه العدوان وليخطب الخطباء .

يضحكني آناً ويحزنني آناً أن أرى أنصار الكرامة الانسانية يتصدون للذئب قائلين : أهكذا يا ذئب يكون الإخاء وتكون المساواة بين عباد الله ؟ ولو أنصفوا لاتجهوا نحو الخروف وحقنوه بما يشيع فى عضله الصلابة وفى لحمه المرارة ، ليخاطب الذئب في ثقة وإيمان كلما خطر للذئب خاطر العدوان ؛ التمس يا ذئب غيرى إن لحمى كان مرا .

قلت للخروف ؛ هلا أخذتك النخوة يوما فغضبت غضبة الكرام التى لا تقف عند حد اللغو والكلام ؟ هلا أخذتك النخوة يوما فأبيت على الذئب هذا العدوان ؟

قال : كيف عرفتني خروفا وقد تخفيت في ثياب الرجال؟

قلت: عرفتك في مائة موضع وموضع ، أسوق لك منها مثلين.

عرفتك حين اردت ان تخاطب سيدك الذئب يوما فضغطت على القرطاس بحافر وأمسكت القلم بحافر ، وهززت قرنيك تفكر كيف توجه إلى الذئب الخطاب ، بحيث تباعد بينك وبينه ، كأنه السليم وكأنك الأجرب ، وكأنك تخشى عليه المرض إن دنوت منه ؛ أردت فى الخطاب أن تجعل بينكما من الكلمات عددا يضمن له الرفعة ولا يفسد عليك الضمة التي استمرأت مذاقها ؛ إنك تعلم أن قوانين الغابة تجعل منكما زميلين من ذوات الأربع ،

فلو خاطبته بقولك " إلى الذئب " لما كان عليك لوم ولاعتاب ؛ لكنك استكبرته واستصغرت نفسك ، أعززته وأذللت نفسك ، عظمته وحقرت نفسك ، لأن الصغار والذلة والحقارة أصبحت جزءا من طبعك ، ولا تطمئن إلا بها ولا تجد نفسك إلا بينها ؛ عرفتك خروفاً حين رأيتك يوم أخذت تحرر الخطاب لسيدك الذئب ، وتهز قرنيك مفكرا كيف توجه إليه الخطاب ، بحيث ترضي كبرياءه وتشبع في نفسك ذل العبيد ، فكتبت أول ما كتبت "إلى حضرة الذئب" ، لكنك رأيت المسافة بينكما تكون بمثل هذا الخطاب أقصر مما ينبغى ، فلا يكفى أن تتجه بالخطاب إلى "الحضرة" مباشرة - و "الحضرة " معناها فيما أظن مكان الذئب لو خلا من الذئب - فلم تحتمل أن تواجه بخيالك مكان الذئب ، حتى وإن خلا منه ، مواجهة مباشرة لا تحميك دونها الموانع والحواجز ؛ فمحوت وكتبت : "سيدى حضرة الذئب" ؛ لكنك وجدت مرة ثانية أن الشقة بينكما لم تزل أقصر مما ينبغى ، فهززت قرنيك ومحوت ثم كتبت : "سيدى ومولاى حضرة الذئب" ؛ لكنك وجدت مرة ثالثة أن المسافة لم تزل بعد قصيرة ، وأنها ينبغى أن تطول بقدر المستطاع ، فمحوت وكتبت : "سيدى ومولاى حضرة صاحب المجد الذئب" ؛ لكنك للمرة الرابعة لم ترض عما كتبت وطاف برأسك خاطر أزعجك وخوفك ، إذ قلت لنفسك : إن الذئاب في الغاب كثيرة ، فكيف أسوى بين سيدى هذا وبين زملائه ؟ لابد لى من علامة تعلو بذئبى فوق الذئاب ، ليزداد ضخامة فأزداد ضآلة ، فمحوت وكتبت "سيدى ومولاى حضرة صاحب المجد ذئب الذئاب وملك الغاب" ؛ وهنا افتزت شفتاك عن ابتسامة رأيت فيها الغبطة والرضا .

وعرفتك خروفا حين رأيتك ذات يوم وقد ارتديت

بدلة من الحرير الأبيض الناصع ، وأخذ يرفرف على صدرك العريض رباط ملون بالأحمر والأبيض يخطف البصر بجمال ألوانه ؛ فتلت شاربيك ، وغطيت بالطربوش قرنيك ، وضربت الأرض بحافريك ؛ ثم إلى المقهى الفاخر أويت ، وعلى مائدة فى صدر الصفوف استويت ، وصفقت تصفيقاً ارتجت له الجدران .

- واحد قهوة يا متولي .

ليس من طبيعة لغتك أن تقول "واحد قهوة" ؛  ولو تركت لنفسك لقلت "قهوة يامتولي" ، فإن أردت تحديدا عدديا قلت " قهوة واحدة يا متولي " ؛ إنك لا تقول لخادمك فى البيت - وأنا الآن أفترض فيك ما افترضته فى نفسك وهو أنك رجل لا خروف ، رجل له بيت وخادم - لا تقول لخادمك فى البيت " واحد طبق يا حسن " بل تقول " طبق يا حسن " وإن أردت تحديدا عدديا قلت "طبق واحد يا حسن " .

لكن " متولي " جاءك سيدا غازيا ، وظن بك أول الأمر خيرا ، فحاول أن يخاطبك بلسانك ، ولكنه أخطأ فى تركيب الكلام وترتيب الكلمات ، فانفتحت أمامك بخطئه طرق ثلاثة ، وكان لك أن تختار منها لنفسك طريقا: الأول أن تعلو بنفسك وتسفل به ، وذلك بأن تصححه حين يخطئ . فتضع نفسك فى موضع الذين يعلمون ، وتضعه فى موضع الذين لا يعلمون ، وبالطبع هؤلاء وأولئك لايستوون .

والثانى أن تعلو بنفسك دون أن تسفل به ، وذلك بأن تنطق بلغتك سليمة ، وله أن ينطق بها كيف شاء.

والثالث أن تسفل بنفسك وتعلو به ، وذلك بألا تبين له أنه أخطأ حرصا على شعوره وإبقاء على عزة نفسه ، لأن الخطأ - على أى نحو جاء - نقص وعيب ، فتخطىء أنت فى كلامك ليبرأ هو من العيب والنقص.

ولأمر ما ياخروف اخترت لنفسك هذا الطريق الثالث. قل فى ذلك ما شئت يا خروف ؛ قل إنها وداعة الحملان ؛ أو قل إنه التواضع ، وإن فى التواضع عند الله رفعة الشأن ؛ أو قل إنه كرم النفس ، وليس الكرم بغريب على بنى القطعان.

قل فى ذلك ما شئت يا خروف ، لكنه عندى علامة لا تخطىء على ما فى نفسك من ذل العبيد ، الذي يستمرىء ضرب المخالب ، وبستلذ وقع الأنياب .

ذكى نجيب محمود

اشترك في نشرتنا البريدية