الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 668الرجوع إلى "الثقافة"

الكلاب بين الحرب والاقتصاد

Share

(هناك على بعد من حدودنا استطاع أناس من البشر أن يستفيدوا من كل شئ مهما بدا حقيرا . . حتى الكلاب عرفوا كيف يفيدون منها في الحرب والاقتصاد إدارة عملية موفقة . وهذه الكلاب عندنا لا تعدو أن تكون مجرد مادة للشاعر إذا شعر لبشبه بها في الإخلاص والوفاء .. ونحن ها لم نستطع أن نفيد من شئ مهما بدا ثمينا معطولا . . فأين هنا من هناك ! )

قد يكون عجبا أن اكتب عن الكلاب في دائرة الاقتصاد ، وقد يتساءل البعض : ما هي الصلة بين هذه الحيوانات وبين علم كعلم الاقتصاد يدير اليوم هذا العالم كله إدارة السيطرة والتوجيه ؟ أهو السهو الذي يدعوني إلي ذلك أم الشرود الذي يأخذني إليه . .

وأؤكد أن المسألة ليس بها سهو ولا شرود ، وإنما هي حقيقة علميه وعملية برغم أن منا من لا يسلم بالتفكير فيها ، تلك الحقيقة هي أن " الاقتصاد " ما هو إلا علم يبحث فيما يبحث كيفية الاستفادة من أى شئ تافه يوجد بين أيدينا في هذه الحياة ؛ فقد تبدو قشور الفاكهة الملقاة في " القمامة " لعابر سبيل شيئا مهملا لا يسترعي انتباها ولا يستوجب أقل اهتمام ، ولكن الاقتصاد لا يمر عليها مر الكرام ، بل يجمعها ويقيم من أجلها معامل ومصانع وشركات ، تخرج منها صناعة ضرورية تفيد المنتجين وتفيد المستهلكين على حد سواء ، فضلا عن إفادتها المجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء وأولئك من الفئات ، وكذلك قد تبدو نفايات القصب والفول وغيرها وغيرها أشياء لا تطالبنا بعمل إيجابي لها سوى إهمالها وإلقائها في دائرة المهملات . ولكن الاقتصاد لا يدعها تدخل هذه الدائرة ، بل يخرج منها أشياء ما كان مجتمع في غنى عنها لأنها من الضروريات . . حتى رأينا أخيرا أنهم في ألمانيا قد صنعوا من الرمال خيوطا . .

هذا وقت العلم ، فإذا ما قامت الحرب ، فليس منا أحد يجهل ما يستوجبه قيامها أو حتى التفكير في قيامها من اهتمام بالموارد والثروات القومية واستغلال كل الكنوز الاقتصادية ، والاستفادة من كل شئ مهما كان تافها . والبحث عن كل ما يمكن أن يكون ذا أثر في الحرب مهما كان ضئيلا محدودا ،

وهنا تظهر براعة علم الاقتصاد السياسي ليعمل علي تحقيق أهداف الحرب من نصر وظفر ما وسعه الجهد وما تهيأت له الظروف . .

وقد فهم الغرب هذه الحقائق وآمن بها ، فجند كل جنوده واستنهض كل ثرواته ، حتى لم يكلفه تجنيد الأشخاص الطبيعيين كما تواتر على ذلك العرف الدولي من قديم الزمان ، بل جند كذلك الحيوانات واستغل الملائم منها . وخصها بالأساتذة والمختصين ، وفتح لها المدارس والمنشآت ، وأنفق عليها المال ومنحها مزيدا من عنايته ؛ فلا عجب إذا أن نال بعد ذلك ما هدف إليه من رقي وظفر هو حقيقى بهما جدير بكليهما . . .

تلك القدمة رأيت أن أقدم بها لهذا المقال . حتى أزيل اللبس وأحد العجب الذي قد يبديه البعض للخلط بين الكلاب والاقتصاد والجمع بين الحرب والكلاب . .

تمتاز الكلاب بمزايا خاصة أدت إلى إمكان الاستفادة منها وقت الحرب ، فضلا عن الاستفادة منها وقت السلم ، فمن المعروف أنه في أوقات السلم تقوم الكلاب بمهمة الحراسة في المنازل والحقول ليلا ، بمالها من قدرة وفراسة وذكاء .

وتقوم كذلك بمهمة هامة في التعرف على المجرمين ، بما لها من حاسة شم نافذة قوية تتبع بها الآثار . ومنها كلاب نالت كثيرا من الشهرة في القيام بهذه المهمة . .

ومن الصفات المعروفة في الكلاب صفة الوفاء ؛ وذلك ما يجمل أصحاب المزارع والحدائق والدور يعتنون بها العناية الكافية ، فتقوم بواجب الحراسة أتم أداء ، والمفهوم أن اللصوص يخشون أول ما يخشون كلاب الحراسة في الليل ، ويعملون جهدهم لتحاشيهم .

وقد استخدمت الكلاب كذلك في جمع التبرعات للأغراض الإنسانية ، فيربط في أعناقها صناديق التبرعات ، وتعري بها في الأماكن المختلفة من بيوت ونواد وقطارات . ومن بلد لآخر ، حتى تجمع النقود وتصرف في أوجه البر التي تسعى إليها الجمعيات الخيرية . .

وقد تبين أن صفة الوفاء هذه أيضا كان لها أطيب الأثر في الحرب ، مضافا إليها صفة الطاعة العمياء ، فقد دربت

الكلاب المختارة على أساليب الفدائية ، وخصص لكل كلب سيد يرافقه ويقوم بخدمته والعناية به وإرشاده وتثقيفه وتوجيه . والطريق الذي يتبعه السيد مع كلبه هو طريق " الإشارة " فبمجرد أن يشير السيد لكلبه إشارة من الإشارات التي مرنه على فهمها ، يقوم الكلب بمضمونها خير قيام ، وعلى هذا استطاعت الكلاب المدربة على تلك الأساليب الفدائية أن تقوم بالهجوم المضاد على أي شخص مواجه غير أسيادها .

وفضلا عن ذلك دربت الكلاب على الحراسة وقت الحرب فاستطاعت أن تقوم بحراسة المنشآت والمباني الحربية ، فضلا عن حراستها للسواحل .

ولم تقتصر مهمة الكلاب وقت الحرب على مهمة الحراسة والهجوم طبقا للأساليب الفدائية ، بل كان منها فرق الكشافة ، وفرق الصليب الأحمر ، وفرق المراسلات ، وفرق المركبات الجليدية . ومهمة كلاب الكشافة معرفة مكان العدو ومكامن جنوده المختفين بما لها من قدرة عجيبة على الشم والتتبع الدقيق . وكلاب الصليب الأحمر تقوم بالبحث عن الجرحي المتناثرين هنا وهناك في الميدان وترشد الفرق الطبية إليهم لقلهم إلى حيث تضمد جروحهم ؛ حتى إن من هذا النوع كلابا تستطيع التمييز بين جرحي بلادها وجرحي العدو ، فلا تهتم إلا بالأولين . وكلاب المراسلات تقوم بنقل الرسائل والخرائط من مكان إلى آخر ، أما كلاب المركبات فهي التي تجر الأسلحة والذخيرة والمؤن في الأرض والمسالك أو المناطق الجليدية التي لا يستطيع الجنود أن يجتازوا بها . وثمة كلاب تقوم بحمل الأطعمة والمؤن من أماكن خطرة ، لا يستطيع الجندي أن يقوم بها إلا وتعرض حياته للخطر .

وان تدرب هذه الكلاب حيثما اتفق ، بل إن ثمة إخصائيين فنيين يفحصون الكلب تلو الكلب ؛ ليقفوا على ما يليق به من عمل ، وليقدموا له نوع الخدمة الذي يكون أكثر لياقة لها ، والذي يكون أشد صلاحية للقيام بها .

وبلاقى المدربون كثيرا من العنت في تدريب الكلاب وقت الحرب ، إذ من مهمتهم ان يدربوها على اعتياد الأصوات التي تحدث وقت القتال كأصوات القذائف والقنابل والمفرقعات ، فيضطرون إلى إطلاق مجموعة كبيرة فارغة منها

على مقربة منها لتعتاد أصواتها ، كما يشترط في هؤلاء المدربين أن يكونوا على قدر وافر من الذكاء والصبر والدقة والأناة .

وفي الحرب العالمية الماضية اهتم البريطانيون بتدريب الكلاب وإعدادها للقيام بالأعمال الهامة في الحرب أبلغ اهتمام ، وأقاموا ثكنة خاصة بالكلاب الحربية في Walking - وهي تبعد بعض الشئ عن لندن - وعهدت إلي اللفتنت كولونيل ( ١ . ه ) . ريتشاردسون - وهو خير إخصائي - يدربها ، فاستطاع أن يدرب آلافا منها . استخدمت في الميدان الغربي وسواء من الميادين .

واستطاع الكولونيل ريتشاردسون أن يتبين أن لدى الكلاب غريزة موروثة في اعتيادها على الكماكمات ، فأخذ يجرب تدريبها على القناعات الواقية اعتمادا على هذه الغريزة . وقد تبين أن فصيلة ( إرديل ) من الكلاب أصلح الفصائل للتدريب الحربي ، بيد أنها بالرغم من ذلك تتطلب كثيرا من الصبر والحزم ، كما تحتاج إلى دراسة ومتابعة دقيقة واهتمام بالتمشى مع نفسياتها التى تتطلب مزيدأ من الخبرة .

وقد توصل المختصون إلى تدريب الكلاب على حمل السلال التي تحوي الحمام الزاجل بقصد توصيله إلى أماكن معينة ، يستطيع منها أن يطير قاصدا أبراجه ، وفي كل الأعباء التي تلقى على الكلاب في الحرب ، تستطيع هذه الكلاب بما وهبت من فراسة وذكاء أن تخترق كثيرا من الصعاب وأن تعرض لكثير من الإصابات التي لابد منها ، ومهمة الطب البيطري بعد ذلك هو تضميد جراحها والأهتمام بأمرها ؛ وإذا ما قدر لأحد الكلاب الحربية المدربة أن يقتل في أثناء قيامه بعمله ، فلا تدرك إذا مبلغ التأثر الذي يعتري مدريه وسيده الذي يقوم بأمره وتوجيهه ، ولا تدرك مبلغ الاهتمام الذي تبديه السلطات الحربية بهذا الاستشهاد في ميدان الحرب ، فتقوم على الفور بتعزية السيد المدرب تعزية رقيقة تزيل ما بنفسه من ألم وحسرة .

وقد أمكن أخيرا أن تدرب الكلاب على حمل أجهزة الرادار ، فقد جاء في جريدة الأهرام ( ١٩٥١/٤/٣ ) أنه قد " تخرج من إحدى مدارس التدريب الامريكية في المانيا الغربية ٢٧ كلبا بعد أن تم تدريبها على حمل أجهزة الرادار ، والتجول في مناطق معينة ، بحيث يمكنها الاقتراب من أماكن العدو ، والتسلل خلال حواجز الأسلاك الشائكة ثم العودة إلى فرقتها " .

اشترك في نشرتنا البريدية