(هناك على بعد من حدودنا استطاع أناس من البشر أن يستفيدوا من كل شئ مهما بدا حقيرا . . حتى الكلاب عرفوا كيف يفيدون منها في الحرب والاقتصاد إدارة عملية موفقة . وهذه الكلاب عندنا لا تعدو أن تكون مجرد مادة للشاعر إذا شعر لبشبه بها في الإخلاص والوفاء .. ونحن ها لم نستطع أن نفيد من شئ مهما بدا ثمينا معطولا . . فأين هنا من هناك ! )
قد يكون عجبا أن اكتب عن الكلاب في دائرة الاقتصاد ، وقد يتساءل البعض : ما هي الصلة بين هذه الحيوانات وبين علم كعلم الاقتصاد يدير اليوم هذا العالم كله إدارة السيطرة والتوجيه ؟ أهو السهو الذي يدعوني إلي ذلك أم الشرود الذي يأخذني إليه . .
وأؤكد أن المسألة ليس بها سهو ولا شرود ، وإنما هي حقيقة علميه وعملية برغم أن منا من لا يسلم بالتفكير فيها ، تلك الحقيقة هي أن " الاقتصاد " ما هو إلا علم يبحث فيما يبحث كيفية الاستفادة من أى شئ تافه يوجد بين أيدينا في هذه الحياة ؛ فقد تبدو قشور الفاكهة الملقاة في " القمامة " لعابر سبيل شيئا مهملا لا يسترعي انتباها ولا يستوجب أقل اهتمام ، ولكن الاقتصاد لا يمر عليها مر الكرام ، بل يجمعها ويقيم من أجلها معامل ومصانع وشركات ، تخرج منها صناعة ضرورية تفيد المنتجين وتفيد المستهلكين على حد سواء ، فضلا عن إفادتها المجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء وأولئك من الفئات ، وكذلك قد تبدو نفايات القصب والفول وغيرها وغيرها أشياء لا تطالبنا بعمل إيجابي لها سوى إهمالها وإلقائها في دائرة المهملات . ولكن الاقتصاد لا يدعها تدخل هذه الدائرة ، بل يخرج منها أشياء ما كان مجتمع في غنى عنها لأنها من الضروريات . . حتى رأينا أخيرا أنهم في ألمانيا قد صنعوا من الرمال خيوطا . .
هذا وقت العلم ، فإذا ما قامت الحرب ، فليس منا أحد يجهل ما يستوجبه قيامها أو حتى التفكير في قيامها من اهتمام بالموارد والثروات القومية واستغلال كل الكنوز الاقتصادية ، والاستفادة من كل شئ مهما كان تافها . والبحث عن كل ما يمكن أن يكون ذا أثر في الحرب مهما كان ضئيلا محدودا ،
وهنا تظهر براعة علم الاقتصاد السياسي ليعمل علي تحقيق أهداف الحرب من نصر وظفر ما وسعه الجهد وما تهيأت له الظروف . .
وقد فهم الغرب هذه الحقائق وآمن بها ، فجند كل جنوده واستنهض كل ثرواته ، حتى لم يكلفه تجنيد الأشخاص الطبيعيين كما تواتر على ذلك العرف الدولي من قديم الزمان ، بل جند كذلك الحيوانات واستغل الملائم منها . وخصها بالأساتذة والمختصين ، وفتح لها المدارس والمنشآت ، وأنفق عليها المال ومنحها مزيدا من عنايته ؛ فلا عجب إذا أن نال بعد ذلك ما هدف إليه من رقي وظفر هو حقيقى بهما جدير بكليهما . . .
تلك القدمة رأيت أن أقدم بها لهذا المقال . حتى أزيل اللبس وأحد العجب الذي قد يبديه البعض للخلط بين الكلاب والاقتصاد والجمع بين الحرب والكلاب . .
تمتاز الكلاب بمزايا خاصة أدت إلى إمكان الاستفادة منها وقت الحرب ، فضلا عن الاستفادة منها وقت السلم ، فمن المعروف أنه في أوقات السلم تقوم الكلاب بمهمة الحراسة في المنازل والحقول ليلا ، بمالها من قدرة وفراسة وذكاء .
وتقوم كذلك بمهمة هامة في التعرف على المجرمين ، بما لها من حاسة شم نافذة قوية تتبع بها الآثار . ومنها كلاب نالت كثيرا من الشهرة في القيام بهذه المهمة . .
ومن الصفات المعروفة في الكلاب صفة الوفاء ؛ وذلك ما يجمل أصحاب المزارع والحدائق والدور يعتنون بها العناية الكافية ، فتقوم بواجب الحراسة أتم أداء ، والمفهوم أن اللصوص يخشون أول ما يخشون كلاب الحراسة في الليل ، ويعملون جهدهم لتحاشيهم .
وقد استخدمت الكلاب كذلك في جمع التبرعات للأغراض الإنسانية ، فيربط في أعناقها صناديق التبرعات ، وتعري بها في الأماكن المختلفة من بيوت ونواد وقطارات . ومن بلد لآخر ، حتى تجمع النقود وتصرف في أوجه البر التي تسعى إليها الجمعيات الخيرية . .
وقد تبين أن صفة الوفاء هذه أيضا كان لها أطيب الأثر في الحرب ، مضافا إليها صفة الطاعة العمياء ، فقد دربت
الكلاب المختارة على أساليب الفدائية ، وخصص لكل كلب سيد يرافقه ويقوم بخدمته والعناية به وإرشاده وتثقيفه وتوجيه . والطريق الذي يتبعه السيد مع كلبه هو طريق " الإشارة " فبمجرد أن يشير السيد لكلبه إشارة من الإشارات التي مرنه على فهمها ، يقوم الكلب بمضمونها خير قيام ، وعلى هذا استطاعت الكلاب المدربة على تلك الأساليب الفدائية أن تقوم بالهجوم المضاد على أي شخص مواجه غير أسيادها .
وفضلا عن ذلك دربت الكلاب على الحراسة وقت الحرب فاستطاعت أن تقوم بحراسة المنشآت والمباني الحربية ، فضلا عن حراستها للسواحل .
ولم تقتصر مهمة الكلاب وقت الحرب على مهمة الحراسة والهجوم طبقا للأساليب الفدائية ، بل كان منها فرق الكشافة ، وفرق الصليب الأحمر ، وفرق المراسلات ، وفرق المركبات الجليدية . ومهمة كلاب الكشافة معرفة مكان العدو ومكامن جنوده المختفين بما لها من قدرة عجيبة على الشم والتتبع الدقيق . وكلاب الصليب الأحمر تقوم بالبحث عن الجرحي المتناثرين هنا وهناك في الميدان وترشد الفرق الطبية إليهم لقلهم إلى حيث تضمد جروحهم ؛ حتى إن من هذا النوع كلابا تستطيع التمييز بين جرحي بلادها وجرحي العدو ، فلا تهتم إلا بالأولين . وكلاب المراسلات تقوم بنقل الرسائل والخرائط من مكان إلى آخر ، أما كلاب المركبات فهي التي تجر الأسلحة والذخيرة والمؤن في الأرض والمسالك أو المناطق الجليدية التي لا يستطيع الجنود أن يجتازوا بها . وثمة كلاب تقوم بحمل الأطعمة والمؤن من أماكن خطرة ، لا يستطيع الجندي أن يقوم بها إلا وتعرض حياته للخطر .
وان تدرب هذه الكلاب حيثما اتفق ، بل إن ثمة إخصائيين فنيين يفحصون الكلب تلو الكلب ؛ ليقفوا على ما يليق به من عمل ، وليقدموا له نوع الخدمة الذي يكون أكثر لياقة لها ، والذي يكون أشد صلاحية للقيام بها .
وبلاقى المدربون كثيرا من العنت في تدريب الكلاب وقت الحرب ، إذ من مهمتهم ان يدربوها على اعتياد الأصوات التي تحدث وقت القتال كأصوات القذائف والقنابل والمفرقعات ، فيضطرون إلى إطلاق مجموعة كبيرة فارغة منها
على مقربة منها لتعتاد أصواتها ، كما يشترط في هؤلاء المدربين أن يكونوا على قدر وافر من الذكاء والصبر والدقة والأناة .
وفي الحرب العالمية الماضية اهتم البريطانيون بتدريب الكلاب وإعدادها للقيام بالأعمال الهامة في الحرب أبلغ اهتمام ، وأقاموا ثكنة خاصة بالكلاب الحربية في Walking - وهي تبعد بعض الشئ عن لندن - وعهدت إلي اللفتنت كولونيل ( ١ . ه ) . ريتشاردسون - وهو خير إخصائي - يدربها ، فاستطاع أن يدرب آلافا منها . استخدمت في الميدان الغربي وسواء من الميادين .
واستطاع الكولونيل ريتشاردسون أن يتبين أن لدى الكلاب غريزة موروثة في اعتيادها على الكماكمات ، فأخذ يجرب تدريبها على القناعات الواقية اعتمادا على هذه الغريزة . وقد تبين أن فصيلة ( إرديل ) من الكلاب أصلح الفصائل للتدريب الحربي ، بيد أنها بالرغم من ذلك تتطلب كثيرا من الصبر والحزم ، كما تحتاج إلى دراسة ومتابعة دقيقة واهتمام بالتمشى مع نفسياتها التى تتطلب مزيدأ من الخبرة .
وقد توصل المختصون إلى تدريب الكلاب على حمل السلال التي تحوي الحمام الزاجل بقصد توصيله إلى أماكن معينة ، يستطيع منها أن يطير قاصدا أبراجه ، وفي كل الأعباء التي تلقى على الكلاب في الحرب ، تستطيع هذه الكلاب بما وهبت من فراسة وذكاء أن تخترق كثيرا من الصعاب وأن تعرض لكثير من الإصابات التي لابد منها ، ومهمة الطب البيطري بعد ذلك هو تضميد جراحها والأهتمام بأمرها ؛ وإذا ما قدر لأحد الكلاب الحربية المدربة أن يقتل في أثناء قيامه بعمله ، فلا تدرك إذا مبلغ التأثر الذي يعتري مدريه وسيده الذي يقوم بأمره وتوجيهه ، ولا تدرك مبلغ الاهتمام الذي تبديه السلطات الحربية بهذا الاستشهاد في ميدان الحرب ، فتقوم على الفور بتعزية السيد المدرب تعزية رقيقة تزيل ما بنفسه من ألم وحسرة .
وقد أمكن أخيرا أن تدرب الكلاب على حمل أجهزة الرادار ، فقد جاء في جريدة الأهرام ( ١٩٥١/٤/٣ ) أنه قد " تخرج من إحدى مدارس التدريب الامريكية في المانيا الغربية ٢٧ كلبا بعد أن تم تدريبها على حمل أجهزة الرادار ، والتجول في مناطق معينة ، بحيث يمكنها الاقتراب من أماكن العدو ، والتسلل خلال حواجز الأسلاك الشائكة ثم العودة إلى فرقتها " .
