تجتاز اللغة العربية فى عصرنا الحالى مرحلة من مراحل تطورها يكون لها أثر واضح فى مستقبلها فاللغة التيىكان عرب البادية يتكلمونها بسليقتهم فيصفون بها حياتهم ويعبرون بها عن مشاعرهم فى صحرائهم وبين إبلهم وآرامهم والتى صارت بعد ذلك لغة الكتاب والفلاسفة فى عصور المدنية الاسلامية؛ يتناولون بها سائر المعانى الأدبية والفلسفية . تلك اللغة قد كتب عليها أن يصيبها الخمول فتبقى مئات السنين بعيدة عن مجهودات البشر الأدبية والفلسفية والعلمية ثم هانحن نراها اليوم وقد بعثت من مرقدها فى ثوب جديد فصارت لغة الكتابة والتأليف لغة الخطابة والتعليم فى عصر انتشرت فيه مدنية جديدة وعمته حضارة متحدثة ؛ تختلف فى مظهرها الخارجى وفى المحمل العقلى المرتبط بها اختلافا بينا عن حضارات القرون الوسطى . فاللغة العربية تبعث اليوم كما بعث الفتية بعد أن ضرب على آذانهم فى الكهف سنين عددا تجد نفسها فى عالم جديد موحش لا تأنس اليه ولا يأنس اليها وهو لعمرى موقف نادر تقفه لغتنا لعله فريد فى بابه. لذلك كان لزاما على الأدباء والمفكرين من أهل اللغة العربية فى عصرنا الحالى أن يحوطرها بعنايتهم وأن يهيئوا لها أسباب الحياة الطيبة فى بيئتها الجديدة حتى تتكيف بالبيئة وتجنح اليها كما تتوتر لها البيئة وتحتويها فاللغة كالكائن الحى فى تفاعل مستمر مع البيئة التى تحيط به فأما تتلاءما فاشتد الكائن وتكاثر ونما واما تنافرا فاضمحل وتضاءل وهلك.
واذا نحن قارنا اليئة الفكرية الحديثة بما كانت عليه فى أيام ازدهار الحضارة العربية فلعل أول ما يسترعى نظرنا من الفوارق تغلب الروح العلمية على تفكيرنا الحديث. فالمدنية الحالية كما يدل عليه تاريخها مدنية علمية، مدنية كشف واختراع، مدنية استنباط وتحليل، ولذاكان مظهرها الخارجى خاصا بالآلات والعدد تكتنف الناظر ايها عن اليمين وعن الشمال. فلا عجب ان تشعر لغة العيس والسهام بوحشة بين الطيارات والمدافع الرشاشة ومما لا شك فيه ان التقدم الذى حدث بمصر وفى سائر البلاد العربية فى العصر الحالى قد كان من شأنه العمل على المقاربة بين اللغة العربية الحديثة وبين
بيئتها. فمن ناحية قد تطورت اللغة بأن دخلت عليها كلمات وعبارات مستحدثة نشأت الحاجة اليها كما تغيرت معانى الألفاظ ومدلولات التراكيب بما يتفق والتفكير الحديث، وهجرت الألفاظ الغربية علينا أو التى لا لزوم لها، فنشأ عن ذلك تهذيب فى اللغة قربها الى عقولنا وساعد على حسن استخدامها. ومن ناحية أخرى بانتشار التعليم بين طبقات الامة وبزيادة تبحر متعلميها فى مختلف العلوم والفنون قد انتشرت الألفاظ والتراكيب العربية وشاع استعمالها فى طول البلاد وعرضها كما تكونت طوائف من العلماء والمفكرين بيننا يكتبون ويخطبون ويؤلفون فى سائر العلوم والفنون فنشأت ثروة من الأدب العلمى والأدب الفنى الحديثين يصح أن تتخذ مرجعا لعلماء اللغة فى دراستهم للغة العربية الحديثة. الا أننا مع ذلك لا نستطيع أن نزعم أن الثقة بين اللغة وبيئتها قد تلاشت تماما. فلا تزال هناك مدلولات عديدة لم تتسع اللغة للتعبير عنها بحيث يشعر المتعلم منا بنقص فى لغته عندما يحاول الكلام فى كثير من المواضيع العلمية والفنية. كما أنه من ناحية أخرى يوجد نقص كبير فى عدد المتعلمين الذين يحسنون الكتابة أو الخطابة بلغة متفق على صحتها.
وبعبارة أخرى كل ما يمكن أن يقال ان اللغة العربية الحديثة لا تزال فى دور التكوين.
لو اتيح لنا ان ننظر الى مستقبل اللغة العربية فترى ماذا نجد؟ هل نجد لغة واحدة يكتبها ويتكلمها المتعلمون من أهل مصر وأهل العراق وأهل الشام وغيرهم من الأمم العربية بفروق ضئيلة؛ لا تزيد على الفروق بين لغة أهل استراليا ولغة أهل انجلترا. وهل تكون هذه اللغة قريبة من اللغة العربية التى أكتبها الآن قرب لغة الانجليزى المتعلم الآن من لغة شكسبير؟ أم هل نجد لغات مختلفة لغة ىي مصر وأخرى فى العراق وأخرى فى لبنان، مثلها كمثل اللغة الالمانية واللغة السويدية واللغة الهولندية فى تقاربها وتباعدها، كل لغة متأقلمة بلهجة أهلها ولا صلة بين ايها وبين لغة هذا المقال الا كالصلة بين اللغة الألمانية واللغة اللاتينية. وبعبارة أخرى هل ستحيا اللغة العربية وتنتشر أو ستموت وتندثر وتحل محلها لغات أخرى! أن مآل اللغة العربية فى مستقبلها متوقف علينا نحن اليوم. فاللغة كما قدمت فى دور التكوين ولذا ففى يدنا قتلها وفى يدنا احياؤها. أما قتلها فيكون بالجمود بها عن تطورها الطبيعي كما يكون بعدم التعاون بين الأمم المختلفة من أهلها على توحيدها والمحافظة على وحدتها. وأما احياؤها فيكون بالتبصر والحكمة وحسن الرعاية والتمشى بها فى السبيل الطبيعي لرقيها كلغة حية واحدة
ومن حسن الحظ ان لدينا اليوم من الوسائل ما نستطيع به المحافظة على لغتنا فى مصر وفى سائر البلاد العربية، فانتشار المطبوعات وسهولة الانتقال من بلد الى أخرى والاذاعة اللاسلكية كل هذه عوامل قوية على توحيد اللغة وتعميمها اذا نحن أحسنا استخدامها وتنظيمها
ولست أتعرض فى هذا المقال للغة الأدبية بل أترك ذلك لأدبائنا وكتابنا وانما أريد أن أشير الى بعض الصعوبات التى تصادف لغتنا اليوم كأداة للتعبير العلمى. فمن جهة لا تزال كمية التأليف العلمى فى مصر وفى الأقطار العربية ضئيلة بحيث لا يمكن بحال ما أن تعتبر ممثلة لحالة العلم فى العالم اليوم، ومن ناحية أخرى يعوز المؤلفات العلمية الموجودة التهذيب كما يعوزها التجانس فى المصطلحات، فكثير من المدلولات العلمية لا توجد الصيغ اللفظية لها، وبعض المدلولات توجد لها صيغ اما ضعيفة أو غير صالحة ،كما أنه توجد فى بعض الأحايين صيغ متعددة للمدلول الواحد مما يؤدى إلى نوع من الفوضى فى أدبنا العلمى يجب علينا تلافيها. والطريقة المثلى للتقدم تكون بتأليف لجان من الاخصائيين لمراجعة المؤلفات الموجودة وتهذيبها والعمل على تجانسها كما تكون بتكليف القادرين منا وتشجيعهم فرادى ومجتمعين على وضع المؤلفات فى مختلف الفروع العلمية حتى تتألف لنا ثروة من الأدب العلمى يصح أن يعتمد عليها عطاء اللغة فى استخلاص المصطلحات والعبارات العلمية فى لغتا الحديثة وتحديد معانيها ومدلولاتها بمعاونة العلماء الاخصائين فى ذلك. ويجب أن أذكر بهذه المناسبة أن من العبث أن يحاول علماء اللغة وضع المصطلحات العلمية وضعا قبل ورودها فى المؤلفات العلمية وشيوع استعمالها فان ذلك يكون من باب التسرع وقلب النظام الطبيعى لتطور اللغة وهو فى الغالب مجهود أكثره ضائع اذ لا يمكن التنبؤ بما اذا كان مصطلح من المصطلحات سيبقى ويدخل في صلب اللغة أو سيموت ويحل غيره محله.
بقيت نقطة أريد أن اتعرض لها وهى العلاقة بين المصطلحات العربية ومصطلحات اللغات الحية الأخرى. ففى رأى أنه من الجائز استعمال مصطلح اجنبى فى لغتنا - بعد تحوره ليتفق مع ذوق اللغة واوزانها - بشروط ان يكون هذا اللفظ مستعملا فى جميع اللغات العلمية الأخرى أو فى معظمها مثل هذه الألفاظ تكون فى الغالب مشتقة من أصل اغريقى أو لاتينى لا جناح علينا نحن اذا اشتققنا منه كما اشتق غيرنا. أما الألفاظ الأجنبيه المقصورة على لغة واحدة أو لغتين فرأيى ان يكون له عندنا لفظ عربى مرتبط بأدبنا وتفكيرنا.
ولا يتسع المجال لزيادة التفصيل فليس المراد من هذا المقال ان ادخل القارئ فى مسائل فنية هو فى غنى عن بحثها وانما أرجو أكون اثرت من نفسه الاهتمام بهذا الموضوع الذى هو من اهم المواضيع المرتبطة بحياتنا وتقدمنا.
