ان الابحاث التى قام بها العلماء عن علاقة اللغة بالنفسية الاجتماعية ذات اهمية كبيرة . ولقد وجدوا فى اللغة كما تبدو على ألسنة الناس تعبيرا كاملا عن مظاهر اعمال الانسان كلها . وقد شاء بعضهم ان يجعل من هذه النظرية القائلة ان اللغة تعبير عن الحياة الانسانية فى شتى مظاهرها قاعدة لتأويل عنصرى والى ذلك ذهب " رنان " Renan مثلا .
غير ان التيار العلمي والابحاث الحديثة المتعلقة بالمظاهر النفسانية والاجتماعية للغة الكلام وخاصة دراسات جيسبر سبان التقدم اللغوى Jesperspen : Linguistic Progress وسومر قالت : اللغة والمجتمع Sommer felt La langue et La Societe (اسلو ١٩٣٨) ؛ وكذلك اعظم مؤلفات ميبى Merllet ، كل تلك الابحاث اثبتت العكس ، لكن لا بد ان نلاحظ ان الامر ليس سهلا اذ التقابل الذى وجده هؤلاء بين تطور المجتمع وتطور لغة الكلام (زوال التثنية Duel المرتبط بتطور الحضارة مثلا ) ليس بالمضبوط تماما حتى نستخلص قاعدة ثابتة .
فكل ما يتعلق بالمظاهر اللغوية للنشاط العقلي او الحياة الاجتماعية ليس بالجلى تماما حتى ان الدراسة الوحيدة التى تصل الى بعض القواعد العلمية تحمل عنوان : نحو " سوسيولوجية اللغة " لمرسيل كوهان Marcel Cohne, Pour une Sociologie du langage )باريس ١٠٥٦)
لا نستطيع اذن ان نفصل بين بعض المظاهر اللغوية او النفسانية او الاجتماعية وكيف لنا ان تقارن بينها دون ان نطمس حقيقتها وجوهرها ؟
وهكذا نجد انفسنا امام اسلوب يحوى اساليب عدة يجمع بينها ولكنه لا يتحكم فيها . من ذلك الاصوات التى تدل عن حقيقة لغة ما ، لا معنى لها الا اذا قامت في اسلوب يجمع بين مظاهرها المتضادة ويكون منها وحدة كيانية هي اللغة كآلة للتفاهم والتعبير . هل يلزم اذن ان نتخلى عن دراسة لغة الكلام ؟ كلا لكن نستطيع ذلك اذا اعتبرنا لغة الكلام وحدة كيانية منظمة تنظيما داخليا ، وهكذا نكتشف
الفوارق الجوهرية بين المظاهر الصوتية phonologie والصرفية morphologique واللغوية Lexique فتبدو هذه المظاهر كوحدة غير ملتئمة الاجزاء كل الالتئام قادرة على تحمل العوارض وقل مثل ذلك فى الاشكال النحوية او غيرها من الاشكال التى لا نستطيع التعبير عنها الا اذا وجدنا العلاقة او العلاقات التى بينها وبين الاشكال الاخرى .
وقد تصبح الكلمة قائمة بذاتها اذا تعلقت بكلمة دالة عن شئ محسوس كـ = مائدة ، او مجرد كـ = عقل . وهكذا نستطيع ان نستعمل المجردات اللغوية لدراسات نواح خارجة عن الدراسة اللغوية الضيقة .
وقد ظهرت بعض دراسات ترمى الى ابراز هذه النواحى نذكر منها خاصة دراسة الاستاذ م . ج ماتورى matore ) MG .١( .
وهذه الدراسة ترمي الى تقريب الكلمة من معناها الاجتماعى المحض ، ومنها يظهر ان بعض الكلمات تتشعب وتلتف حول مركز لغوى ، وقد يصبح للكلمة معنى غير معناها الاصلى ، فتدل على شكل اجتماعي واقتصادي وذوقى جديد (٢) . ويذكر الاستاذ ماتورى كلمة مغازة Magasin التى لم تظهر الا في القرن السابع عشر وهى مرتبطة بكلمات عامل employe وتوصيل tacture وزبون client.
وتصبح هذه الكلمة الشاهدة mot - temoin الكلمة الرئيسية mot clef الدالة على الشكل الاجتماعى الجديد .
كذلك دراسات الاستاذ GK. zipf ك زبيف التى تهدف الى المشاكل اللغوية المتعلقة بالنفس وبالفيزيولوجيا (٣) . وكذلك ابحاث الاستاذ بــ . غيرو P.guiraud التى ظهرت اخيرا والتى تنحو منحى زبيف وان كان " غيرو " لا يهتم الا بالمظهر الداخلى للغة (٤) ولكن اكتشافاته تصلح للتأويل السيكيولوجي .
واود ان اتعرض الى بعض الابحاث التى يقوم بها حاليا - فى ميدان لغة الكلام - العلماء الاميريكيون خاصة ادوارد صافير Edward saphir احد تلاميذه موريس سوادش swadesh maores تحت عنوان Glottochronologie او Lexicostatique وهى نظرية هامة يلزم الانتباه اليها . وهى قائمة على الدراسة التجربية empirique والعملية لبعض نواحى اللغة ثم على القياس بينها .
وهذا الاسلوب فى البحث قام على تجربة غريبة يسمونها تجربة " ورقة كربون ١٤ " ( ١٤ carbone ) ويعود الفضل الى و . ف ليبي E.W.Libby الذى اكتشف في كل كائن حى جزءا من ( الكربون ) . فكلما ذهبت الحياة عن ذلك الكائن اخذت مادة ( النيتروجان ) محل ( الكربون ) . وهكذا نستطيع ان نعلم بالضبط ، حين ندرس كمية الكربون الموجودة في كائن ما ، زمن موته والمكان الجغرافي الذي يحويه ( ١ ) وان كانت المواد المستعملة من طرف المدرسة الاميريكية ليست بالمواد الكيميائية ولكن لغوية فقاعدة البحث واحدة اذ كلما درسنا المواد اللغوية التى تملكها لغتان عرفنا متى افترقت هاتان اللغتان عن القاعدة الاصلية .
ويظهر ان اللغة اذا كانت تتطور فى بعض اشكالها تطورا سريعا فانها تقاوم في بعض الاشكال الاخرى كل تطور مقاومة عنيفة . وقد اكتشف العلماء جزءا كبيرا من الاشكال والمادة اللغوية غير المتطورة ( قريبا من ٢٠٠ كلمة تتعلق خاصة بالجسد الانسانى او بالعناصر الطبيعية او الدالة على العلاقات النفسانية - الاجتماعية او صفات وخصائص طبيعية او الحركات البدائية ، او الاعداد او الاماكن الجغرافية . وقد اظهر البحث ان الكلمات التى استعارتها اللغة الانكليزية من اللغة الفرنسية وبالعكس تبلغ خمسين في المائة من المادة اللغوية وذلك طيلة الفنى سنة ولكن لا تبلغ الا ستة في المائة من المادة اللغوية التى تمت دراستها (٢٠٠ كلمة ) .
وكذلك الجزء القابل للتطور ، يذهب من % ٨٦،٤ الى %٧٤،٤ اى الى % ٨٠،٥ تقريبا . ولنضرب مثلا ليتضح الامر : من المعلوم ان اللغة العربية واللغة العبرية تنبعان من اصل واحد . فهل يمكن لنا ان نعلم بالضبط زمن
افتراقهما ، يمكن ان نقوم بهذه العملية (١) ز= م / ت ولنتساءل هل يمكن ان نطبق هذه القاعدة فيما يخص اللغة العربية . أسمح الآن لنفسي ان اقدم بعض ما يتعلق بتونس من بحث ما زال يجرى .
قمنا بعد ما استخلصنا كلمات شاهدة mots temoins بمقارنة لغة الكلام بتونس بلغة عربية اخرى " لغة جنوب الجزيرة " صنعاء . واذكر ان اختيار لغة صنعاء اختيار ارادى محض . ولم نتخذه الا لان لغة الكلام بتونس وبصنعاء نابعتان عن اصل واحد . وهذا الاصل الواحد يمكننا من ان نعلم متى انفصلت هاتان اللغتان عن بعضهما ، فكان لهذه لغتها (لغة صنعاء) (٢) وكانت لتلك لغتها . ان المقارنة بينهما ممكنة جدا . فنخرج من البحث الذى لا يمكن لنا ان نتعرض اليه هنا لطولة ان المادة اللغوية المشتركة تصل الى % ٧١ ، وان ثمانية قرون قد مرت على انفصالها (يلزم ان نزيد قرنين ، كغلط نسبى) .
ولا شىء يتعرض الى ان اللهجة الخاصة بمدينة تونس قد ظهرت منذ عشر قرون خلت . وهذا ما يدفعنا الى ان ندرس متى تعربت البلاد وحسب اى قاعدة وكيف كان ذلك . واى دور لعبه زحف بني هلال ، ثم زحف بني سليم الذي تلاه ؟ وكيف يمكن ان ندخل فى تاريخ تونس اللغوى نظرية ابن خلدون القائلة بوجود فوارق تاريخية بين نشوء اللهجة الحضرية واللهجة البدوية فى تونس ؟ غير ان بعض الصعوبات تعارض الباحث حتى انه ليحتار فى أمره لولا اعانة القدر ؛ حقا ان قاعدة فعل تسبغ على الفعل عند الشعوب السامية نوعا من الثبوت ونعلم انه من السهل ان يدخل على فعل تغييرات كثيرة لكن لا نعلم - بالضبط - هل هنالك رابطة بين " زداد " فى اللهجة التونسية وتسيد فى لهجة صنعاء ( كما يذكره العلماء ) وهل اللغة العربية الكلاسيكية لغة مشتركه Kaoine بين القبائل لغة حملتها الجيوش الاسلامية ايام الفتح ؟ )٣(
هذه اسئلة من المجازفة ان نجيب عنها . وعلى كل حال لقد أدرك القارىء معنى اهمية الدراسات اللغوية ودراسة اللهجات حسب الطريقة العلمية الحديثة التى نرجو ان نتبعها .
