الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 207الرجوع إلى "الثقافة"

اللقاء

Share

أرأيته بعد    ألم يكتب إليك ؟

وشع من عينها ذلك البريق الغريب وهي تشيح عنه بوجهها ناظرة إلي لا شيء

ثم استطردت . .

لقد انتظرته بالأمس طويلا . . فلم يعد .

ومضت لوجهها وما تزال تسأل متى يعود ؟

ونكس الفتى يخفى دمعة ترقرت في عينه . . متى يعود علي ؟ أيقول لها اين ذهب ؟ أيحرؤ فيدلها على مثواه الهادي في أراض المدينة ينزله إلي غير رجعة . ولكنه لم يملك إلا أن نكس رأسه حتى لا يري أم صديقه في تلك الحالة الألمة هائمة على وجهها لسأل الناس متي يعود ؟

متى يعود وحيدها على وقد خلفها منذ شهر مضي . منذ تلك الليلة الهائلة التي عرف فيها السر . . ذلك السر الذي لم يحتمله غير ليلة واحدة ، ثم مضي به إلي ذلك المكان القريب النائي في غرب المدينة . . وتواري سره معه إلي الأبد

لم يبق من يعرف هذا السر بعده غير اثنين : أمه الهائمة على وجهها في ثيابها الخلقة ، وشعرها الأشعث ، وقدمها العارية ، وهي تسأل الناس : متي يعود ؟ . . وهذا الصديق المطوي علي نفسه ألما لا يقوي علي أن يبوح ولا

ان يصمت ، وإنه ليراها صبيحة كل يوم وهي تقف بأبواب المدارس تسأل الطلبة وصغار التلاميذ سؤالها الواحد : متي يعود ؟ فينفرون منها خوفا ويستدبرونها ، فما تجد إلا أن تختفي بجدار قائم ثم تجهش باكية !

لم تكن تملك إلا سؤالا واحدا علي اختلاف صوره : اين علي . . ومتى يعود ؟ اهو في حالة طيبة ؟ ومن جاءه بالطعام ؟ وهل كان راضيا عنه ؟ ومن غسل ملابسه ؟ وهل

نفدت نقوده ؟ فإنها لتعرف أن ما كان معه لم يكن يكفيه .

اللهم ارحمها بما عانت في شقوتها مما لا يصمد له الرجال ! لقد تقلبت في المحنة طويلا بين ضغط الحاجة وذل المسألة حتى جرفها تيار الحياة بعنف ، وارغمها على ما سلكت من سبيل ، لتضمن لولدها العيش في عالم غير ذلك الذي تعيش فيه . عالم فيه الفضيلة والشرف وبياض الجبين ! أو كذلك شبه لها !

وما كان لها من أمل إلا أن تجعله كذلك يشعر ، وعلي هذا ينشأ . . إنه رجلها الذي تدخره لتنتقي به ريب الزمان . تلك كانت امنيتها الوحيدة ؛ افتفتقده الساعة وقد احتملت من أجله ما لا يغمض لها من تذكره جفن ساعة من ساعات الوحدة والألم ؟ ! ايفارقها فلا تعرف له مأوي . . يصير عنها ويطاوعه قلبه على ان يتهنها الناس على هذه

الصورة . . على على ألها أحد غيره تناديه ؟ وإنها لتناجيه حيث كانت واين كانت : هل اغضبتك يوما يا علي ؟ ارجع واطلب ما تشاء من ترضيه ! هل رددتك يوما عن أمنية ارجع ، فإني لمدخرة لك مفاجأة سارة في نهاية الأسبوع ، شأني معك كل أسبوع

وتؤوب وقد انتصف الليل لتقف بباب حجرته تنصحه بأن بنام مشفقة ان ينال منه السهر ، فما يجبها إلا الصمت ؛ فترتمي تنشج على عتبة الحجرة حتى الصباح .

وتهب مبكرة توقظ صديقه الفتي من بيته المجاور وتسأله هل امضي عليه الليل ، وهل ذهب إلي مدرسته دون ان يطعم شيئا . . ولا يقوي الفتي علي الجواب ، ولا علي النظر ، ولا يحتمل ما توجهه إليها الجارات من نظرات التشفي والحقد ، وقد كانت تفخر عليهن يوما بابنها الواحد

وما كان ليقوي ان يسمع مناجاتها في لهفة وتأثر صورة ولدها المعلقة في بهو الدار : تلك الصورة التى تفيض حياة وبهجة واملا . . من كان يصدق ان هذه المرأة المريبة كانت تطوي بين جنباتها نفسا يحمل خلاصة آلام البشر في واحدا تلك الصورة التى كانت مبعث الأمل ونشوة الجذل ومحط

الرجاء ! إنها اليوم تئوي حيث لا أمل ولا بهجة ولا خلان ولا أصدقاء . . حيث لا يخشى أن يخفض الذل رأسه بين هؤلاء . لقد اتي كل ما كان يخشاه بتلك البقعة عزب المدينة لا رجعة له منها إلا أن يشاء الله . وكان طريقه إليه أوجز مما تعود الناس . فما هي إلا جرعة واحدة انتقل بها إلى تلك الدار الهادئة القريبة النائية ، ومضى بحمل سر تلك الليلة الهائلة التى كانت

كان ذلك بعد منتصف الليل ، وقد رجع بعد مذاكرته دروس الغد في دار صديقه إبراهيم . وكان متعبا . وأبي عليه صديقه ان يبارح الدار ، والحف ، ولكن عليا ابي ، وأشفق على أمه أن تقلق لغيبته . . ومضي علي متمهلا ، ثم دخل الدار في غير جلبة حتى لا يوقظ فيه احدا ، وتلك

كانت عادته كما طال به السهر عند جاره الصديق . وكانت غرفة امه مضادة على غير عادة ، وفيها همس ! وفتح بابها في حركة آلية ، وهو في طريقه إلي غرفته لا يكاد يعى ما يفعل ، وفي نفس الحركة الآلية أقفل كما فتح الباب وانسل في هدوء ، راجعا . مادا رأي ؟ ذلك سره الذي مضي إلي مثواه في غرب المدينة .

ماذا رأي حتي اختصر الطريق وهو بعد في ريعان الشباب . . إنه لا يعرف له أبا ولا مصدر رزق إلا ما تحدثه أمه من حديثها عن تلك الضيغة التي خلفها لها أبوه ، وهو لا يعرف من أمرها شيئا . فإذا حان موعد رسومه المدرسية أو حل إيجار الدار غابت امه يوما ثم عادت ومعها مال . . أين تلك الضيعة ، وما غلتها ؟

ذلك سؤال لم يظفر عنه بجواب ، فما كان يسمع من امه إلا أن تقول له مشفقة :

-دع عنك هذا . وعليك بالكتاب حتي يغنيني الله بك

وكثيرا ما كان يمضي الليل وهو شاخص ببصره نحو الفضاء المجهول يبحث عن شئ يكاد يلمسه ويخشى ان يلتقي به فى مكان . شئ كان يخشاه . . وكثيرا ما كان ينظر لعين أمه فترتد عيناها وعيناه كليلة محسورة ، وكأن

كل منهما يخشى أن تعبر عيناه عن شئ يحاول كتمانه ، من القلق . والشك

كان بينهما ستار من الضباب يتكاتف حينا ويرق ، ولكنه ستار

حتي كانت تلك الليلة . هل عرف على كيف كان يعيش ؟ هل وضحت له الحقيقة التى ظلت أمه تخفيها عنه زمانا ألا ضيعة ولا إيجار ولا غلة ؟ اهذه هي الحقيقة ! كان الناس يعرفون ذلك منه ويخفونه كما تخفيه امه أكان يمشي بين الناس ولا يعرف من يكون ، ومن أي سبيل يعيش ؟ أو يعرف إبراهيم هذه الحقيقة كذلك وكان هذا سر نظراته البهمة إليه حينا بعد حين ؟

ما أغباه ! أليس من الجائز أن يكون إبراهيم على لما كان في تلك الليلة فكان إلحافه عليه في البقاء عنده . ولكن ماذا رأي ؟ ذلك سره الذي مضي به وحيدا يدفنه في تلك البقعة غرب المدينة .

وتفقدته أمه ولكنه كان قد مضي .

وسألت عنه إبراهيم ، فصمت . فأقبلت عليه ترجوه ؛ وحسبت انه لم  يصمت إلاوفاء بوعد لصديقه وخيل إليها أن في استطاعته منه الكلام ، فمالت على رأسه ، وعلى يديه ، فما ازداد إلا صمتا وإلا إطرافا . فانقلبت تهزه في عنف ؛ اين ذهب . اين ذهب ؛

وخفض إبراهيم رأسه وهو يطوي بين يديه تلك  الورقة التى كانت آخر عهده بصديقه الراحل . ورقة كانت جزءا مذابا من نفس صديقه التعس يودعه فيها الوداع الأخير . كانت على قصرها آلم ما تنفس عنه صدر إنسان : فما وصلته إلا وعلى قد توسد مرقدة الأخير ! وهذه امة تهزه في عنف وتسترحمه بائسة ، ثم تتركه لتهيم على وجهها وفي عينيها ذلك البريق الغريب .

وانطلقت من وقتها تسأل الناس . شهر كامل وهي على حال واحدة وربما اخطأها النظر مره فطوقت بذراعيها أحد الفتيان نفسه في لهفة وجزع تحسبه ولدها المفقود

وتنال ما تنال من هزء الناس وسخرية المارة ؛ وربما إشفاق المشفقين . . كانت تقف ساعة البكور من كل صباح إلي دور المدارس ترقب الصبية وصغار التلاميد وهم يحملون الكتب ، وتروح تنظر إليهم بعينها التائهتين ؛ وربما ربتت بيدها المرتعشة على أقرب تلميذ يمر بها ، فيولي منها نافرا ويخلفها تنهمر من عينيها الدموع

وكانت ليلة من ليالي الشتاء مضي أ كثرها ، وعلي ضوء مصباح خافت راحت تحملق في صورة ابنها المعلقة ، وهي مستلقية فوق سريره تتنفس في ضعف كشبح محطم في شبه إغفاءة ولا تزايل عينها الصورة . ثم حركت رأسها قليلا حيث كان إبراهيم واجما لا يتكلم وتمنعت :

- عرفت أين ذهب . . أتانى البارحة ليلا سألقاه

أجل سألقاه

) كلية الآداب

اشترك في نشرتنا البريدية