الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 38الرجوع إلى "الثقافة"

المؤرخون فى مصر فى القرن التاسع الهجرى ( القرن الخامس عشر الميلادى) :, ٤- معاصرو أبى المحاسن

Share

عاصر أبا المحاسن ، وهو عميد المؤرخين في مصر فى أواسط القرن التاسع الهجرى ، اثنان ممن اشتغلوا مثله بالتاريخ المصري وألفوا فيه مؤلفات معاصرة قيمة ، وهما بحسب الترتيب الزمنى ابن الصيرفى والسخاوي ؛ وقد كتب كل منهما لأبي المحاسن ترجمة تنم عن كثير مما كان بين مؤرخى ذلك القرن كله من تنافس وغيرة ، بل وحسد أحيانا وسوء دخيلة ، كما سيتضح من مقال الخاتمة لهذه المقالات.

وكان ابن الصيرفي أكبر الرجلين سنا ، وإن كان أقلهما شهرة وتراثا في التأليف ، واسمه نور الدين على ابن داود الصيرفي الخطيب الجوهرى الإسرائيلي الحنفى؛ وقد عرف بين معاصريه باسم ابن الصيرفي - وبابن داود ايضا ، ومولده بالقاهرة سنة ٨١٩ ه ، قبل ميلاد السخاوي باثنتى عشرة سنة . وكان أبوه داود صيرفيا بدواوين الدولة الملوكية في عهد سلطان لم تعينه المراجع التى بأيدينا حتى الآن ، وقد توفي سنة ٨٥٣ ه.

نشأ ابن الصيرفى في كنف والده ، وتعلم تعلما يسيرا ، كما يفهم من ترجمة السخاوي (١ ) له ، مع انه تتلمذ لابن حجر المسقلاني ، ولازم مجلسه في الإملاء وغيره ،

وتحرص الركوب في خدمته ، حتى استثقله لذلك جماعة من تلاميذه . ويظهر أن السخاوى ، وهو أيضا تلميذ لاحق لابن حجر كما سيلى ، كان ممن ضاق بتلك العلاقة بين ابن الصيرفى وشيخه ، كما عظم عليه توليته خطابة جامع الظاهر برقوق ، وذهاب ابن حجر للصلاة خلفه هناك ، ولذا جاءت ترجمته لابن الصيرفى مملوءة غمطا وسخرية .

مارس ابن الصيرفي التجارة بعد وفاة أبيه سنة ٨٥٣ ه كما تقدم ، مع بقائه على الاشتغال بالعلم ، وقيامه بوظيفة الخطابة السابقة وغيرها من الوظائف الصغرى ؛ فتكسب بسوق الجوهريين - ومن هنا كان تلقيبه بالجوهرى - ، وابتنى بعض الدور بحكر الشامى بالقاهرة وأسكنها بالأجرة ؛ ثم آل أمره يوما إلى أن نفد غالب ما عنده واحتاج ، فولاه قاضى القضاة محب الدين بن الشحنة الحنفى نائبا للحكم (قاضيا) ، واشتغل بنسخ الكتب وارتفق بذلك ، فنسخ كثيرا من كتب شيخه ابن حجر وأبى المحاسن والسخاوى أيضا فى التاريخ وغيره ؛ ومن ثم كان اشتغاله بالتأليف فى التاريخ بعد أن تقدمت به السن ، وقد فسدت علاقته بالسخاوى وأبى المحاسن من حين ذاك ، فامتنع أبو المحاسن من إعارته كتبا من مكتبته ، بل أخفى عنه تصانيفه مخافة أن ينقل منها . على أن ذلك لم يقل من عزم ابن الصيرفى ، أو يصرفه عن الكتابة ، فألف كتاب "نزهة النفوس والأبدان فى تواريخ الزمان" ، وافتتحه بسلطنة الظاهر برقوق واختتمه بسنة ٨٥٠ ه ؛ ثم كتاب " أنباء الحصر فى

أبناء العصر" ، ولم يصل إلينا منه سوى الجزء التاسع فقط وكتاب "سيرة الأشرف قايتباي" وهو غير مقطوع بوجوده ، ولعله المخطوط الكائن بالمتحف البريطانى بلندن لغير مؤلف معروف ، باسم كتاب " تاريخ الملك الأشرف قايتباي " . ولابن الصيرفي أيضا كتاب فى السيرة النبوية سماه باسم " الجوهرية" وقد رآه أبو المحاسن وأنهاه مطالعة وقرظه غضبا منه بخطه ، إلى جانب خطوط الكثير من المقرظين ، على حد قول ابن الصيرفي نفسه بصدد هذا الكتاب الأخير .

غير أن السخاوى لم يشأ إلا أن يحط من قدر ابن الصيرفى ومؤلفاته ، وربما قصد بذلك أن ينتقم لنفسه منه لمزاحمته إياه فى صحبة ابن حجر وملازمته ، فقال : " إنه نصب نفسه لكتابة التاريخ ، فكان تاريخا ، لكونه لا تمييز له عن كثير من العوام إلا بالهيئة ، مع سلوكه لما  يستقبح ، بحيث ... صار الفقهاء والقضاة به مثله ... ؛   وبالجملة فهو من سيئات الزمان ، غنى بشهرة سيرته عن مزيد البيان ، وجهله واضح الظهور ، وانطراحه لبطنه قاصم للظهور (١)". ولابن إياس فى ترجمته القصيرة لابن الصيرفى نقد مشابه ، على الرغم مما فيه من اعتدال فى اللفظ . ونصه أنه " كان يكتب التاريخ مجازفة ، لا عن قائل ولا عن راو ، وله فى تاريخه خبطات كثيرة ، وجمع من ذلك عدة كتب من تآليفه ... ، وكان لا يخلو من فضيلة (٢)" .

على أن ابن الصيرفى لا يستحق هذه العبارات المريرة من معاصريه ، يشهد بذلك السخاوى نفسه فى ثنايا ترجمته له حين يعجب من كثرة مقرظيه ومريديه من أعلام عصره ، ويشهد به أيضا كاتب هذه السطور بعد أن قرأ ما استطاع

قراءته من المؤلفات المذكورة ، إذ وجد بها كثيرا من تفاصيل الحقائق التى توجد مقتضبة مختصرة فى كتب الآخرين كأبى المحاسن والسخاوى وابن إياس . وكانت وفاة ابن الصيرفى فى شوال سنة ٩٠٠ هـ .

أما السخاوى واسمه أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد ... السخاوى ، نسبة إلى بلدة سخا الحالية بمركز كفر الشيخ بمديرية الغربية ، فقد ولد سنة ٨٣١ هـ ، بحارة بهاء الدين لصق باب الفتوح الأول بالقاهرة . وكان جده محمد شيخا فقيرا صالحا يتكسب بتجارة يسيرة بسوق الغزل بميدان القمح بالقاهرة ، ويكثر من الاختلاف إلى مواعيد رجال الدين ومجالسهم للإفادة والاعتبار ؛ وكان أبوه عبد الرحمن كذلك فى معيشته وتكسبه وغشيانه مجالس رجال الدين ، وقد طابت صلته ببعضهم لعلمهم بتقواه وتصوفه(١) . ولذا كان معظم شيوخ السخاوى ومعلميه من رجال الدين أصحاب أبيه ، ومنهم ابن حجر الذى اختص به وأحبه كثيرا . وقد ساعد السخاوى على ذلك سبق الصلة بين والده وابن حجر ، وقرب منزله من منزله . فلازمه أشد الملازمة ، وحمل عنه ما لم يشاركه فيه غيره ، وأخذ عنه أكثر تصانيفه فى الحديث والتاريخ والتراجم ؛ وهذا فضلا عن مقروءاته ومسموعاته على غير ابن حجر من المشايخ ، وقد حلا له أن يعدها ويعدهم عدا دقيقا فى ترجمته لنفسه فى كتابه  "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" ، وهى ترجمة ضافية فى ثلاثين صفحة كاملة ، وليس فى كتابه كله ترجمة تشبهها أو تقرب منها فى السعة والإفاضة والتمدح بأقوال المعجبين به من المعاصرين (٢).

وقد عرف السخاوى عند بعض "أناس مخصوصين" باسم ابن البارد ، وهى تسمية اشتهر بها جده وأبوه أيضا لسبب غير واضح تماما ، لعله فيما يخص السخاوى على الأقل أنه كان عظيما عند نفسه إلى حد لم يشاركه فيه الكثيرون من المعاصرين ، وأنه تناول معظم أعلام عصره بالتجريح والنقد ، ورماهم فى غير واحد من مؤلفاته بالقصور وضعف الرواية والبيان . ومع هذا فقد نشأ السخاوى وعاش متمتعا برعاية أستاذه ابن حجر وعنايته ، وقد بادل الشيخ تلميذه حبا بحب وإخلاصا بإخلاص ، فصار يرسل إليه خادمه ليعلمه بوقت ظهوره فى بيته ليقرأ عليه ، وقال فيه ولما يبلغ الثانية والعشرين من عمره : " إنه مع صغر سنه ، وقرب أخذه ، فاق من تقدم عليه بجده واجتهاده ، وتجربه وانتقاده ؛ بل إن ابن حجر قام ليخدم بنفسه فى حفل عرس السخاوى سنة ٨٤٨ هـ ، وجهد فى توظيفه بوظائف تدريس الحديث التى أهله لها أحسن تأهيل".

ثم توفى ابن حجر سنة ٨٥٣ هـ ، فعزم السخاوى على الرحيل عن مصر إلى الشام ، ليسلو عن فقد أستاذه بالدرس  ، والتحصيل هناك . غير أن أبويه ثنياه عن عزمه هذا  وظل بمصر مواصلا لدراسة الحديث ، وطفق يتنقل فى سبيل ذلك بين المدن الكبرى ، كدمياط ومنوف والمحلة الكبرى وسمنود والإسكندرية ، وغيرها ؛ واجتهد فى أثناء ذلك أن يجد لنفسه وظيفة لتدريس الحديث ، مستعينا بأصدقاء أستاذه الراحل بالقاهرة . ثم انتهى به الأمر إلى الحج مع أمه وأبيه سنة ٨٥٦ هـ ، فأقام بمكة بضع سنين وجاور بها ، وزار المدينة . وتنقل السخاوى من بعد ذلك بين مصر والشام والحجاز ، فحج خمس مرات آخرها سنة  ٨٩٨ هـ  ،وحرص على الإقامة بمكة مدة إثر كل حجة ، كما استقر بمصر أحيانا لتدريس الحديث بمدارس القاهرة،  .وكان يشتغل فى أثناء ذلك بالتأليف فى الحديث والتاريخ .

وقد اتصل السخاوى بالأمير يشبك بن مهدى كاشف الوجه القبلى فى عهد السلطان الظاهر خشقدم ، وهو صاحب الدوادارية الكبرى فى عهد السلطان الأشرف قايتباى . وكان يشبك أعظم شخصية فى الدولة المملوكية فى عهد قايتباى ، بيده فوق وظيفته الكبرى خمس وظائف أخرى ، مع ما يتعلق بها من أوقاف وأملاك ومدارس ومحسوبية ، ومن ذلك تعيينه للسخاوى على إحدي وظائف تدريس الحديث التى تعب قبلا فى الحصول على مثلها أيما تعب ، وسعى له عند الظاهر خشقدم ليكون مقرئا للحديث بعد إمام السلطان . ومع هذا فقد شاء السخاوى أن يذكر صلته بهذا الأمير الكبير فى عبارة كلها كبرياء وترفع ، وأن يقرر أن يشبك سأله فى البيت عند السلطان الظاهر خشقدم ليلتين فى الأسبوع ، ليقرأ له نخبا من التاريخ ،  كما فعل العينى مع السلطان برسباى ، فتنصل وأبى ، وأن يشبك التمس منه أن يحضر إليه ليقرأ له تصانيفه فامتنع أيضا( ١) . وهذا نص عبارة السخاوى فى ترجمته لهذا الأمير البذول المحسن : (( وقد تكرر اجتماعى به ، وكان حريصا على ذلك ، بحيث رغب فى تحصيل أشياء من تصانيفى ،  وأسمع بعض أولاده منى بحضرته ]كتاب[  المسلسل ]في الحديث[ ، ولو وافقته على مزيد الاجتماع به لتزايد إقباله ، ولكن الخيرة فيما قدر(٢) .

وقد عنى السخاوى بذكر مؤلفاته الكبرى والصغرى فى أربع صفحات من ترجمته لنفسه(٣) ، ومنها فى التاريخ  كتاب "التبرالمسبوك فى ذيل السلوك"، فى أربعة أجزاء(٤)،

وهو كما يتضح من آخر العنوان تكملة لتاريخ المقريزى المشهور ، وكان تأليفه إياه إجابة لأمر الأمير يشبك بن مهدى وهو على وظيفة الدوادارية الكبرى ، أى أنه كتب فى عهد السلطان الملك الأشرف قايتباي . ويظهر أن السخاوى كان مغرما بتكميل كتب السابقين أو تلخيصها ، فقد ألف "وجيز الكلام فى ذيل تاريخ دول الإسلام" تكملة لكتاب الذهبى المؤرخ ، وكتب " الذيل المتناهى" تكملة المؤلف ابن حجر فى قضاة مصر ، و "الذيل على طبقات القراء" تكملة لكتاب الجزرى ؛ ومن ملخصاته " كتاب المنتقى" من تاريخ مكة للفاسى ، و "تلخيص تاريخ اليمن" المؤلف لم يذكره ، ولعله للفاسى أيضا .

وللسخاوى فى التاريخ أيضا كتاب " الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" ، وهو مقالة طويلة فى قواعد الجرح والتعديل ( historiography) عند المؤرخين ، وبه صفحات ضافية فى تاريخ التاريخ وفضله كعلم لازم للمشتغلين بالحكم ومصائر الدول . وله فى التراجم كتاب "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع " ، و " الجواهر " والدرر فى ترجمة ابن حجر " ، و " القول المنبى فى ترجمة ابن عربى" ، وغير ذلك كثير فى مختلف العلوم والفروع ولا سيما الحديث ، مما هو خارج عن مجال هذا المقال القصير .

على أنه لابد هنا من التعريف بكتاب "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع"  ، إذ هو معجم زاخر فى اثنى عشر جزءا مطبوعة ، للنساء المسلمات منها جزء بتمامه ؛ وهو بحق فخر مؤلفات السخاوى ، رغم ما ابتلى مؤلفه من تصغير الكبير وتحقير الصغير ممن ترجم لهم  ، حتى أبسل نفسه للوم المعاصرين تجريح اللاحقين ، ومن ذلك قول ابن

إياس فيه بأنه " ألف تاريخا فيه كثير من المساوى" فى حق الناس " (١) ، وقول قرينه السيوطى مستفهما مستنكرا : " ما ترون فى رجل ألف تاريخا جمع فيه أكابر وأعيانا ، ونصب لأكل لحومهم خوانا ، ملأه بذكر الساوىء وثلب الأعراض ، وفوق فيه سهاما على قدر أغراضه والأعراض هى الأغراض ، جمل لحم المسلمين جملة طعامه وإدامه ، واستغرق فى أكلها اوقات فطره وصيامه ، ولم يفرق بين جليل وحقير . . . " (٢) ، وقد اشتدت الخصومة بين السيوطيى والسخاوى مدة ، واضطرم الجدل بينهما حينا ، فرشق كل منهما صاحبه بأنواع التهم ، حتى حال بينهما الموت ، إذ توفى السخاوي بالمدينة فى  شوال سنة ٩٠٢ هـ ، وبقى السيوطى بعده تسع سنين .

اشترك في نشرتنا البريدية