الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 44الرجوع إلى "الثقافة"

المؤرخون في مصر في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي ) :، ٥ - ابن إياس

Share

يعتبر ابن إياس ثالث المؤرخين الذين تداولوا الزعامة في حلبة التأليف في التاريخ المصري في القرن التاسع الهجري ، وقد سبق المقال في أول أولئك المُسَجلين وهو المقريزي ، وفي ثانيهم وهو أبو المحاسن ، كما سلف التعريف بمعاصري كل منهما من المؤرخين بترتيب زمني عام .

ولد محمد بن أحمد بن إياس المصري الحنفي (١)  بالقاهرة سنة ٨٥٢ ه ، قبل وفاة أبي المحاسن بإحدى وعشرين سنة ، وهو شبيه بأبي المحاسن من حيث أن كلا منهما نتيج أسرة مملوكية . على أن ابن إياس كان أقدم عرقًا في المجتمع المملوكي ، فبينا لا ندري من أصل أبي المحاسن سوى أخبار أبيه وأمه منذ مجيئهما إلى مصر في عهد أستاذهما السلطان الظاهر برقوق (٧٨٤-٨٠١ ه ) ، إذا بنا نعرف الجد الأ كبر لابن إياس ، واسمه إزدمر العمري الناصري أبو ذقن ، الشهير بالخازندار , وكان إزدمر من أمراء الدولة المملوكية زمن السلطانين الناصر حسن ( ٧٤٨-٧٦٢ ه ) ، والأشرف شعبان ( ٧٦٤-٧٧٨ ه ) ، وقد تولى في عهد كل منهما وظيفة أمير سلاح ، ونال في عهد ثانيهما حظوة وثقة خاصة ، فتقلب في نيابات صفد وطرابلس وحلب ، واختير في أواخر أيامه لنيابة دمشق ، ثم عاجله الموت وهو

في الطريق إليها سنة ٨٧١ ه . ولدينا أيضًا معلومات قليلة بصدد جدِّ ابن إياس لأبيه ، واسمه إياس الفخري ، وهو من مماليك السلطان الظاهر برقوق ، وقد تأمر سريعًا ، وتولى وظيفة الدوادار الثاني في عهد السلطان الناصر فرج ابن برقوق ( ٨٠١-٨٠٨ ه ) .

أما والد ابن إياس ، واسمه شهاب الدين أحمد ، فكان على حد قول ولده " من مشاهير أبناء الناس " ، أي أنه كان من أفراد تلك الفرقة المملوكية التي ضمت أولاد الأمراء من المماليك المندرجين بالوفاة ، وقد جرت العادة أن يعطى للواحد منهم إقطاع متناسب مع رتبة " أمير خمسة " في النظام الحربي المملوكي ، رعاية لسلفه ، بشرط أن يندمج في الرديف السلطاني ، ويكون صالحًا للخدمة في إحدى الوظائف المدنية الصغرى في زمن السلم (١) .

وقد ذكر ابن إياس عن أبيه أحمد هذا أيضا أنه كان من المحببين إلى كثير من أمراء الدولة وأربابها ، وأنه عاش نحوًا من أربع وثمانين سنة ، وأنجب في حياته الطويلة خمسة وعشرين ولدًا ما بين ذكور وإناث " غير المسقوط " ، بقى منهم بعد وفاته سنة ٩٠٨ ه بنت وصبيان ، أحدهما محمد ابن إياس نفسه ، وثانيهما الجمالي يوسف . أما البنت فلعلها هي التي مات عنها زوجها الأمير فرقماس المصارع ، وكان من أمراء العشرات في زمن السلطان الأشرف

قايتباي ، ووظيفته أمير آخور رابع في البلاط السلطاني ، وقد قتل سنة ٨٧٧ ه في وقعة البيرة على نهر الفرات ، حيث ظَفِر الجبش المملوكي بقيادة الأمير يشبك بن مهدي بجيوش حسن الطويل (أوزون حسن ) ، ملك التركمان المعروفين باسم الشاة البيضاء Ak Koyenlo وأما الجمالي يوسف فكان بالزردكاشية (هندسة المدفعية ) ، في عهد السلطان الأشرف قانصوه الغوري (٩٠٦-٩٢٢ ه ) ، ويظهر أنه كان خبيرًا بفنه ، وبيده وظيفة رئيسية في عمله .

يتضح من هذه الإشارات المنوعة أن ابن إياس نشأ في وسط مملوكي بحت ، وأنه مَتَّ إلى بعض رجال الدولة المملوكية في عصر قايتباي والغوري بصلة المصاهرة والقرابة غير أنه مما يدعو إلى العجب أن أحدًا من معاصريه لم يترجم له بكثير أو قليل ، وأن مبلغ ما يعتمد عليه لإنشاء ترجمة حديثة لهذا المؤرخ الكبير لا يعدو نقضا مبعثرًا في كتبه التي ألَّفها ؛ وعبثًا يرود الطالب في غير ذلك من الكتب المعاصرة والمتأخرة ، كمؤلفات الشيخين جلال الدين عبد الرحمن السيوطي وعبد الباسط بن خليل الحنفي ، وهما من أساتذة ابن إياس بتقريره ، وكمؤلفات السخاوي والغزي والأعظمي والبوريني واليمني والمحسبي والمرادي ، وهم أصحاب كتب التراجم المعروفة للقرن التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر للهجرة .

على أن فقدان هذه الترجمة لابن إياس لا يُعجز الكاتب أو يعييبه عن محاولة الكتابة فيه ، بل هو خسارة مشوبة بربح وإن كان سلبيًا ، إذ يصبح اعتماده مقصورًا على ما هنالك من إشارات للمؤلف عن نفسه ورجال عصره فيما ألَّف من كتب ، فيستشف منها موقفه من الحوادث ، ويسير بها دخائل شخصيته وأخلاقه . ومن تلك الإشارات الخاصة بهوية ابن إياس أنه كان كأبيه شهاب الدين أحمد ، وكأبي المحاسن أيضًا ، من " فرقة أولاد

الناس " . وقد حج سنة ٨٨٢ ه دون أن يقوم على على وظيفة معينة ، كتلك التي أسندت إلى أبي المحاسن في حجته ، على أنه شاهد ما لقيه الحاج ذاك العام من عنت وغلاء وفناء بمكة ، بسبب ما وقع وقت ذاك بين السلطات المملوكية وبعض المكيين ، وجاء وصفه لما حدث مثلا لما كان هنالك من دخن دائم وكره متبادل بين ممثلي السلطان وذوات الحجاز وأمرائه طيلة عهد المماليك .

وقد ظل ابن إياس معظم حياته متمتعا بإقطاع وافر ، يرجح أنه من لدن السلطان الغوري ، فعاش عيشة راضية ، واشتغل بالكتابة والتأليف في التاريخ ، وبنظم الشعر والزجل والمواويل والموشجات والمزدوجات في مناسبات شتى . على أن منظومات ابن إياس توجب الالتفات . فمنها ما هو مدح أو رثاء لسلطان أو سلطانة أو أمير ، ومنها ما هو تهنئة من مرض أو محنة لعين من أعيان الدولة ، ومنها ما هو نقد أو تعقيب على بعض الأعمال الحكومية . فهل نستخلص من تلك القرائن ، كما فعل مارجوليوث (Margoliouth) ، أن ابن إياس كان يشتغل بوظيفة مؤرخ الدولة (historiogropher) في الحكومة المملوكية ، برغم أنه لم يذكر شيئًا من هذا على التعيين في كتبه ، وبرغم أن وظيفة بهذا الاسم لم تعرف في نظام المماليك ؟ أو نقول بأنه كان من رجال الأدب المشغوفين بالعيش على هامش الحاشية السلطانية ، المتصلين ببعض رجالها كأبيه من قبل ، وإنه اعتمل نظم الشعر اجتذابًا للشهرة كلما واتته فرصة ؟ أو نرتجح أنه كان يريد لنفسه مع السلطان الناصر محمد بن قايتباي مركزًا مشابها لمركز العيني مع السلطان برسباي ؟ على أنه مهما يكن من ترجيح أو ميل لهذا أو ذاك أو غيره مما يحتمل أن يكون وظيفة لابن إياس في المحيط المملوكي ، فالواضح من أشعاره هذه ومناسباتها الخاصة والعامة ، أنه كان فردًا متتبعًا عن كثب

لحوادث المجتمع الذي تقلب فيه ، وليس ذلك بصفته مؤرخًا معنيًا بتدوين الحوادث والأخبار ، بل لأنه كان رجلا حيًّا حسَّاسًا بما يجري في دولة قد بدت بها مخايل الاحتضار والزوال ؛ وربما كان أوضح دليل على هذه الحساسية فيه قصيدته بصدد إلغاء ضرائب المشاهرة التي ألغاها السلطان الغوري في أواخر أيامه ، ومرثيته التي قالها في وقعة الفتح العثماني لمصر .

ولقد حدث لابن إياس في أواسط سنة ٩١٤ ه ما عكس عليه صفو حياته المطمئنة ، إذ تأزَّمت أحوال السلطان الغوري لضيق سبل المال اللازم للصرف على مماليكه . فعمد السلطان إلى إخراج " أولاد الناس " من أجناد الحلقة عن إقطاعاتهم ، وقطعِ الرزق الأحباسية والأوقاف عن أهلها ؛ وأطلق لمماليكه العنان ليهاجموا أصحاب تلك الإقطاعات في بيوتهم ، ويأخذوا منهم مناشيرها غصبًا وضربًا ، إذا احتاج الأمر إلى الضرب والإخراق و " البهدلة " . ونال ابن إياس من تلك الكارثة ما نال غيره من أبناء طبقته ، وفُرق إقطاعه الوافر على أربعة من المماليك بمكاتبات سلطانية ؛ غير أنه لم يُحرم من إقطاعه مدة طويلة ، إذ وقف للسلطان الغوري في أواخر سنة ٩١٥ ه بقصة يشكو فيها حاله ، وقدَّمها إليه وهو ينزل للعب الكرة بميدان القلعة ، فاستجاب السلطان شكاوته ، ورد عليه إقطاعه ؛ ومدحه ابن إياس من أجل ذلك بقصيدة طويلة من نظمه المعتاد .

على أن ابن إياس لم يكن من المعجبين حقًا بالسلطان الغوري وأعماله ، يشهد بذلك ما كتبه بصدده بعد وفاته في كثير من المناسبات بكتابه الكبير في التاريخ ، واسمه "بدائع الزهور في وقائع الدهور " . وهذا الكتاب الشامل لتاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى أوائل العهد العثماني ، هو الذي جعل ابن إياس خليقًا بمركز الزعامة بين

معاصريه من المؤرخين في مصر ، في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر للهجرة . وقد بدأ ابن إياس في تأليف كتابه هذا حوالى سنة ٨٩٩ ه ، وظل معنيًّا به حتى أواخر أيامه ، فجاء في أحد عشر جزءًا ، وكان في عزمه أن يضيف إليه ليكتمل اثنى عشر جزءًا (١) ، لولا موته سنة ٩٣٠ ه . ولقد تناول النساخون هذا الكتاب فنقلوا منه نسخًا بعضها كاملة وافية ، وبعضها مختصرة ناقصة ، والثانية هي أغلب ما بأيدينا منه حتى الآن ، ومن إحدى هذه النسخ الناقصة نشر الكتاب في القاهرة ، فجاء بعيدًا عن الأصل ، خلوًا من أهم جزء من أجزائه (٢) .

ومن مؤلفات ابن إياس في التاريخ أيضًا " عقود الجمان في وقايع الأزمان " وهو مختصر مستقل لتاريخ مصر ، وليست له أية علاقة بكتابه الكبير أو بالنسخ المختزلة منه ، و " نزهة الامم في العجائب والحكم " ، وهو كتاب صغير في تاريخ العالم ، و" مرج الزهور في وقائع الدهور " . وهو مؤلف شعبي في قصص الأنبياء والرسل ، وربما كان لغير ابن إياس من المؤلفين ، برغم إشارته لبعض محتوياته في الفصل السابع من الجزء الأول من " بدائع الزهور" . ولابن إياس أيضا " نشق الأزهار في عجائب الأقطار " , وهو كتاب في الفلك والهيئة وتركيب الكون (cosmography) وآثار مصر الفرعونية وملوكها ، وقد

ذكر ابن إياس في مقدمته له أنه قصد بتأليفه أن يجمع فيه أغرب ما سمع وأعجب ما رأى ، ولا سيما " عجائب مصر وأعمالها ، وما صنعت الحكماء فيها من الطلسمات المحكمة في البرابي" ؛ وكان فراغ ابن إياس من تأليف هذا الكتاب سنة ٩٢٤ ه ، وكثيرًا ما استمد منه علماء أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي .

على أن شهرة ابن إياس تستند كلية إلى كتابه الأول في التاريخ ، فقد صار به عمدة المؤرخين في أحوال دولة المماليك وأخبارها في الطور الأخير ، والمرجع الرئيسي لحوادث فتح العثمانيين لمصر . ولقد ميَّزه مارجوليوث عن جمهرة المؤرخين المسلمين في مصر وغيرها بقوله : " إن أسلوبه في الكتابة والتأليف ، ونمطه في التفكير ، ينم كل منهما عن فردية واستقلال في الرأي قل أن يقربه فيه معظم المؤرخين (١) . والواقع أنه كان على جانب من القدرة في النقد ، فلم يكفه سرد الحوادث والوقائع والوفيات على وتيرة أغلب السالفين من كتاب التاريخ ، بل وقف بين الحادثة والأخرى ليشرح ويعقب ويفلسف ، مع شئ من القسوة في الحكم ، والجرأة في التقدير ، والمغالاة نوعا في التصوير . وربما شجعه على ذلك اتصاله ببعض أعيان البلاط السلطاني في عهود مختلفة ، كالأمير تمراز الأتابك ، والأمير أقبردي الدوادار الكبير ، وكلاهما من رجال عصر قايتباي ، وكأبي بكر بن مزهر ، وولده البدري محمد ، والقاضي محمود ابن أجا ، وقد شغل كل منهم وظيفة كاتب السر في الدولة ؛ وهذا فضلا عن صلته بأخيه الجمالي يوسف ، فقد كان يمده بما يجري بالقلعة من أخبار ، ولا سيما أخبار المدفعية التي عُني ابن إياس بتدوينها والإشارة إلى إهمالها في عهد الغوري .

أما عن أخلاق ابن إياس ، فلا سبيل لمعرفة ما اشتهر به من صفات عند معاصريه ، ما دام الموجود من كتب المعاصرين والمتأخرين لا ينبيء عنه بشيء البتة . على أن كتبه التي ألَّفها ، وملاحظاته التي أودعها إياها عن نفسه وحوادث عصره ورجاله ، لتدل على الكثير من كنه شخصيته الكبيرة : فضخامة مؤلفاته برهان على أنه كان مجدًا في الكتابة ، ودؤوبه على تدوين الحوادث يومًا يومًا وشهرًا شهرًا في الأجزاء المعاصرة من تاريخه يشهد بدقة ملاحظته وشدة استقصائه للحقائق ، وقسوته في الحكم على الناس قد تخبر بعلو مستواه الخلقي ، وتناوله الحكم العثماني في مصر بالنقد والسخرية أحيانًا لإهمال رجاله مصالح المصريين ، وذلك برغم ما أحاط السيادة العثمانية في القاهرة من رهبة وخشية ، يعطيه مكانة سامية بين المؤرخين وغير المؤرخين . ومن يدري ؟ ربما كان موقفه هذا من الحكم العثماني هو السبب في خفاء ترجمته من كتب التراجم .

اشترك في نشرتنا البريدية