تقدم إلى قراء الرسالة كاتبا جديداً من نوابغ الشبان الذين جمعوا بين الثقافتين الشرقية والغربية وهو الأستاذ (عمر الدسوقى فقد تخرج في دار العلوم سنة ،1922 ثم أرسل إلى انجلترا للتخصص فى اللغات السامية ، قدرس منها الحبشية والحميرية والآرامية والعبرية ، ودرس إلى جانب ذلك اللغات الفرنسية فى انجلترا وجرنويل بفرنسا، والألمانية بانجلترا وجامعة «بن » ، ودرس أيضا الفلسفة في جامعة لندن ، وحاز بكالوريوس الشرف في اللغات السامية من معهد اللغات الشرقية بلندن . وقد وعد الاستاذ أن يخص الرسالة ببحوثه القيمة في المواد التي تخصص فيها
ما الفكرة التى حدث بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء وتذكير بعضها الآخر ؟
وهل كان هذا التقسيم معتمداً على فكرة تشبعت بها أذهانهم وتصوراتهم أم كان ذلك عفويا ومن غير قصد ؟ لماذا كان الذهب مذكراً والفضة مؤنثة ، والكرسي مذكراً والمائدة مونثة ، والبيت مذكراً وافدار مؤتئة ، والقمر مذكراً والشمس مؤنثة ؟ تسأل علماء اللغة وكتب اللغة فلا تجد جواباً شافيا ، اللهم إلا هذا التقسيم القديم، وهو انقسام الاسم إلى مذكر ومؤنث ، والمؤنث إلى حقيقى وغير حقيقى و معنوى ومجازی ولفظى ؛ ولكن لماذا لحقت تاء التأنيث وأخواتها المؤنث غير الحقيق؟ أو لماذا اعتبروا بعض الأسماء مؤنثاً ولو لم تكن بها إحدى علامات التأنيث : هذا ما سيدور عليه البحث الآنى :ـ
مجد فى اللغات الأوربية الهندية مذكرا ومؤثنا، والفاظ لاهى بالمذكرة ولاهى بالمؤنثة، وهي ما تسمى بالانجليزية Neuter، وأن بعض اللغات الأوربية قد اقتصر على المذكر والمؤنث كالألمانية والفرنسية ، ونجد بعض كلمات في الانجليزية مؤنثة أو بعبارة أصبح تعتبر مؤنثة، مع أنها بعيدة عن فكرة التأنيث من
حيث ( الجنس » أى فمثلاً كلمة Ship؛ سفينة مؤنثة ، وكلمة moon أى قمر مؤنثة، وكلمة engine أي آلة مؤنثة، ولكنها كلمات قليلة لعلها أثر من آثار الماضى . أما اللغات السامية فقد اتحدت على تقسیم الاسم إلى مذكر و مؤنث ، واتحدث في الأسماء التي تؤنث ، وهذا ما جعل المستشرقين - ما عدا نود كه وقنسنج يقولون إن السامين قد قاموا بهذا التقسيم حينما كانت لفتهم لا تزال لغة واحدة Proto-Semitic ، وإن نظرتهم إلى الأشياء كانت نظرة عميقة جعلهم يتخيلون فها المذكر والمؤنث .
اعتبر العرب بعض الأسماء مؤنثة وإن لم تكن بها علامة تأنيث ، ولا تدل على مؤنث من حيث الجنس كالدار والنار ، والذراع والأسبع ، والسوق والمين ، والأرض والأذن والمين والسن والشمس والحرب ، وهذا ما يسمى مؤندا مجازياً ، وتجد من هذا النوع خمسة عشر اسما في جسم الانسان ، وأحد عشر اسماً من أسماء الآلات، وأحد عشر اسما لأجزاء السماء والأرض، و اسمين للأمكنة، وخمسة للحيوانات (۱). وبلاحظ أن هذا المؤنث
المجازى يخرج تدريجيا في بعض اللغات السامية من المؤنت إلى المذكر ؛ فمثلاً كلمة ( رحى ) وكلمة ( كأس » نجد كلا منهما في العربية والسريانية مؤنثة وفى الآرامية مذكرة ، ومؤنثة تارة ومذكرة أخري في اللغة العبرية . وخذ مثلاً كلمة «شمس» تجدها مؤنثة دائماً في اللغة العربية ، ومذكرة دائماً في الآشورية، ومؤنثة تارة ومذكرة أخرى فى الأرامية والعبرية
أما في الحبشية فقد تطورت هذه الكليات تطوراً آخر ، فحينما نسي الناس الفكرة الأصلية للمؤنث والمذكر حدث خلط حتى في الكلمات المنتهية بإحدى علامات التأنيث (۳) ويظهر أن هذا الانتقال من المؤنث للمذكر لم يتبع في كل بال انتقال الكلمة من معناها الأولى إلى معنى جديد كما حدث فى كلمه ( دار ( حين أصبحت في العبرية ( دور » بمعنى الجيل ، وانتقلت بذلك من المؤنت إلى المذكر ، بل ربما كان هذا الانتقال لضعف فكرة التأنيث كما فى ( رحى وكأس )
وقد استرعى نظر بعض العلماء وجود بعض علامات التأنيث لا فى الاسم الدال على مؤنث حقيق فحسب ، ولا في الأسماء التي اعتبرها الساميون مؤنثة لفظاً ، بل في بعض المصادر وبعض الجموع، وكثير من الكلمات التي تدل على الكثرة واللقوة . فنجد الألف المقصورة علامة من علامات التأنيث كما في سلمي
وحبلى ، وليلى ؛ ومجدها في جمع فسيل ، تسريع و صرعى وجري وجرحى ، وقتيل وقتلى ، وميت وموتي ... الخ . ومعنى هذا أنه لا فرق في العلامة بين صيغة المؤنث وصيغة الجمع .
وتجد الألف الممدودة علامة من علامات التأنيث كما في شقراء وزرقاء وصحراء ، وورقاء ، وتجدها في جمع فصيل بمعنى فاعل إذا كان وصفاً لعاقل ممثل اللام أو منفاً مثل أغنياء وأشداء وأقوياء؟ وتجدها كذلك في جمع فعيل بمعنى فاعل وصفاً لماقل غير ممثل اللام ولا مضعفاً مثل كرماء وجبناء ، وبخلاء وسعداء وعظماء ؟ وهذان الجمعان من جموع الكثرة .
ونجد أيضاً التاء علامة من علامات التأنيث كما في فاطمة وسكينة ؛ وتجدها كذلك في بعض أوصاف الذكور للمبالغة كعلامة وفهامة وبحاثة ، وراوية وتابعة ، وداهية وقعدة ، وجثمة (۱) ، ونجمة ونؤمة ، وفى العبرية ( قوحلة ، وهو الذى يوم الناس في الصلاة. ونجد أيضاً هذه الناء تلحق الجموع لفاعل وفعلة ، وخائن وخونة ، وعامل وعملة ، وكاتب وكتبة ، وكامل وكملة ، وطعام وأطعمة ، وغلام وغلمة ، وسي وسبية ، وجهبذ وجهابذة ؛ وفى العبرية « أو رحاه » جماعة المسافرين .
وتأتى هذه الناء في المصادر كتجارة وزراعة وصباغة ، وحمرة وزرقة ودكنة وعذوبة ونباهة ، ومجادلة ومسابقة ومخاصمة ، ودحرجة ووسوسة وبعثرة وزمجرة ، وتلبية وسيطرة
واثناء في السريانية كعلامة للمبالغة والكثرة والمصدر والمؤنث ليست نادرة ولكنها تأنى مع ( آن » وذلك موجود بالعربية أيضاً ؛ قمندنا في المصدر غليان وفيضان وخفقان ، وفى الوصف عطشان وظان، وفى الجموع إخوان وفرسان و شجعان وفتيان وغلمان و وامان و سودان و حمران (۲) ، وهي الصيغة المألوفة في الحبشية لجمع المقلاء ونموتهم ؛ ونجدها في العبرية بأسماء التفضيل دلالة على بلوغ النهاية : ريشون » الأول ، و «آمرون » الآخر
و( حيصون ) الخارج ، و ( حيخون » الداخل ، و «مليون» الأعلى ... الخ وتأتي في الآرامية علامة مجمع المؤنث . ويقول الأستاذ مولر Miller إنها كانت أول الأمر آت : كما في مسلمات وفاضلات ، وأصبحت ( آن » قياساً على جمع المذكر في الآلة وعلامته الماء والنون
وليست هذه العلامات قاصرة على المؤنث والجمع والمصدر ، ولكنها تلحق الكلمات الدالة على أمور معنوية : مثل رحمة ، ورأفة ، وشفقة ، وقسوة ، وغلظة ، وكرة ، وحياة ، وشقاوة ، وسعادة وبلواء وبأساء وبغضاء ، والعلامة هنا تدل على «شدة» ومتانة فى الدي entensity كما يقول العلامة فنسنج Winding ، ويقول أيضاً إنها تلحق المصغر لتفخيمه وتعظيمه مثل حديا ومجيلى
يدلنا كل هذا على ما يأتي :- أولاً : ليس للمؤنث علامة خاصة به من حيث كونه مؤنثاً باعتبار الجنس
ثانياً : وجود صلة وثيقة بين المؤنث والجمع والمصدر والأسماء الدالة على الكثرة والقوة والأمور المعتوبة
ثالثاً : هذه الصلة هي دلالة الجميع على بلوغ النهاية وتركز الفكرة ومتانتها
رابعاً : وعلى هذا فالفكرة التي حدت بالساميين إلى ثانيت بعض الأسماء تأنيثاً حقيقياً أو غير حقيقى هي دلالة هذه الأسماء على بلوغ النهاية في بابها أو لعظمها (٢) وما عليك إلا أن تقرأ صفحة من أحد معاجم اللغة في باب الهاء لترى ذلك واضحاً جلياً: فالقهقهة شدة الضحك ، والكره العمى ولد به الانسان، وانكته جوهر الشي ، وغايته، والكهة الناقة الضخمة المسنة المجوز ... الخ (۳) وسأبين في المقال الآتى إن شاء الله لماذا نظر الساميون هذه النظرة المعاودة إكباراً وتعظيما للمؤنث .

