كان في أحد البلاد في الأزمنة القديمة رجل فقير ، يحبه الناس كثيرًا لصلاحه وأمانته ، ولم يكن له من الاطفال إلا ولد واحد ، وكان هذا الولد جميل الصورة سعيد الطالع ، كل من رآه أعجب به واستبشر ؛ وكان قراء الكف والمنجمون يقولون إن نجمه سعيد وإنه عندما يبلغ الرشد سيتزوج بنت السلطان .
واتفق أن خرج السلطان ذات يوم كعادته مستخفيًا متجولًا في أنحاء الملكة ، ومر بذلك البلد ، فسمع الناس يتحدثون عن الولد السعيد ، وعن نبوءة المنجمين له ، فغضب لما سمع ، وأخذ يفكر في حيلة يتخلص بها من هذا الولد ، وأخيرًا ذهب مستخفيًا في صورة أحد السائحين إلى والد الطفل وقال له : " إنني رجل غني ، وأنا وزوجتي نحب الأطفال كثيرًا ، وقد وهب الله لنا نعم الدنيا وخيراتها ، ولكنه لم ينعم علينا بولد ، فهل لك أن تعطينا ابنك هذا لنتبناه ، ولنربيه تربية حسنة ، ونحن نعطيك ما تطلب من المال ؟ " فتردد الرجل الفقير طويلا ، ولكنه قبل في النهاية بعد طول الالحاح ، ودعا الله أن يحفظ ابنه من الأذى والضرر .
أخذ السلطان الولد وسار حتي غاب عن الأنظار ، ثم وضعه في صندوق ، واستمر في السير إلى أن وصل إلى ترعة جارية فرماه فيها ؟ وقد عام الصندوق مع التيار ، وسبح بجواره روح من الأرواح الطيبة يحرس الولد من السوء ،
ويمنع الماء من الوصول إليه . ولم يزل الصندوق يسير على الماء حتى وصل إلى مكان يبعد عن عاصمة السلطة بنحو ميلين ، ورسا هناك بجوار ساقية لأحد الفلاحين ، ولما رآه الفلاح أخرجه من الماء وفتحه ، فوجد فيه طفلا صغيرًا مليح الصورة ، ففرح فرحًا شديدًا ، وذهب إلى أهله مسرعًا ، فكادت زوجته ترقص من شدة الفرح ، وقالت إن هذا الولد كنز من السعادة أرسلته إلينا السماء .
ترعرع الولد في هذا المكان وكبر ، وأحبه جميع الناس ، لحسن صورته ، وسعادة طالعه ، ولأنه كان لا يقول إلا الخير ، ولا يعمل إلا الصالح . يعامل الكبار بالطاعة والاحترام ، ويعامل الصغار بالشفقة والإحسان ، ويلتزم الصدق والأمانة في اللعب وفي العمل . وتصادف أن مر السلطان بجوار الساقية فلمح هذا الشاب الصغير وأعجب به وقال للفلاح : " أهذا ولدك ؟ " فأجابه : " لا يا مولاي ، ولكني وجدته في صندوق في الترعة منذ أربع عشرة سنة وقد اتخذناه ابنًا لنا وأحببناه حبًا عظيمًا " . فأدرك السلطان أن هذا هو الطفل السعيد الذي وضعه في الصندوق وألقاه في الترعة وهو صغير ، وتعجب من نجاته من الغرق ، ولكنه كتم غيظه ، وأخذ يفكر في حيلة أخرى ، وأخيرًا قال للرجل : " إن هذا الولد لطيف حقًا ، وإني أريد أن أبعثه بخطاب إلي السلطانة ، فهل يمكن أن تستغني عنه لحظة قصيرة ؟ " فأجاب الرجل : " بكل سرور يامولاي "
كتب السلطان الخطاب ، وأرسله مع الولد إلى السلطانة يقول فيه : " إذا وصل إليك حامل هذا الخطاب فأمري بقتله ودفنه سريعًا , وتخلصي منه قبل أن أرجع " وقد بدأ الطفل مسيره إلى بيت السلطان ، ولكنه ضل الطريق ، وأدركه الليل وهو أمام كوخ صغير ، فطرق
الباب فخرجت إليه امرأة عجوز ، وقالت له : " أي شئ جاء بك هنا يا بني ؟ وإلى أين أنت ذاهب ؟ " فأجابها : " إني ذاهب إلى السلطانة , أحمل إليها خطابًا من السلطان ولكنى ضللت الطريق ، فإذا سمحت لي بالمبيت هنا كنت شاكرًا ؟ " فقالت له : " إن هذا الكوخ يسكنه لص فظيع ، وإني أخشى عليك منه إذا رجع ووجدك هنا " .
ولكن الولد المسكين كان قد حل به التعب وغلبه النوم ، فوضع الخطاب بجواره واستلقى على الفراش ونام نومًا عميقًا . وبعد لحظة رجع اللص وأصحابه ، فلما أبصروا الولد نائمًا استغربوا وسألوا العجوز عنه ، فقالت : " إنه ضيف الليلة ، وقد كان ذاهبًا بخطاب إلى بيت السلطان فضل الطريق " . ولما رأى اللص الخطاب بجوار الولد أخذه وفتحه ، وأعطاه لواحد من أصحابه - وكان يعرف القراءة - ليقرأه له ، فلما عرفوا ما فيه سخطوا على السلطان ومزقوا الخطاب ، وكتبوا خطابًا آخر على لسان السلطان صيغته : " إذا جاءك حامل هذه الرسالة فزوجيه بنت السلطان " . ثم تركوا الولد ينام إلى أن أصبح الصباح ؟ فأيقظوه وأعطوه شيئًا من الفطور ودلوه على الطريق الموصل إلى بيت السلطان . فلما وصل وقرأت السلطانة الخطاب فرحت وشرعت في الاستعداد لزواج الأميرة
بعد أيام قليلة رجع السلطان فوجد الأفراح والزينات وأدرك أن النبوة قد تحققت ، وأن الولد السعيد الحظ قد تزوج من بنته ، فغضب وقال : " أنا لا اسمح لرجل أن يتزوج بنتي إلا إذا ذهب إلى المغارة المسحورة وأحضر لي ثلاث شعرات ذهبية من رأس المارد الذي يحكم تلك النواحي " . فقال الولد : " إني سأقوم بهذا " وفي الحال ودع زوجته الأميرة . وخرج في رحلته الطويلة وسار حتى بلغ أول مدينة في الطريق ، فقابله الحراس على باب المدينة واستوقفوه وسألوه : " ما نوع عملت ، وماذا تعرف من الأشياء ؟ " فأجابهم : " إني أعرف كل شيء " فقالوا له : " إذاً فأنت الرجل الذي نريده ، إن عندنا عين ماء في
سوق المدينة ، وقد جف ماؤها ، فهل تتكرم فتخبرنا عن السر في جفافها ؟ إنك إن فعلت هذا أعطيناك حمارين محملين بالذهب " . فقال الولد : " نعم سأخبركم عن سر هذا الموضوع ، ولكن بعد رجوعي " .
ثم سار الولد وسار ، حتى وصل إلى المدينة الثانية ، فقابله الحراس على بابها ، فسألوه - كما سأله حراس المدينة الأولى - عن نوع عمله وما عنده من المعرفة ، فأجابهم : " أعرف كل شيء " . فقالوا له : " إن عندنا شجرة كانت تنتج تفاحًا من الذهب ، والآن قد جفت وسقطت أوراقها ، فهل تعمل معنا معروفًا فتخبرنا عن السر في هذا ؟ " فأجابهم : " نعم ، بكل سرور ، ولكن بعد أن أرجع " .
ثم سار وسار حتى وصل إلى بحيرة عظيمة لا بد له من عبورها ، فنادى صاحب المعدية وركب في قاربه ، وابتدأ الرجل يجدف . وبعد قليل سأله عن عمله وما عنده من المعرفة وفأجاب " أنا أعرف كل شيء " . فقال صاحب المعدية ؛ " أرجو منك - إذاً - أن تخبرني عن سر ما أنا فيه من الحبس ، فقد مضت عليَّ عدة سنين وأنا أجدف على هذه البحيرة ولا أستطيع الخروج منها " فقال له الولد : " نعم سأخبرك ولكن بعد أن أرجع " .
ولما خرج الولد من البحيرة وجد نفسه أمام المغارة المسحورة فدخلها ، ولكنه لم يجد المارد الذي يحكمها ، بل وجد جدته العجوز ، فسألته قائلة : " ماذا تريد يابني ؟ " فأجابها : " أريد ثلاث شعرات ذهبية من رأس المارد " فقالت له العجوز " هذه مجازفة من جانبك ، ولكني سأحاول أن أساعدك " وفي الحال غيرته إلى صورة نملة ، وخبأته بين ثيابها . فقال لها : " وأريد أن أعرف أيضًا أجوبة الأسئلة التالية : لماذا جفت عين الماء في المدينة الأولى ؟ ولماذا ذبلت الشجرة التي كانت تنتج تفاحًا من الذهب في المدينة الثانية ؟ وما الذي يحبس صاحب المعدية ويمنعه من ترك البحيرة ؟ " فقالت العجوز : " هذه أسئلة صعبة ، ولكن ارقد في مكانك هادئًا واستمع لما يقوله
المارد عند ما أجذب الشعرات الذهبية من رأسه " .
ولما حل الظلام رجع المارد إلى منزله ، وفي الحال وجد ريح آدمي في المنزل فزمجر وأخذ يبحث هنا وهناك . ويقلب كل شيء ولكن جدته العجوز شتمته و وقالت له : " لماذا تقلب كل شئ ؟ لقد تعبت في ترتيب المنزل وتنظيفه " فلما سمع منها هذا التوبيخ أقبل ووضع رأسه في حجرها ونام . وحين ابتدأ يغط في نومه أمسكت واحدة من شعراته الذهبية وجذبتها ، فقام منزعجًا وصاح : " ارحميني ، لماذا تجذبين شعري ؟ " فأجابته : " لقد حلمت حلمًا مزعجًا ، ومن شدة انزعاجي جذبت شعرك : حلمت أن نافورة الماء الموجودة في ميدان السوق بالمدينة قد جفت ولم تعد تفيض بالماء . فهل تدري ما السبب ؟ " فقال المارد : " آه . . . لو كشف أهل المدينة هذا السر لفرحوا وهللوا : إن هناك حجرًا في النافورة يقطن تحته ضفدع ذكر ، ولو أنهم قتلوه لفاض الماء " .
وما انتهى المارد من قوله هذا حتى كان قد نعس ، وأخذ يغط في نومه ، فجذبت العجوز شعرة ثانية ، فصاح المارد غاضبًا : " ما هذا ؟ وماذا تصنعين ؟ " فقالت العجوز : " لا تغضب ، لقد حصل هذا في نومي ، فقد رأيت في النوم أن هناك مملكة كبيرة ، وفيها شجرة جميلة ، كانت تنتج تفاحًا ذهبيًا ، والآن قد ذوت الشجرة ، وسقطت أوراقها ، فما السبب في ذلك ؟ " فقال المارد : " آه . . إنهم يحبون أن يعرفوا هذا السر ! إن هناك تحت جذع الشجرة فأرًا دائم القرض لها ، فلو أنهم قتلوه لعادت الشجرة كما كانت ، وأنتجت تفاحًا ذهبيًا " .
انتهى المارد من هذا القول وغلبه النعاس ثانيًا فنام ، وأخذ يغط في نومه ، فجذبت العجوز شعرة ذهبية ثالثة من رأسه ، فقفز المارد وهددها ؟ ولكنها طيبت خاطره وقالت : " لقد كان حلمًا غريبًا : حلمت كأني أنظر إلى صاحب معدية كتب عليه أن يجدف على سطح البحيرة جيئة وذهابًا دون أن يستطيع الخروج من هذا الأسر ؟ فما هو السحر
الذي ربطه على هذه الحال ؟ " فقال المارد : " هذا شخص أبله إنه يستطيع أن يفك نفسه من هذا الأسر ، وما عليه إلا أن يعطي الدفة لأي مسافر ، فإن ذلك المسافر يأخذ مكانه ويبقى سجينا على ظهر القارب " .
وفي الصباح صحا المارد وخرج كعادته . أما العجوز فإنها أرجعت الولد كما كان إلى صورته الإنسانية ، وأعطته الشعرات الثلاث الذهبية ، وذكرته بالأجوبة التي سمعها من المارد على الأسئلة الثلاثة . ثم ودعته ومضى راجعًا إلى بلده . فبعد أن سار مدة قصيرة وصل إلى البحيرة ووجد صاحب المعدية الذي عرفه في الحال وذكره بوعده في الإجابة على سؤاله ، فقال الولد : " عدني أولا ، وأنا أخبرك بجواب سؤالك " , ولما وصل القارب إلى الشاطئ الآخر من البحيرة أخبره أن يضع الدفة في يد أي مسافر يمر به ثم ينطلق مسرعًا .
وكان المكان الثاني الذي وصل إليه هو المدينة ذات الشجرة التي ذبلت فلم تعد تحمل تفاحا ذهبيًا فنصح لأهلها قائلا : " اقتلوا الفأر الذي يقرض جذور الشجرة ، وإذاً تعود شجرتكم إلى حمل الثمار الذهبية " . وقد فرح أهل المدينة بنصيحته وأعطوه هدايا فاخرة وودعوه ثم سار حتى وصل إلى المدينة الثانية التي جفت نافورتها ، فأخبر أهلها بالطريقة النافعة ، فشكروه وأعطوه - كما وعدوا - حمارين محملين بالذهب .
وأخيرًا وصل إلى المنزل ففرحت زوجته فرحا عظيمًا بعودته سالمًا غانمًا . وقد أعطى الشعرات الذهبية الثلاث للسلطان ، ولم يستطع السلطان بعد ذلك أن يعترض على الزواج ؟ وعاش الولد وزوجته معيشة سعيدة راضية إلى أن أصبحا ملكا وملكة .
أما السلطان القديم فقد نال جزاءه ، فإنه كان أول مسافر يعبر المعدية بعد ذلك ، فأعطاه الملاح الدفة ؛ فما وضع يده عليها حتى أصبح أسيرًا على ظهر القارب ، ولا يزال إلى اليوم يجدف على سطح البحيرة .
