لم تكن المتاحف لتعطى حقها من التقدير - إلى سنوات خلت - في ناحية القيمة التعليمية والثقافية ، حتى أصبحت قيمتها من هذه الناحية ، تختلف عما كانت عليه من قبل ، وقدرت كما يجب ، ويرجع هذا إلى أن المتاحف كانت تعرف بأنها أمكنة ( تعرض فيها صفوف متراصة من حفربات مختلفة يغطيها الغبار ). وحتى طريقة عرضها لم تكن في تنسق أو تدقيق . ولك كان من الصعب أن تقنع أولئك الذين شاهدوا المتاحف في صباهم ، كيف أنها تطورت ، وأصبح لها خطرها وأهميتها في الثقافة والتعليم .
نعم إن كلمة ( متحف ) لم تتغير ، وإنما الأغراض والمثل التي يرمى إليها منظمو المتاحف في عهدنا هذا ، قد تغيرت تغيرا تاما بالنسبة إلى ما كانت عليه الحال من قبل ، بل إلى عشرين سنة مضت فقط . وأصبحت المتاحف الآن معبرة عن الليل الغريزي المنظم ، في جمع الحفريات وغيرها جمعا منسقا .
ولوحظ أن أول ما يلفت نظر المتفرج في المتحف ، هو ما كان متعلقا بالتاريخ الطبيعي وتطور السلالات البشرية Elhnology ولذلك أصبح من واجب منظمي المتاحف السعي أولا للحصول على ما يجب عرضه بالمتحف وحفظه ، وثانيا ترتيب المعروضات ترتيبا يراعى فيه مطابقته للأصول العلمية من حيث تصنيف المعروضات نفسها ؛ فمثلا تلك الخاصة بالتاريخ الطبيعي لها تصنيفها الخاص ، وما يخص علم الأجناس له تصنيفه الخاص ، وكذا علم الآثار والنبات وغيرهما ، كل له التصنيف المناسب .
ويجدر بنا أن نقول إن التجربة قد أثبتت ضرورة فصل الأعمال الخاصة بالمتاحف عن تلك الخاصة بأبهاء الفن ،
( Art Oalleries) وتكاد الآراء تتفق على أنه في الجهات المليئة بالسكان يحسن هذا الفصل بين الأثنين ، ولا بأس من أن يكون بناء المتحف قريبا من بناء ( بهو الفن) . وهذا علته بسيطة ، وهو أن المتاحف يقبل عليها الجمهور أكثر مما يقبل على أبهاء الفن التي لها جمهورها الخاص .
وجمهور المتحف مختلف باختلاف امزجته ، وقد قسمه الدكتور واليس ( الذي ننقل عنه هذا البحث مما نشره بمجلة إنديفر(Endeavour) إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول ، وهو ما سماء بجمهور المظلة - هم أولئك الذين يدخلون المتحف هاربين من بلل المطر في الطريق ! وإن كانوا يقضون وقتا ما يتأملون إحدى القطع ، قد لفتت نظرهم لجمال شكلها أو لغرابته أو لشئ ما فيها يعرفونه .
والقسم الثاني - هو جمهور المتنورين المهتمين بالمتاحف ، كأعضاء الجماعات الثقافية ، والطلاب الذين يرغبون في زيادة معلوماتهم عما درسوه . وهؤلا ، جميعا لهم اعتبارهم العلمي ، وإن كان محدودا من ناحية زيارة المتحف . فهم ليسوا متفرجين عاديين ، إذا دخلوا المتحف مرة أو مرتين لا يعودون إليه ، بل تتكرر زياراتهم ويطول مكثهم في قاعاته ، ووقوفهم أمام معروضاته .
وأما القسم الثالث ، فهم أولئك الذين يعملون في أبحاث خاصة . يريدون استكمالها ، عن طريق دراسة بعض معروضات المتحف في ناحية خاصة ، ليطلعوا على الوسط العلمي بنظرية جديدة أو رأي حديث ، استنبطوه خلال دراستهم .
لقد رأى أمناء المتاحف في أيامنا هذه أنه إلى جانب جمع وحفظ وتصنيف معروضات متاحفهم ، يجب ان يراعوا لذة التثقيف عن طريق المعروضات . فعليهم شرح كل قطعة للجمهور شرحا وافيا مختصرا ، حتى تحدث الفائدة المرجوة من العرض .
والواقع أن أساس عمل أمين المتحف هو أن يمكن جمهور المتفرجين والدارسين من رؤية الشئ المعروض رؤية واضحة صحيحة ، وذلك بأن يكون موضعها في مكان لا يكتنفه ظلام أو ظلال ، وأمامها بطاقة مكتوب عليها وصف القطعة بعناية ، حتى تكون عاملا تعليميا صادقا .
ولا شك أنه في المتاحف يمكن تصوير وتفسير العلوم المعروفة ، كعلم النبات وطبقات الأرض والحيوان . والمتاحف من هذه الناحية تسهل الدراسة البيئية ecology التي هي أيسر من تنسيق النباتات والحيوانات تبعا لأجناسها . فإذا كان مدخل المتحف قاعة واسعة ، أمكن اعداد " قاعة المناظر الطبيعية diorama بها ، لتصور للرائي تصويرا طبق الأصل منظرا لجهة قريبة بنباتاتها وحيواناتها .
ومن السهل انتقاء كتل من الصخور المحلية وبضعة نباتات وحيوانات محنطة لإقامة تلك القاعة . وفي المتحف الأهلي بويلز بالجزائر البريطانية مثل رائع لهذه القاعة . وقد يحتاج الأمر إلى تعدد قاعات المناظر الطبيعية كلما كان هناك اختلاف في بيئات الناحية ، كذلك يمكن إعداد مناظر بيئية تبين حضارة ما قبل التاريخ وما بعده ، وهذا من صميم أغراض المتاحف . وهذه القاعات إذا أضيئت بطرق الإضاءة الحديثة فإنها تجذب جمهور المتفرجين عامة ( وجمهور المظلة ) خاصة ، الذي قد يستفيد إذا طالت الأمطار فائدة عملية ، بتعرفه إلى البيئة التي يعيش فيها .
وإذا كان الباحث المحقق ، يستفيد من مثل هذه المعروضات ، فإنه - في الواقع ونفس الأمر - أكثر
احتياجا إلى ما هو أكثر تفصيلا ، إذ تلزمه سلسلة من نماذج مبادئ العلوم المختلفة ، كعلم طبقات الأرض والحيوان والنبات والآثار ، تعرض في أبهاء واسعة عرضا علما منظما . وليس الغرض هو عرض نماذج كاملة لجميع حيوانات الإقليم مثلا ، أو حتى حيوات العالم أجمع ، بل الغرض من تلك النماذج هو إعطاء فكرة واضحة سليمة عن مجموعة حيوانات من فصيلة واحدة . كذلك في نماذج النبات ، يجب أن يتجنب العرض السخيف لنبانات الإقليم ، ويكتفى ببعض النباتات الطبيعية والمنزرعة في الإقليم التعطي فكرة كاملة عن البيئة النباتية للأقليم ، وإن الزراعة وفلاحة البساتين والتشجير ، لثروة علمية لمثل هذه المعروضات .
وليس معنى هذا أن نقول إن متحف المستقبل سيكون متحف آراء ، لا متحف معروضات ، بل المقصود أن ابهاء وقاعات العرض ستكون مشتملة علي نباتات مجسمة تمثل التطور والوراثة وغزو الإنسان لعالم المادة ، والنقل في مختلف الصور . ولسوف تغني هذه البيائات المجسمة عن الحيوانات المحنطة والنباتات المجففة ، وقطع المعادن وغير ذلك . .
وبمثل هذا يمكن لزائر المتحف أن يدرس الإنسان وعمله أيام سكنه الكهوف ثم الاكواخ ثم المنازل والقصور ، وأيام عريه ثم ستر عورته ثم تفننه في الملبس ، وهكذا . ويوجد مثل رائع لهذا في متحف نيوارك بنيوجرسي بأمريكا .
وتملك معظم المتاحف قطعا مما قبل التاريخ وعصوره الأولى ، مما يوجد في مناطقها ، وكذا عددا كبيرا من المعروضات الخاصة بدراسة الأجناس البشرية ، تبين لنا فنون وصناعات مختلف الشعوب ، وهذا ما اهتم له منظمو المتاحف أيما اهتمام . ولا شك أن هذا من شانه أن يرينا كيف كان يعيش أجدادنا في الزمن السالف ، وحتى إلى مئات السنين القريبة .
وبذلك أصبح المتحف لدى الكثيرين عاملا مهما لتبيان أن المبادئ الأولية للعلوم ما هي إلا جمع الحقائق والظواهر ، لا لإخراج نظريات ووضع فروض .
هذا ويجب أن يكون في كل متحف إلي جانب القاعة الكبرى والأبهاء المختلفة سلسلة من الغرف الجانبية للطلاب الجادين في عملهم ، على أن تحوي هذه الغرف معظم المجاميع مرتبة بدقة ولها بطاقات الشرح الخاصة بها طبقاً لأساليب الشرح الفنية .
وبهذا كله تغذى المتاحف العلوم بتفسيرات واقعية ، متمشية مع الاتجاهات الفكرية الحديثة ، هي عبارة عن مادة حقيقية معتمدة للبحث . كما أن المتاحف تسير مع اهتمام الجماهير بالعلوم ، ذلك الاهتمام الذي أخذ يتجه نحو المسائل الفلكية والطبية والعضوبة والكيمياطبيعية ؛ وأمامنا الذرة مثلا لهذا الاهتمام ، وقد طغي التفكير والبحث فيها على كل شئ في هذه الأيام ، وأصبح العلماء يقومون ويقعدون ، باحثين في مدى الإضرار ومدى النفع من الذرة . وإذا فلا بأس من عرض صور مجسمة للذرة وتركيبها ومركباتها وغير ذلك ، حتى يتفهم جمهور المتاحف هذا الشئ الذي قرأوا عنه ولم يروه رأى العين . ولم يلمسوه ماديا .
كذا لا بأس من أن تعرض المتاحف نماذج كبيرة تبين الخسوف والكسوف والمجموعات الفلكية ، والتطور التاريخي العلمي في الفكر عن خلق الأرض ، والفوائد الفلكية للمرقب العادي والمرقب الطيفي ، كذا عرض المواد الجديدة التي ظهرت إبان وعقب الحروب الحديثة ، خصوصا مصنوعات العجائن (البلاستيك) والنايلون مثلا ، وطريقة صنعها ؛ وبذلك تمحى الفكرة التى تقول إن المتاحف ما هي إلا امكنة لعرض أشياء أصبحت في خبر كان ، وبذلك أيضا يستفيد رجل العلم ورجل الصناعة ، كل في ناحية عمله ، كما يزداد الشخص العادي معرفة .
ولا يغرب عن البال أن المتاحف في حالات عديدة ، قد تكون منبعا تاريخيا يغذي أسس حل بعض المشاكل الحاضرة خصوصا في الطب والتشريح ، وحتى في علمي النفس والاجتماع ؛ ذلك لأن المتاحف يجب أن يكون من بين أغراض إنشائها أن تبين لنا كيف كان يعيش الناس ويعملون في سبيل الحياة ، وكيف كانوا يتعاملون مع الطبيعة ومنتجاتها .
ولقد أصبحت المتاحف في وقتنا الحاضر في حالة انتقال من العصور الماضية المختلطة بالحاضر ، إلى عصر يقترن بحياة المستقبل . ولما كان العلم يزداد سيادة يوما بعد يوم ، فيجب أن تعد المتاحف لتعريف الجمهور بالعلم ، تعريفا مطابقا لما بلغته العلوم عامة من تقدم .
