أعرف رجلا يعيش رخى الصدر آمن السرب فى دار بهيجة وأسرة حبيبة ورفقة مخلصين، تلقى ذات يوم كتابا من صديقين يدعوانه الى رحلة خارج القطر كانت منذ زمن طويل منتجع خاطره ومهوى فؤاده، فوجد من فرصة الفراغ وجمال الربيع ووفاق الخليط مغريا جديدا بها، ودافعا شديدا اليها، وكان صديقاه يطلبان جوابا حاسما سريعا. فوقف الرجل بين الأمرين وقفة المتخير المتحير، لا يدرى أيظل فى هذا المكان المحبوب الذى يستبقيه، أم يرحل الى ذلك البلد الجميل الذى يستدعيه ؟
بدأ تردده هادئا مقبولا كهدهدة المهد، ثم مالبث أن عاد مزعجا مملولا كاضطراب البحر. كان ترجحه بين الاقامة والظعن أشبه بتأرجح الزورق على الماء الهادئ يدفع الى الأحلام والأوهام. والمتردد واسع الخيال كثير الفروض، فأخذ يقلب الأمرين فى خاطره: يوازن بينهما منفردين، ويتمناهما مجتمعين، ويطمع أن يدركهما متعاقبين.
أزف الموعد والصديقان ينتظران الجواب إيجابا أو سلبا، فلابد أن يخرج من عماية هذه الحيرة ليكتب اليهما، جلس جلسة الكاتب وأخذ أهبته للكتابة، ولكنه لم يكد يقر على الصحيفة يده حتى ساوره الشك فأمسك! واخذ فكره يتنقل بين المكانين، ويفاضل بين المعنيين، حتى انتهى به التردد الى ايثار البقاء.
آثر البقاء لأن الصديقين ربطاه بعدة خفيفة، لا بكلمة شريفة، ولأن فى المتردد جرثومة من جراثيم الكسل؛ المترددون أميل إلى الكف والاحجام، دون العمل والاقدام.
ذلك الى أن مخيلته الخصيبة قد أنبتت له من الذرائع والأسباب ما وافق هواه: كيف يصدف عن مسرة هادئة أكيدة، الى أخرى جديدة غير أكيدة؟ انهم يمتدحون ذلك البلد الطيب هوائه وجمال مناظره، ولم يعلموا أن فى الرحلة اليه والحلول فيه اضرارا تخاف وتحذر! أين يجد ما يعدل زوجته العزيزة وداره الجميلة وحديقته البهيجة؟ لقد أصبحت هذه الثلاث أجمل فى نظره وأجمع لخيره منها قبل ذلك!
أليس من الحمق والجحود أن يغمط الانسان مثل هذه السعادة ؟ على أن هذا البلد بعيد الشقة، ولا بد للراحل اليه أن يبيت ليلة فى القطار على فراش لا وثير ولا وطئ ، أو يعبر البحر متعرضا لدواره وأخطاره ، واذا أصابه مرض فى الطريق أو فى الفندق فماذا تكون عاقبة أمره ؟ ذلك فضلا عن الغذاء الدنىء والمسكن الوبئ والعناء المبرح
أجمع صديقنا فى الأمر رأيه ، ووطن على البقاء نفسه . فكتب الكتاب بالرفض ودفعه الى الخادم ليحمله الى مكتب البريد القريب ، ولكن الخادم لم يكد ينطلق بالكتاب حتى تحرك الشك فى نفسه . وتغير المنظر الماضى فى عينه ، فكأنما سحر ناظره. أو تبدلت مشاعره !
ذلك البلد الذى استخف به منذ قليل تجلى لعينيه فى صورة جذابة أنيقة، وتلك الأحاديث العجيبة التى سمعها عنه تواردت على ذهنه تباعا منمقة الحواشي بسحر جمال المفقود ، وحب استطلاع المجهول ، ثم تمثلت أمام عينيه فوائد تلك الرحلة وملذاتها، فعاد باللائمة على نفسه! كيف عميت بصيرته عن هذه المنافع جمعاء؟ وكيف اعتاقه عن هذا الأمر مئونة الاتفاق والنصب؟ إن متاعب السفر هى الصحة والقوة والحياة! ولا شىء أذهب للعمر وأقتل للمرء من أن يظل قعيد بيته مخلدا الى عيشة رغيدة وادعة . وحياة متشابهة مملة، تلك فرصة ما يحسب الدهر بمثلها يجود!
رحلة ممتعة مفيدة! وإخوان صدق ملئوا ظرفا وعلما! ان ذلك الرفض ضرب من البله والجبن!
تحول ذلك التوبيخ أسى وحسرة، وبلغ به الحنق والشوق والخجل حد الهياج والقلق، فأهوى بيده الى الجرس، وصاح بأحد الخدم أن يرد عليه الكتاب وحامله، فقال له: أن الخادم يا سيدى أنصرف إلى وجهه منذ ربع ساعة!
فارتد الرجل كاسفا حزينا، وانقلب ما حوله مظلما قبيحا، واستولى الضجر على نفسه، وأصبح بيته الجميل الرحب أضيق فى عينيه من كفة الحابل، ثم ما لبث أن عاد الى نفسه وأخذ يفكر فى جواب الخادم، فقرر أن المسافة الى مكتب البريد يقطعها الخادم راجلا فى ربع الساعة، فاذا قطعها هو على سيارة استطاع أن يوافيه قبل أن يضع الكتاب فى صندوق البريد.
وما هو إلا رجع البصر حتى انطلقت به السيارة يشق صوتها المزعج زحام الطريق؛ ولكنه لم يضع قدمه على عتبة البريد حتى كان الخادم خارجا منه وقد أنجز عمله!. بهت صديقنا وكاد يستسلم لليأس لولا أن مر ذكر التلغراف على خاطره، فبرقت أساريره وقال: إن الرسالة البرقية تصل قبل الكتاب فتنسخه. ثم أخذ طريقه الى مكتب التلغراف وبدأ يكتب الرسالة، ولكنه ما بلغ الكلمة الرابعة حتى جمدت يده على الورقة! قال فى نفسه: إن الرسالة البرقية كالكلمة الملفوظة اذا قيلت فلن تسترجع، وسأكون بها مقيدا مأخوذا، إلقى القلم وخرج من المكتب يتنسم الهواء، واخذ يمشي أمام الباب ذهابا وجيئة وهو يسائل نفسه: أيكتب أم لا يكتب؟
دقت الساعة دقتين فارتعد وقال: ما لى أتردد؟ يجب أن أقطع الرأى، فان الوقت وإن طال لا يسع المطال، ثم فكر وقدر، فجاء برأى خليط مبهم لم يلبث أن نزل عنه، وظل واقفا يتصفح وجوه الآراء ليرى الرأى القاطع نصف ساعة كان فيها فريسة الهم والضجر!
إستقبح من نفسه هذا الضعف الشديد، فاقتحم المكتب، وأتم الرسالة ودفعها الى العامل وهو يقول فى نفسه : سأتبعها بأخرى اذا بدت لى فى الأمر بداءة
ثم انكفأ راجعا الى بيته يستعد ويتأهب ! وأقسم أن منظر ذلك البيت الذى يريد أن يفارقه غدا سيحيى فى مخيلته صورة رائعة الجمال شديدة السحر، وأن زوجه وكتبه وأزهاره
وأشجاره ستملك عليه وجدانه . فلا يمنعه الخجل أن يصبح ناكثا ما أمر وناقضا ما أبرم!
لعل فى القراء من يحمل وصف هذا الرجل على المبالغة، ولكنى أؤكد لهم أن مكانه من الصدق مكان صورته الشمسية.
أن التردد مرض من الأمراض لا يؤبه له لندرته. يصيب المرء فى حياته العملية، فيغل يده، ويشل عقله، ويتركه فريسة للألم من ضعفه، والخجل من صحبه. تظهر أعراضه فى صغار الأمور وكبارها، فيكون فى انتقاء الثوب، واختيار الحالة، وفى الاقدام على الزيارة القصيرة، والرحلة الطويلة، ويدخل فى لذاذات الرجل وأعماله، كما يدخل فى إدباره وإقباله.
جرت بين هذا الصديق نفسه وبين زوجه هذه المحاورة منذ اسبوع ، فأنا أنقلها اليك بنصها لتزداد به معرفة. قال وهو يهم بالخروج إلى مكان عمله: - زينب! أتشيرين على بأن آخذ مظلتى؟ - افعل يا على ما تشاء. - أتظنين أن السماء تمطرنا اليوم؟ - وما يدرينى؟ - آخذها والسلام ! - حسنا تفعل . - ولكنها تضايقني إذا لم تمطر السماء. - دعها اذن! - ولكن المطر إذا نزل بلل طربوشى وثوبى. - خذها اذن ! - ما هذه الحماقة ؟ وما هذا التردد بين الأمر والنهى ؟
ليس للمشير إلا رأى واحد ! فهل ترين أنى أحسن اذا أخذتها ؟
- نعم ! - سآخذها إذن . - ولكن الهواء دافىء، والسماء مصحية، وأخشى إذا دام الجو كذلك أن اذهل عنها فأفقدها؛ سأتركها قطعا !
ثم سار يريد الخروج فلمحها معلقة على المشجب فأخذها وهبط السلم ذاهلا، متباطئا، حتى بلغ البواب فدفعها اليه.
