الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 112الرجوع إلى "الرسالة"

المثل الأعلى في السينما حياة عبقرية متألمة، اللحن الذي لم يتم

Share

-  ١ - قد يكون الإقبال على هذا الفلم الناطق بالألمانية ضعيفاً، لأن  مخرجه لم يترك مجالاً للمادة تعبث بالفن، وللمصلحة تغلب على  العاطفة، وللعبث تسطو يداه على   (مثل أعلى)  ألفته عبقرية -  أقامت في الأرض عمرها - بمداد روحها ودماء قلبها. على أن  هذه الحياة قد فسدت، ولم يبق خالصاً ظاهرها ولا باطنها،  فالقوم قد لجوا من صراع المادة المستحوذة عليهم، وهم الذين  تركوا لها مجال التسيطر، تفر منهم، وهم إليها يفرون!  وقد آل بهم هذا الصراع الدائم إلى أن يعموا عن جوهر الحياة  الذي وضعته الحياة على أبنائها يوم كانت، فهم من صراع إلى  صراع، ومن نزاع إلى نزاع، لا ترتاح لهم جنوب ولا تستقر  مضاجع. أحلامهم طافحة بالعراك كيقظاتهم، وليت شعري لِمَ  هذا العراك، وليت فيه هذا النزوع إلى محجة الحياة، فهم  مضطرون إلى تهدئة أعصابهم المجنونة وقلوبهم الثائرة باللهو  واللعب، يطلبون اللهو متى انتهوا من جدهم، ويتوخون العبث  متى خرجوا من دائرة عملهم. لهو كثير وجد كثير تذوب بينهما

حياة شفافة في سبيل الحياة البهيمية! وقد شعرت السينما بتعب  الإنسانية وأحست بضناها، فأحبت أن تسعفها في جهادها،  وتريها ومضات تلمع وتخبو في جنبات   (الشاشة البيضاء) .  فهي تتشبث بالألحان والحسان ومظاهر الخيال الذي لا ينطبق  على حقيقة، لتفرِّج عن هذه الإنسانية المنكوبة، ولكنه دواء  من ينقش الشوكة بشوكة، وينير للشمعة سبيلها بذوبها. لأن  مثل هذه الألحان المضطربة والنجوم الساطعة الخابية سرعان ما تفقد  تأثيرها لأنها لم تصب هدفاً معلوماً ولم تطرق نهجاً مرسوماً

قد تكون السينما للأدب حليفة وقد تكون عدوة، لأنها  تريد أن تهضم   (الأدب)  وتبلع زاد العقل لتحمله للناظر عن  طريق العين، فهي مساعدة للأدب على خلق     (المثل الأعلى)  ؛  وباعثة في الأرواح مختلف الأشواق والحنين إلى ربوع     (المثل  الأعلى)  ، ولكن من المخرجين من لا يبالي بهذا المثل ولا يسمع  صوته، لأنه يريد أن يقبض على عيون الناس وجيوبهم، وهذا  هو الأديب التاجر، ومنهم من يؤمن بهذا المثل، ولكنه لا يجد  الفرصة سانحة لمثل هذا النوع. فهو يُلقي الومضة إثر الومضة  لأنه لا يقدر أن يتبرأ من كل ما يجيش في صدره، ولكن أكثر  بضاعته بضاعة يرضى بها رؤساءه. ورؤساؤه يعرضونها ليكسبوا  بها جنوداً ونقوداً، وهذا هو البائس المداري، ومنهم من بلغ  إيمانه بالمثل الأعلى مبلغاً عظيماً، يخرج من الروايات ما تؤمن به  روحه، ويخلق فيها شيئاً جديداً متدفقاً لأنه يعمل بقلبه لا بيده،  وهذا هو من يشفق على هذه الإنسانية، ويريد أن يحملها على  أجنحة صوره وألحانه - ولو ساعة - إلى عالم المثل الأعلى؛  يريها ما هنالك من نور طافح وأمل خافق. والجالس إلى أفلام  هذا المخرج ليجد نفسه وقد انسلخت عنه بغير شعور منه إلى  عالم شعري بعيد، ما كان حامله إليه إلا فكرة سامية نقلتها أشعة  العين إلى القلب فهام واستُهيم. . . إن مثل هذا المخرج يعطي  أكثر مما يأخذ، ويهمه من الناس قلوبهم قبل جيوبهم

مرّت بي هذه الخطرات وازّاحمت في نفسي يوم رنت عيناي  وخشع قلبي لهذا   (اللحن الذي لم يتم)  أراه للمرة الثانية، وقد  تجردت روحي عني لتتسامى في هذا اللحن ما شاء لها التسامي

-  ٢ - هذا اللحن أو هذا   (الفِلم)  ترجمة دقيقة لفصل من حياة    (شوبير)  الموسيقي النمساوي الذي لم تفض عليه الحياة أجله

(١٧٩٧ - ١٨٢٨)  لكنه فصل مشحون بكل ما يتمثله فكر  عن فنان. وسأعرض عليك هذا الفصل لتتلمس فيه هذا المثل  الأعلى الذي نجح المخرج في إظهاره. وإنما هو حياة فنان يشق  طريقه إلى المجد بأوتار قيثارته وأنامل   (بَيانه)  البيضاء، وتاريخ  صراع هذا العبقري للمصادفات والأقدار التي انتصر عليها نحن الآن في منزل   (رهون)  تجتمع فيه البذلة الثمينة  بجوار تمثال   (نابليون)  والقيثارة الجريح بقرب الحسون في  قفصه   (رهين المحبسين!)  تتسلم هذه الأشياء فتاة جميلة، لامعةالعينين،  لا تقدر قيمة الأشياء إلا بحسب قائمة عندها

يطل على النافذة فتى تكاد تيبس عضلات وجهه المتصلب،  على عينيه نظارتان، يمد قيثارته التي طالما ملأت ألحاناً،  وأشبعت وحدته أماناً، يقدمها بيد مرتعشة ليرهنها، يجد ثمن  الرهن ضئيلاً فيراجع الفتاة الجالسة فتجيبه: هذا هو الثمن المحدد!  ولكن صوتاً يهيب بها في داخلها، وإنما هو صوت الحنان على  الفن الذبيح. . . فتزيد الثمن وتدعو الله أن يذهل والدها عما  زادت، ليتسنى لصاحب القيثارة أن ينتفع ببدل قيثارته. فيأخذ  الثمن ويحصيه بعد خروجه فيجده أكثر مما قالت، فيعود بقلبه  البسيط، فيعثر بالفتاة خارجة وتخبره أنها شذت معه إكراماً لفنه؛  وإذ يسمع - شوبير - ألحاناً تأتي من بعيد فينطلق وراءها وهي  تقودها إليه عاطفة غريبة، فتسأله سر ابتهاجه بهذه الألحان،  فينبئها أنها ألحانه يرددها الصبايا الحانيات على الماء

-  إن ألحانك ترددها     (فينا)  ؟ -  أجل! ترددها     (فينا) -  أنت سعيد إذاً شوبير! ولابد أنك غني -  أما الغنى فلا -  ولماذا تثابر إذن على التلحين؟

-  وما يكون عمل شوبير في الوجود إذا انصرف عن التلحين؟ -  وهذه الأبيات الرقيقة التي أسمعها أهي من     (جيته)  ؟ -  لا!. ومن هو جيته؟ إنني لم أسمع به قبل اليوم -  إنها من نظم صديقي   (موللر) -  عجيب، ألا تعرف     (جيته)  ؟

وهنا يعودان على آثارهما فتثب إلى غرفتها وتقذف له على  طريقه بديوان   (لجيته)  فيأخذ الكتاب، ويلتهم ما في الكتاب  ويتلو ذاهلاً غافلاً؛ يخطر في الشوارع وعيناه شاخصتان في

الكتاب، ويدخل قاعة الدرس وطلابه في حرب يعلنها بعضهم  على بعض، سلاحها الأوراق والكتب وإهراق المداد! وقد  تصيب دواة قبعته فتطير عن رأسه فلا يشعر: ولكنه لا يكاد يستقر في مكانه حتى تهدأ الجلبة وتقر الحركة، فيعجبه هذا             السكون ويشكر طلابه عليه، فيبدأ درس الحساب ويكتب على  اللوح الأسود بادئاً بجدول الضرب، ولكن هذه اليد تتحرك  بغير وعي وتنتقل بغير إرادة. لأن القلب الموسيقي الذي أطل عليه  من وراء   (جيته)  قد استولى عليه، فيده تسطر وقلبه يلحن،  وما هي إلا لحظة حتى كان الطلاب من ورائه يرددون اللحن الذي  سطره! وإذا بدرس الحساب يتحول إلى درس موسيقى! فيسمع  الرئيس الألحان شائعة في الفناء، فيطرق غرفة    (شوبير)   فيجده  لاهياً وطلابه بهذه الأغنية، فيطلب إليه أن يهرع إلى مقابلته،  ولكن هذه المقابلة التي يتخيلها الناظر عثور جد وسوء  طالع، قد هيأت لشوبير أن يقابل   (مدير الأوبرا)  في   (فينا)   المعجب ببراعته، وهو ينتظره في بهو الرئيس يحمل إليه دعوة إلى  منزل الكونتس   (دي رنسكي)  ليعزف في إحدى سهراتها  الموسيقية الحافلة التي تقيمها كل خميس وتجعل من منزلها ملتقى  أرباب الفن وأنصاره. وجدير بمثل هذه المقابلة أن تفتح أمام             (شوبير)       مستقبلاً زاهياً مضموناً. ولكن أنى له أن يخشى هذه  الحفلة وليس عنده رداؤها. وقد طرق بيت الرهون فرده صاحبه  خائباً، لأنه لا يملك ما يفك به رهينة، ولكن الفتاة الهائمة  بفنه أعادت إليه رداءه وقبعته لتحقق له ظفره في هذه الليلة

كان بهو   (الكونتس)  يعج بالزائرين والزائرات ممن سما  بأرواحهم الفن والموسيقى؛ وفجأة دخل             (شوبير)       منتفخ الرداء ساطع الوجه، يلمس غده بيده. ولكن نشوة السرور قد أذهلته  عن أن ينزع   (علامة الرهن)  عن ظهر الرداء. فمر وعيون القوم رانية  إليه، تتغامز عليه. فقبل يد الكونتس وحطم بخيط   (العلامة)   تمثالاً عزيزاً علق به، ولكن الكونتس لم تزد إلا ترحيبا به

جاء دور             (شوبير)       ومرت أنامله على   (البيان)   أنشودة أبدعها لمثل هذه الساعة. وأودعها كل ما يختلج في  صدره من أماني وأشجان. فترى القوم سكارى وما هم بسكارى!  فتدخل - خلال ذلك - الكونتة استركاز الفتاة الحسناء  وهي متأخرة، فتأخذ مقعدها وتصغي بروحها المرحة إلى هذه  النغمات، فتسأل فتاها فيجيب همساً: إنه             (شوبير)       فلا تفهم.

فيكتب على صفحة مرآتها بعد ذر   (البودرة)  أحرف    (ش وب ي ر)  فلا تفهم. . . وتنفخ على اسمه فيطير. ولكن  أوضاع جلوس شوبير على البيان تهيب بها إلى الضحك فتملك  نفسها فلا تقدر، فترسلها ضحكات عالية تنال من عزة             (شوبير)       فيرمقها شزراً، ويغلق البيان بعنف،ويهب من مقعده لا يملك  نفسه المهتاجة، فيدركه     (مدير الأوبرا)   فيجيبه بإباء وأنفة: -  أنا لست ممن يعزفون وهم يضحكون!

وانطلق وقد ترك في المنزل، زوبعة، وصاحبة المنزل تقول  للفتاة   (ومما يؤسف له أن المقطوعة لا تبعث على الضحك) تلك عزة الفن دعته فأجاب، وهو يقدر أنه قاتل مستقبله،  وداع البؤس إلى ساحته، ولكن ما همه بمستقبله وبغناه إذا كان  الفن يحيا في منزله مهاناً ويرضى بهوانه؟ أليس هذا المثل يضرب  لكل فنَّان معنى العزة ويبعث فيه الكبرياء؟

خرج       (شوبير)    دامي القلب، ولكنه عنيف الثورة شديد  النقمة على هذه الغادة التي حالت بينه وبين إتمام لحنه. . . آب  إلى غرفته بأمانيه المهزومة كالقائد المنكسر يعود بفلول جيشه  وأوسمته القديمة، فألفى غادته الأولى في انتظاره، وهي لم تكن  لتحب أن تراه مقطباً عابساً، جلس إلى البيان يعاود ذلك اللحن  الطائر، فلا يكاد يشرف على المهوى الذي تعالت فيه ضحكة  الساخرة، حتى يتمثل أن ضحكتها تملأ جو غرفته، فيهب مذعوراً  يسد أذنيه، وكأن يداً سحرية تحول بينه وبين الانتقال إلى  المهوى الثاني. وبعد محاولة غير مجدية غادر البيان والبيان يضحك،  وجدران الغرفة تضحك، وهي في قرارة ضميره تضحك. . .

كلفه هذا الحادث كثيراً، فقد أخرجوه من المدرسة،  وحرموه الخبز الذي يأكله، فألحف الدائنون في الطلب، ولج  الأصدقاء في الهرب. وشفعت له   (فتاته ايمي)  عند     (مدير  الأوبرا)   ولكن هذا قد قُدَّ قلبه من جماد!

-  كن لطيفاً معه -  أنا لست بلطيف -  لا تهجر شوبير! -  إنه يستحق

-  ولكن اذكر أن   (فينا)  تترنم بأغانيه، فأين أغانيك؟ بمثل هذه البساطة وهذه الحدة كانت تجادل   (ايمي)   مدير الأوبرا لاستمالته إلى معاضدة       (شوبير)    ولكن العبقرية

كتب عليها القدر ألا تخط طريقها إلا بدماء القلب الجريح،  والشقاء الدائم، فليمش       (شوبير)    على طريق العبقرية. . .

-  ٣ - طلب أحد الأمراء الموسرين في   (هونفريا)  إلى شوبير أن  يقدم عليه ليعلم فتاته الموسيقى، فارتاح لهذا الطلب وأيقن أن  الأمل طفق يبسم له، فودع   (ايمي)  ووعدها بأن يكاتبها وسار  وراء الأمل الجديد

دخل المنزل فاستقبله الوالد بابنتيه   (ماريا وكارولين) . نظر  شوبير في وجه   (كارولين)  فأدرك أن هذا الوجه هو وجه  الساخرة، فاربّد وجهه وتقلصت شفتاه. ولكنه هدأ نفسه و كظم غيظه. وغادر الوالد المكان، وعدت وراءه   (ماريا)   لأنها لا رغبة لها في الموسيقى، وخلا له ولها المكان

قالت كارولين باسمة: -  أريد أن أعرفك، لأنني جعلت درس الموسيقى سبباً! -  أتودين أن تسخري مني أيضاً؟ -  لا يا شوبير! أريد منك أن تغلق هذا البيان فدنا شوبير من البيان وأغلقه بهدوء، فضحكت كارولين وقالت: -  في إمكان الإنسان أن يغلقه بدون ضوضاء! قد شعرت  بخطيئتي العظمى، وإني لأرجو أن تصفح عني. . . -  قد صفحتُ! -  إذا سنبدأ غداً. . .

وفي اليوم الثاني كان   (شوبير)  يلقي على تلميذته قواعد في  الموسيقى وفي الإيقاع، ويبدي لها أن الإيقاع هو حياة الموسيقى  وأصل توازن ألحانها؛ ويعرض عليها مقطوعة صغيرة له تتلوها  بصوت عال، فتتلو السطر الأول والثاني ثم يتعالى صوتها شادية  مرنمة يتلاشى أمام نغماتها ونبراتها عزف البيان ولحن القيثار،  فيذهل شوبير وأي ذهول! ويتصاغر أمام جلال هذا اللحن  المتناسق؛ حتى انتهت من تلاوتها وجاءت على هذه الكلمة    (وهي مقطوعة مهداة إلى الفتاة ايمي)  فثارت في نفسها غيرة  عميقة، لأنها كانت تشعر بأن هذا الفنان يجب أن يكون لها  وحدها، فطلبت إليه أن يقدم لها في المرة الثانية من أغانيه  ما لا تشركها فيها امرأة! ولتكن تلك الأغنية التي لن تكمل. . .  ولكن هذه الأغنية ظلت غير تامة لأنه لم يستطع أن يتمها قالت له كارولين في إحدى خلواتها:

-  سمعت بأنك تختلط بعمالنا في المزرعة في جلسات طربهم  وأني لأربأ بأستاذي أن يغشى هذه المجاميع الساقطة

ولكن شوبير كان يستوحي الفن حيثما كان، ويعتقد أن  الفن يسكن في الأكواخ، وفي الجماعات المنحطة، وفي التراب.  وظل يغشاها كعادته، حتى فجأته يوماً في مجلس لهؤلاء    (الغجريين)  الذين تخذوا الحياة عزفاً وطرباً، وقذفوا بهمومها  من وراء ظهورهم. فجأته وهي ترتدي رداء   (الغجريات)  وعلى  وجهها تطفو بهجتهن وسرورهن. فرقصت حتى بات المكان  كله لا يتسع إلا لقدميها. رقصت حتى أعيت، ودنت منه تنشد  مقطوعة رقيقة تدعو إلى الاستسلام الذي تولده الغبطة الكئيبة:

(قل انك تحبني؛ قل بدون انقطاع قل انك تحبني قليلاً. . . كلماتك هذه تبعث الغبطة في نفسي، والراحة في قلبي عيناك هما السبيل الجميل حيث يتوارى حلمي قل انك تحبني، واكذب إذا وجب الكذب. . . قل ذلك. . . لأنك - إذا سكتَّ - تسلمني إلى الموت)

وجدير بمثل هذه الأغنية الرقيقة أن تذهلها عن نفسها،  وأن تغيب أستاذها عن وعيه. فيلثم يدها، والزوبعة لا يزال هزيمها  بين الأغصان. فغادرت المكان راكضة بين المروج الذهبية التي  هي قبلة العشاق، ومرتجى أصحاب الوحدة، فتبعها ليرجع إليها نقابها

-  قفي يا كارولين. . . لقد نسيت نقابك. ما عسى يقولون  في القصر إذا عرفوا؟ لماذا جئت؟ -  ألا تعرف أنت حتى الآن. . عانقني يا شوبير! وهنا ضمتهما قبلة عميقة لم تشهدها إلا السماء. ولم تسمع  همسها إلا الأزهار والأعشاب. . . . أذهلتها عن نقابها الذي  سقط على الأرض فعادت بغير نقاب

-  ٤ - أدرك الأمر والدها، ورأى في فتاته ميلاً إليه قد ينتهي  بالزواج. فأحب أن يحول بينهما، فصرف             (شوبير)       صرفاً  أدبياً ليعود إلى عزلته الأولى. وشوبير في كل غيبته لم يذكر          (ايمي)     بكتاب. لأن كفة        (كارولين)       رجحت على كفتها. فلم تستقبله         (ايمي)     ولكنها سمعت أنه يكاد يغدو مجنوناً. وهو  في كل يوم يرتقب كتاباً من             (كارولين)       وهاقد دب اليأس  في نفسه بعد انتظار ثلاثة أشهر، وهاقد أشفقت         (ايمي)     عليه

فهرعت إليه بدون إرادة ولا عزيمة. . . . وفي لحظة حضورها  وردت عليه بطاقة من القصر تأمره بالحضور العاجل. فما قابل          (ايمي)     إلا ليودعها وتودعه

-  ايمي! كوني سعيدة إنني مسافر، سوف أبعث إليك بأنبائي انطلق             (شوبير)       ولا يعرف ما كُتب له. فشاهد في القرية  حالة غير معهودة؛ أجراس تدق، وثياب بيضاء ترف. وأغنٍ  تتعالى. إنه عرس             (كارولين)       أجئتَ يا شوبير لتودع كارولين؟ لم يكن صاحب البطاقة المرسلة إلا     (ماريا)   أخت              (كارولين)       دعت      (شوبير)       ليحضر حفلة زفاف أختها. وليصفح عنها لأنها كفَّرت عن وزرها بالبكاء الطويل، ولكنها  أذعنت لوالدها مضطرة غير مختارة. . . وقد وقف             (شوبير)       بين الجموع يشهد مرورهما أمامه

وقفت     (ماريا)   فجأة بين جموع المهنئين في بهو القصر،  تعلن أن             (شوبير)       يريد أن يهنئ العروسين (فدخل شوبير  وقد رنت العيون إيه، ومشى حتى بلغ موقف             (كارولين)        وقال لها:   (يا سيدتي! هل تتفضلين بأن أقدم تتمة اللحن الذي  لم يتم تقدمة لك في يوم عرسك؟)  واختلف إلى البيان يردد  اللحن الأول   (وكارولين)  بين الجموع تنتفض طوراً وتختلج  تارة تحت تأثير الذكريات الهافية حولها. تفيض على قلبها مرارة،  وعلى محجريها تطفح دمعتان. وما كاد ينتق             (شوبير)       إلى  تتمة المقطع، وقد اختلفت النغمة، وامتزج الجلال بالجمال،  ونطقت العاطفة، وغلب القلب على الأنامل، حتى سقطت             (كارولين)       مستخرطة في البكاء في الموقع الذي قاطعت شوبير  بضحكتها. فانفض الجمع وأخذوا المريضة. وشوبير مُسمَّر في  مكانه لا يتزحزح. وبعد برهة عاد إليه زوجها يقول له:   (إنها  تحسنت قليلاً وتود أن تقابلك) . عادت كارولين ووجهها مقنع  بكل ما رسمت على وجهها الحياة منذ طفولتها حتى الساعة. فالآمال  مجاورة للآلام. واليأس مؤتلف مع القنوط: إنه وجه حياة كاملة

-  شوبير! هذه مقطوعتك أرسلها إليّ -  ولِمَه؟ أنها مكتوبة للجميع -  عش سعيداً يا شوبير! ولا تحزن. إنك تملك شيئاً هو  أسمى من كل شيء. . . هو الفن الذي يعطيك الخلود طفرت من عينها دمعة، وانصرفت راكضة لأنها لا تستطيع أن  تقف أمام هذه السحابة الجارفة التي يسوقها فن عميق سامٍ جارف

عاد     (شوبير)   إلى لحنه، فأبقى ما عزفه، ومزق تتمة  اللحن، وكتب حول ما مزقه:   (ليكون دليلاً على حبي الذي  لا ينتهي، جعلتُه لحناً لا ينتهي) . وخرج     (شوبير)   يسلك  الطريق الذي أبصر أحلامه الواثبة، والآن يبصر نفسه المكتئبة؛  وما زال يقذف به السير حتى وقف على تمثال   (مريم العذراء)   وهنالك تمازج كل ما فيه من عوامل متضادة، من يأس ورجاء.  من غبطة وكآبة، وفن ومثل أسمى، لتؤلف هذه العوامل    (أنشودة السلام الملائكي)  التي خلدت شوبير في عالم الموسيقى. .

(السلام الملائكي)

سلام عليك يا مريم! يا ملكة السماء إليك ترتفع صلاتي، وأرى العطف في عينيك وفيك أيتها الطاهرة أضع رجائي

ولدي كان مخفف بؤسي، ومعزى فاقتي إنه تألم، وا أسفاه، إنه قضى افهمي دموعي أنتِ، يا من كنتِ أماً وأعيدي إليّ طفلي البائس. . .

سلام عليك يا مريم! إن ولدي جميل كنتُ به مختالة معجبة. . . باركي سريره الصغير. . . إنه كان خيري، بل خيري الوحيد

إذا أصابني الله في غضبه فاعطفي أنتِ على الصغير البريء واستجيبي لي. . . إنني أُم تطلب الموت في سبيل ولدها

سلام عليك يا مريم أرى طفلي ولد ثانية بالصلاة كأنه الزهرة العاطرة، والمنحة الجميلة، والجمال الجذاب، والسر المقدس، انظري إليّ! أنت يا موضع أملي!

ولدي! إن جبينك ليسطع نوراً. . . شكراً لك أيتها الأم الإلهية أنتِ التي أنقذتِ ولدي سلام عليكِ يا مريم. . .

هي مقطوعة تناجي بها أُم ثكلى   (مريمَ)  وتبثها شكواها.  وقد برح بها الحزن وأمضها الألم. والآن تغلق قلبها المفتوح  وتطوي ألمها المنشور، وتحس براحة نفسية، تصافح الألم فلا  تراه شائكاً، بل هي الآن أوسع صدراً للألم لأنه لا يطغى على  إيمانها. وقد تكون هذه الفكرة فكرة فنان شاعر يناجي مثله  الأعلى الذي وجد فيه أمله الأسمى. فهو يحمل نفسه المجرّحة  يريد أن يلقى لها منزلاً تنزل فيه، فيجد الأبواب كلها مسدودة،  وهاهو ذا الآن على طريق المثل الأعلى الذي سلخه عن الوجود

قد تلاشى الحب في   (شوبير)  وانطفأت جذوته الملتهبة،  وابتعدت ذكرياته العذبة. لا لأن شوبير محب كاذب يسهل عليه  الاتصال والانفصال. ولكن شوبير قلبه قلب فنان، وقلب الفنان  كبير، قد ارتسمت - على قلبه - كل أشواقه الماضية، وآلامه  الغابرة وسرت معه لتؤلف   (ذلك المثل الأعلى)  بفنه الذي  - كما قالت كارولين - إنه وحده يعطيه الخلود

وقد يتسائل القارئ: أما وقد عاد شوبير خائباً، فكيف  التقت به   (ايمي)  فتاته الأولى؟ بقيت نقطة غامضة لم يعالجها  المخرج ليترك المثل الأعلى منتصراً على كل شيء

-  ٥ - قد لا تروق هذه النتيجة للبعض، لأنهم يتلقونها بعقولهم  وعقولهم لا يرضيها شيء من غذاء العاطفة، ولا تقبل إلا بما فيه  غذاء لمنطقها، ولا يغذى منطقها إلا عالم الواقع الملموس. . .  ولكن فاتهم أن هذا العالم الواقعي قد بدأت تطفو عليه عوا  الاضمحلال لأنهم قتلوا فيه كل مثل، سواء ذلك المثل الذي  يوحيه الفن أو يوحيه الشعر

لا يحمل الناس من هذه الوهدة التي نزلوا فيها وهذه المادية  التي استغرقوا فيها إلا الإيمان بالمثل الأعلى فهل نرى - السينما! -  تقف يوماً أمام الفن والشعر جنباً لجنب، لتؤدي ما عليها من  التبشير بهذا   (المثل الأعلى) ؟

اشترك في نشرتنا البريدية