الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 594الرجوع إلى "الثقافة"

المدنية الغربية الحديثة, والمدنية الشرقية القديمة

Share

بين المدنية الغربية الحديثة والمدنية الشرقية القديمة حرب عوان طحون ، تكاد تأكل الأخضر واليابس فلا تبقي ولا تذر ، وليست هذه الحرب سجالا بين التجار بين ينتصر أحدهما مرة وينهزم أخرى . وإنما هي حرب عقد لواء النصر فيها لأحدهما دون الآخر دائما ، عقد المدنية الغربية الحديثة ؛ وإذا تركت المدنية الشرقية بلا نجدة لإنقاذ أكثر ما يمكن إنقاذه منها ، فقدنا مقوماتنا وصرنا لا شرقيين ولا غربيين .

ونحن معاشر الشرقيين أمام هذا الصراع العنيف الجبار الذي يوشك أن يقضي علينا ، فريقان : فريق يؤيد المدنية الغربية الحديثة كل التأييد ، ويحاول أن يحملنا على التحضر بها كلها بما فيها من خير وشر ، وملائم لنا وغير ملائم بلا قيد ولا شرط ، ويتعجل احتلالها كل نواحي حياتنا المادية والأدبية . وفريق آخر يرى أن نكون منها على حذر فتتريث في الأخذ بأسبابها بأن نغربلها وننخلها ونأخذ الخلاصة الصافية النقية النافعة التي تلائمنا منها .

فالفريقان أمام المدنية الغربية كرجلين : أحدها يريد أن يطحن قمحا بسنابله ، وبما يختلط به من حصى وتراب ثم يعجنه ويخبزه بما فيه . والآخر يريد أن يدرسه ويذربه ويغربله وينقيه مما فيه ، ثم يطحنه وينخله حتى يصير شيئا نقيا سائغا . أو أنهما أمام المدنية الشرقية كرجلين في بيت آيل للسقوط ؛ فأحدهما يتعجل هدمه وتدميره ويعمل جاهدا لإنجاز هذا الهدم وهو فيه ، والآخر يقاوم الهدم ويؤخره حتى يجمع متاعه ونفائسه ويخرج سليما ناجيا بنفسه وبأعز ما يملك .

ويقول أنصار التعجيل : إن الأخذ بأسباب المدنية الغربية الحديثة كلها بخيرها وشرها ، وملائمها وغير ملائمها جملة وتفصيلا ، يكون فيه بلا شك جذب ودفع ؟ فهو صهر

للأمة لا يلبث أن ينفي خبيثها ويستبقي طيبها ، وستسلم الأمة في مجموعها في آخر الأمر من الأخطار .

وهذا قول ظاهر البطلان ، لأن كل مدنية لها مظاهر تدل عليها ، وعناصر تتكون منها ، وأسس تقوم عليها فالظاهر كالمباني والطرق ووسائل النقل البرية والبحرية والجوبة ، ووسائل الإذاعة والإضاءة والفراش والملابس والنظم الحكومية والمنزلية والاجتماعية والمصانع والمدارس وغير ذلك ، والعناصر هي العلوم والفنون والآداب أما الأسس فهي أخلاق الأمة وعقائدها أو مزاجها النفسي والعقلي

فليس من المعقول ولا من الممكن أن نأخذ كل ذلك من الغرب بغير تمحيص ولا تنقيح ، لأن كل امة نقد مدنيتها على مثال أخلاقها وعقائدها وتصبغها بصبغتها ، وهذه الأخلاق والعقائد وليدة البيئة والتراث القديم والقرون الخوالى ، فلا يمكن أن تستعير أمة مدنية أمة أخرى مطبوعة بطابعها مقدودة على مثالها بحذافيرها ، فلا بد من ان تنتقي منها ما يلائمها . وإنها إن فعلت ذلك كانت كمن يستعير ثوبا ضيقا لا يلبث أن يتمزق أو واسعا فضفاضا يتعثر في أذياله فلا يستطيع حراكا .

إن المدنية الشرقية أمام تيار الدنيا الغربية الجارف لفي أشد الحاجة إلى من يقيم في سبيله السدود والحواجز ، لا إلى من يزيل من أمامه ما قد يكون من عقبات وعوائق ، وهو في تدفقه علينا إنما ينتقل من انتصار باهر إلى انتصار أبهر

وإن أول ميدان انتصرت فيه المدنية الغربية الحديثة انتصارا مبينا ، هو ميدان المظاهر ؟ فقد سارع الشرقيون وفي مقدمتهم مصر إلى استعارة كل ما وصلت إليه أيديهم من هذه المظاهر ، حتى صارت بعض البلاد الشرقية كالقاهرة والإسكندرية وغيرهما كمدن الغرب ، بل أحسن من كثير

منها ، وحتى أصبح الزائر الغربي الحديث يظن لأول نظرة أننا صرنا كالدول الراقية القوية الغربية ، وما نحن من ذلك في شئ ، بل لقد أضفنا بكل مخترع وبكل بدعة استعرناها وتحلينا بها غلا في أعناقنا من أغلال الاستعباد ؛ فإن الاستعباد الاقتصادي والاجتماعي شر مقدمة للاستعباد السياسي .

وما كان إقبالنا على مظاهر الدنيا الغربية الحديثة إلا لضعفنا وعجزنا عن مجاراة الغرب في أسباب القوة الحقيقية ولرغبتنا في ستر هذا الضعف بهذه المظاهر ، فعالجنا نقصا بنقص وهذا هو مركب النقص .

وليس هذا شأن الأمم القوية ، فليس فيها أمة ترضي لها كرامتها وعزتها وحرصها على ثروتها وسيادتها أن تستعير شيئا من مخترعات أمة أخرى إلا لتعرف سره وتنشئ الصانع لصنعه في بلادها ، بل وتحاول أن تفوق الأمة المخترعة في الإجادة والإتفان وقلة النفقات لتسبقها في الأسواق العالمية .

أما مصر فأدل دليل على افتتانها بالمظاهر وتقصيرها في الأخذ بأسباب القوة ، أنها أول من استخدمت القطر البخارية بعد الأمة المخترعة ، وهي انجلترة ، ومع ذلك لا تزال تشتري هذه القطر وكل ما يتعلق بها من الغرب ؛ فإن قيل إن هذه صناعة ضخمة ، وان الاحتلال الإنجليزي كان عائقا فما عذرنا فيما دون ذلك من الصناعات .

فأما عناصر المدنية الحديثة ، فان منها العلوم والفنون العلمية ، وهي قدر عام مشترك سائغ بين الدول في جميع الأقطار وفي جميع العصور ، إنه دولة بينهم ، وقد كانت مصر يوما ما أستاذة العالم القديم فيها ، ولا شك أن العالم القديم أستاذ العالم الحديث ، فمصر استاذة الجميع ، وقد رحبت مصر بهذه العناصر الآن حين عادت إليها أعظم ترحيب

وأقبلت عليها أيما إقبال ، وأنشأت لها المدارس على مثال المدارس الغربية ، واستقدمت الأساتذة من الغرب ، وأكثرت من بعث أبنائها أفواجا إليه ، وما زالت جادة في ذلك ، ونرجو أن تظل جادة حتى تفوق الغرب فيه ، فهو أمر حسن واجب شرعا وعرفا وعقلا لموافقته مبدأ التوازن الدولي ولكفاله سيادة الأمة وعزها ومجدها ، غير أنا

ما زلنا مقصرين كل التقصير في أعظم مقومات الحضارة الحديثة ، وهي الصناعة والعلوم والفنون الصناعية .

وإن من هذه العناصر الآداب والفنون الأدبية ، وهذه في جملتها إقليمية لا يمكن تدويل معظمها ، لأنها في كل إقليم خاضعة كل الخضوع للبيئة ولمزاج الأمة النفسي والعقلي الذي تكون واستقر فيها بمضي آلاف السنين ؛ فلكل أمة طابع خاص تطبع به آدابها وفنونها الأدبية ، وستبقى الآداب والفنون الأدبية مختلفات في الأمم ما دامت الأم مختلفات في صفاتها الجسدية والنفسية والعقلية ، وما دام الأدب هو الأداة التي تعبر عن مشاعر الأمة وميولها وأرائها وآمالها وآلامها تعبيرا تفهمه وتتأثر به ، فما حاجتها إلى أن تستعير أدب غيرها ؟ وللموسيقي وهي مما أريد بالفنون الأدبية . ما حاجة الأمة إلى استعارة موسيقى الغرب ما دامت موسيقاها تطربها وتؤثر فيها وتشبع رغباتها منها ؟

وليس في الإمكان أن نخلق الأديب ولا أن نوجهه كما نريد ، لأن الأدب هبة لها حريتها ، فقد نريد من ذي الهبة الأدبية أن يكون قصصيا فيكون كاتب مقالة ، وقد نريده ثائرا فيكون شاعرا ، وقد نريده شاعرا فيكون مؤرخا ؛ فمن الخير أن يترك الأدب للزمن وللأطوار التى تمر بها الأمة وحضارتها ، معتمدا في ذلك على مواهبه وعلى ما يحيط به من أحوال وملابسات ، فإذا جاءنا من هذه الناحية بشيء واستسغناه صار من أدبنا .

وإذا أريد بالأدب ألفاظ اللغة وأساليبها الواردات في شعرها ونثرها وهذا الشعر والنثر نفسه ، فهذا لترقيته وتهذيبه في كل لغة وفي كل أمة ، طرق مستمدة من اللغة نفسها . ومن الإقليم ، ومن الأمة وحاجاتها ، ومن علاقاتها بالأمم الأخرى ؛ وكتابها وشعراؤها وعلماؤها أحاد وجماعات كفيلون بهذه الترقية وهذا التهذيب .

وإذا أريد بالأدب المعاني التي يتناولها الشعر والنثر ، فإنا قد فتحنا للمعاني الغربية الحديثة أبواب أدبنا على مصاريعها ، وأصبحت معانيه هي معاني الأدب الغربي ، وما ذلك إلا لأن المعاني هي الأخرى دولة بين الأمم كالعلوم ، فليس لأمة أن تستتأثر بشئ منها دون غيرها .

وأما القصة والأقصومة فقد حلت في جميع صحفنا حتى

اليومية الكبرى منها محل المقالة ، فلا تفتح صحيفة ولا مجلة إلا وجدت قصة أو أقصوصة أو أكثر ، وقد كانت كل صحيفة لا تصدر إلا بمقالة افتتاحية وفيها مقالات أخرى ؛ أما الآن فقد كادت المقالة تختفي على حين أن لها مقاما لا يصلح فيه غيرها .

وإذا أريد بترقية الأدب أن معاني قصصنا وأقاصيصنا غير سامية ، فلأن تكون في صميم الحياة المصرية - ولو كان معناها غير سام - خير من أن تكون سامية وهي غربية لحما ودمما .

وأما الملاحم فهذا شعر قد دالت دولته حتى في الاقليم الذي نشأ فيه ، وهو بلاد اليونان ، وليس بالناس حاجة إليه الآن ولا يضيرنا أن نتركه .

هذا شأننا وشأن المدنيتين الغربية والشرقية ، وأمر النزاع العنيف بينهما الذي سيقضي فيه على المدنية الشرقية ، وعبارة أدق على مظاهرها وعلى الكثير من عناصرها ، القضاء الذي لا مرد له ، قاومنا أو لم نقاوم ؛ فمن السرف أن نفتح لها كل أبوابنا فتعرنا ، ومن القصد أن نفتح هذه الأبواب بحساب دقيق وحذر لننقذ أكثر ما يمكن إنقاذه من تراثنا القديم الذي لا يمكن أن نكون أمة لها مميزانها وسعادتها من دونه ، ولنصبغ ما نأخذه منها بصبغتنا وبه تبعث مدنيتنا بعثا آخر حسنا .

إنا إذا فقدنا تراثنا القديم ، فإن فينا أشياء لا يمكن أن نفقدها لثباتها فينا ثبات الجبال الراسيات ، وهي صفاتنا الجسدية والنفسية والعقلية التى تكونت فينا بتأثير أرضنا وجونا وآثار آبائنا وأجدادنا ، وسنبقي ما حيينا خاضعين لهذا التأثير ، وسيبقى بيتا وبين الغرب ما بقي وبقيا فوارق ، وسيبقى الغرب مترفعا عنا ضينا بنسبنا إليه ، على قاعدته القديمة المعروفة : الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان ، ترفع الأمريكان البيض على الأمريكان السود .

وليست هذه الفوارق بناقصة قدرنا ولا براقعة قدر الغرب عنا ، ولا بمانحة لنا من سبقنا إباء في ميادين الحضارة ؟ فإن اليابان قد فاقت كثيرا من دول الغرب في القوة وأصبحت من الدول العظمى ، ولا تزال محتفظة بكل مميزاتها وطابعها

القوي الذي كونته فيها أقاليمها وظروفها وأحوالها على ما في تقاليدها من غرابة .

فالخير كل الخير أن نحتفظ بأسس حضارتنا ، وهي أخلاقنا وعقائدنا ، وأن نستبقي من مدنيتنا الشرقية كل ما يلائم هذه الأخلاق والعقائد من ادب وفنون أدبية ونظم منزلية واجتماعية وقضائية وعادات وتقاليد صالحة .

وإن العقل والمنطق يقضيان علينا ألا ندع المتحمسين للتحضر بالحضارة الغربية يلقون بأنفسهم وغيرهم من المواطنين في أحضان الغرب بغير تفكير ولا روية ؛ بل يجب ولا يزال في الوقت والجهد متسع - أن نأخذ الأمر بكثير من الحذر ، وان نصد تيار المدنية الغربية الجارف ما استطعنا إلى سده سبيلا ، حتى يتيسر لنا أن نأخذ منها الأصلح ونبعثه مدنية شرقبة صالحة

ويهذين الأمرين ، الحذر والتريث ، نسلم ونغم .

اشترك في نشرتنا البريدية