الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 286الرجوع إلى "الرسالة"

المذي

Share

حالة نفسية غير نادرة ، ولا سيما فى الأيام الفائمة او الماطرة . على الافق البعيد ربف جام ، وفي الجو شوب من ضباب كالغيار بحجب صفاء السماء ، والاشجار هنا وهنالك كأنما تتوارى من الناس ، وعلى النفس سآمة قانعة لا تتحرك كانها فرغت من النقاش والسؤال عن الأسباب ، وخلصت إلى اليقين والقرار ، وكل شئبث . وكل عمل عقيم . . الدنيا الفاتمة بالباطل ، وما هذا العناء في غير طائل ؟ باطل الأباطيل . قبض الريح . متاع الغرور !

- حالة غير نادرة لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها فلسفة حياة وصبغت بها وجه الكون ، وبسطتها على الدنيا ، او قبضت الدنيا حتى انطوت فيها ، وكنت من المتشائمين لم تكن الحالة الأولى من نرعها ، فلهذا لم تكن فل ثمة باقية ، بل كانت حالة عابرة غير نادرة ، واستطاعت النفس ان نتزع منها زاوية سنيرة مهمس فيها هامس مسم مستجاب : كلا : ليست الدنيا كذلك . ليست الدنيا كذلك . إنما هى نوبة تزول ، وركود راحة بعد جهاد ، أو ركود استجمام قبل ونوب

50 وحالة اخرى غير نادرة ، ولا سيما في أيام الاشراق والنضرة والاقبال ، سيفا كانت أو شتاء ، وربيعا كانت أو خريفا . فهى شائعة موزعة بين جميع المواسم والفصول

لمعة الشعاع على الصخرة الملقاة تبعث الفرح من أعماق السريرة ، ورجفة الورقة على الغصن رقص وانتشاء ، ومشية المسرع استطارة سرور ، ويمشى المتأني فكانه يتملى متعة المثى ويستوفي نسمة الرياضة ، ومنظر الشجرة كانها بائقة تنطلق فى السماء ، وليست بالجاتمة للقيدة بالغيراء ، وكل شئ حسن كما هو فى غير حاجة إلى تفسير او عاقبة منظورة ، وليس فى الامكان أبدع مما كان

حالة غير نادرة لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها كذلك فلسفة حياة ونفثها فى ضمائر الكون ، ورأيت الدنيا معها فردوسسا سماويا لا حدود فيه ولا انتهاء ومعانيه ، وكنت في عليين ولا يغنيني أن أقول : كنت من المتفائلين

ولم تكن الحالة الأولى من نوعها فلهذا لم تكن فلسفة باقية بل كانت حالة عابرة غير نادرة ، واستطابست النفس أن تملك زمامها وهى إلى جوارها فلا يزال فيها هامس مسموع مستجاب يردد فى غير إلحاح ولا إعنات : كلا . لست في عليين ، لست في عليين

إذا عرفنا أسباب الحالة الأولى جاز لنا أن نقول : إنما هى ضلالة فى الحس من اثر الغيم او من اثر السوداء او من اثر المعدة الشاكية ؟

كلا . لأن معرفة السبب الذي بريك الشئ لن تنفي وجوده ، كما ان شعورك بألم الآخرين من أجل القراية بينك وبينهم لا ينفى انهم متألمون وان الآلم موجود هناك . ثم تقترب من المحسوسات فنقول إن رؤبنك الجرائم بالمجهر وعلمك بأن المجهر هو سبب الرؤية لا ينفي الجراثيم ولا ينقض صحة ما تراه

محمد . وكذلك الحالة الثانية لا يدحضها أن تعلم أسبابها ، رد الاشراق والصحة وامتناع الا كدار والاحزان ، فان العلم بأسباب إحساس من الاحاسيس لا يقدح في حقيقته ولا فى صواب الشعور به حيث كان .

لذلك أقول إن السريرة الآدمية كالمذياع ، وإن الدنيا المحزنة والدنيا المفرحة ودنيا القنوط ودنيا الرجاء موجودة لا تظهر للنفس إلا حين يسيل المفتاح إلى وجهته المرسومة ، وإلا فهى صمت وخفاء

فى النفس الانسانية متسع لجميع العوالم ، ولكنها تتهيأ لكل عالم من هذه العوالم بحالة من الحالات ، أو بمفتاح من المفاتيح ، فاذا هو موجود مسموع منظور محسوس ، وإذا انت لا نسمع غيره ولا تعيش في غيره ، لان إدارة المفاتيح كلها هى الفوضى التى يبطل فيها الاحساس ، وبفسد فيها التعبير المفهوم ، فهو إذن لفظ وأسداء

إن كنت تسمع حديث القاهرة فليس معني هذا ان حديث باريس باطل ، وإنما معناه ان المفتاح فى هذا الاتجاه وليس فى اجاه غيره ، وحديث باريس بعد ذلك صادق عند اناس اخرين صدق حديث القاهرة ، وغيره من الأحاديث

وإن كنت فى دنيا من دنياوات الاقبال والتفاؤل فليس معنى ذلك ان دنيا النساامة والفنوط عدم وضلال ، وإنما معناه ان المفتاح هنا ، وانه لو تحول قليلا لأصبح هناك !

امتناع الحس لا يدل على امتناع المحسوس وبهدا نفسر المقرية فى ترى الاخيلة والشكول والمعاني والتوفيقات حيث لا يبصرها احد ولا يسمعها احد ولا يدري بها احد ، ولكنها تظل في صمتها وخفائها حتى تصادف من يدري بها ويستمع إليها ، فهي موجودة له معدومة لواه

ومهذا نفسر الصوفية التى تلمح من الخفايا ما ليس بلله المصاقبون والجيران ، وتقترب من الامال والمخاوف قبل ان يقترب مها المزااملون والرفقاء ، وتبصر بعيني " حزام " والناس من حولها ضاحكون لا يصدقون ، وإن قال لهم ألف قائل : إذا قالت حزام فصدقوها فان القول ما قالت حزام

لان ما يرى بالسين على مسيرة يوم سوف يرى بالعين على مسيرة ساعة . أما ما يرى بالسريرة فقد تكثر فيه المغالطة والمكارة كل اقترب واقترب حتى تتناوله جميع السرائر : أهذا الذي انبأتنا به ؟ ! لا . إنك أتبأتنا بغير هذا ، ولن تزال في ضلالك القديم

ولهبط من السقرية والصوفية إلى المشاهد الملموسة فى حياة الحيوان .

١٠٢٠ فأين ، من الناس من يشعر بأن ملامسة اليد للمنديل تترك فيه اترا من الرائحة المسوسة يشمها الانف بعد ايام ؟ وانز من يثبت لهم ذلك لولا ان شاهدوه و كرروا شهوده من بعض الحيوان ؟ ؟ ؟

أفينقض " وجود " تلك الرائحة أن يقول قائل : بل ما أدركها ذلك الحيوان إلا لأنه كلب يشم بحاسة الكلاب ؟ أفينقض " وجزء " تلك المعاني والتوفيقات أن يقول قاتل :

بل ما أدركها ذلك الناظم أو ذلك الموسيقى إلا لأنه مجنون مخبول ؟ فلم لا يكون الخبل المزعوم هو المفتاح الذى يوجه السريرة إلى وجهة تلك المعانى والتوفيقات ؟ ؟ ولم ننكر " المحطة " لأننا لا نملك المفتاح وإن راينا بن يسمعها وبروى لنا ألانها وأباشيدها في تناسق وانتظام ؟

فالعالم حافل بما يحس ويشعر حافل بالمنظورات وإن لم يشهدها كل نظر ، وحافل بالمسموعات وإن لم تسمعها كل اذن ، وحافل بالطعوم وإن لم يذقها كل لسان ، وحافل بالحياة وإن لم تتصل بها اتصال التعاطف والتفاهم كل حياة فلم لا تقول على هذا التياس إنه حافل بالعال ، وحافل بالمدركات ، وحافل بالوحى والتسبير ، وان العبقرى حاسة فى الروح تلتقط هاتيك المعانى والمدركات من حيث لا يحل أحد بموقعها هناك ؟ ؟

لم لانفهم ان المحسوسات الذهنية التى تتناولها العبقرية لن تنفد بالتقاط الاذهان منها لأنها ليست بأجسام ، وان الشئ الذي ليست له مادة تنفد لن يرى على وضع واحد بل يرى على ألوف الألوف من الأوضاع حسب من ينظرون إليه وينفذون فيه ؟ لم لانكون الدنيا مفرحة محزنة ، عادلة ظالمة ، منظومة مشتتة ، لان هذه المعانى لا تتناقض في عالم الالهام كما تتناقض السوداء والبيضاء فى عالم العيان ، وإنما يصب التوفيق بينهما فى إلهام واحد كما يصعب التوفيق بين مفاتيح المذياع ، فنخرج إذا أدرناها جميعا من الفهم والنظام ، إلى اصداء لا تقبل الفهم ولا النظام ؟

إذا مرت بي حالة عابرة إلي جانب الحزن والفنوط قلت هى حالة صادقة فى مفتاحها

واذا مرت بي حالة عابرة إلى جانب الفرح والرجاء قلت هى ايضا حالة صادقة فى مفتاحها

ولم أقل إن العالم السرمدى ينحصر فى هذه أو فى تلك ، ولكنى أتلقي درسا من المذياع وأومن بأن السريرة الانسانية أكبر - على الأقل - من صندوق الكهرباء ، وإن عالم الادراك أكبر - على الأقل - من مراكز الاذاعة ، وأن الوصلة بين الطرفين أكثر على الأقل من الموجات القصار والوسطى والطوال .

اشترك في نشرتنا البريدية