الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 282الرجوع إلى "الثقافة"

المرأة فى عاصمتين

Share

دخل علي صاحبي في غير ما أعهد من هدوء حال ، وارتخاء بال . قلت : ما بك ؟

قال : دش ساخن أخذته توا . قلت : أفي هذا الحر ؟ إذن فتوار عن التيار قال : ليس الدش دش ماء ، ولكن دشا نفسانيا

من الأدشاش التي تتلذع منها النفس احترارا، ثم يندي لها الجبين فيبترد

قلت : ما وراءك ؟ قال : حادث في الترام . في الدرجة الأولى . ثلاثة رجال ملأوا المقعد الأيمن . وثلاثة رجال ملأوا المقعد الأيسر . ودخل رجل عسكري اجنبي بعد ذلك فوقف . ودخلت امرأة من بعد ذلك فوقفت . ومضي القطار خمس دقائق والأنثى تتأرجح يمينا ويسارا من شدة السرعة ، وهي واقفة ، والذكور جلوس . والرجل العسكري تمتلئ نفسه من هذا المنظر حتي فاض صدره فانفجر .

قلت : كيف ؟ قال : انفجر كمرجل وابور ، قال : ستة رجال كالبغال

تكونت شحومهم ولحومهم على المقاعد ، بينهم امرأة تضطرب بلا سند كالريشة في مهب الريح ، وليس منكم من يستحي فيقوم عن مجلسه لها .

قلت : فماذا صنعوا ؟ قال : بهتوا وصمتوا . إلا رجلا هزه ما قيل .

قلت : فقام عن مقعده ؟ قال : لا ، لم يهتز للقيام ، ولكنه اهتز للجواب . قال مجيبا بلغة اجنبية سقيمة : " إن الله خلق لها رجلين كما خلق لنا " . فقال له الرجل : " لقد فات الله ان يخلق لكم أربعا "

قلت : وبهذا حسم النزاع ؟ قال : لا . فأسبابه كانت لا تزال قائمة . رجل اجنبي تعود في بلده أن يقوم الرجل الواحد لتقعد المرأة الواحدة ، فاذا هو بمنظر ستة من الرجال يقعدون وامرأة واحدة تقف ، وذلك في مكان ضيق تتقابل فيها الوجوه وتمتنع المداراة . فأخذ يدمدم كلما فرسه ما يري . قال في إحدي دمدماته : " إني أتبت من بلد بعيد عبر البحار وبلدتي قرية صغيرة فوق جبل ، ولا نعرف فيها الترام . ولكنا نعرف فيها كيف نحترم النساء وكيف نفرق بين المرأة والجاموسة . ثم استشاط غضبا فصاح بملء فيه : " يا كلابا قذرة " . قلت : يا خبر ! فماذا صنع الرجال الكرام عند هذه ؟

قال : تصنعوا أنهم لا يفهمون . قلت : فماذا صنعت المرأة في الموقف المخجل . قال : حاولت ما استطاعت أن تهدئ من ثائرة العسكري فهمست له باسمة : " لا تنس أن هذا العصر عصر المساواة في كل شئ ، حتى بين الرجل والمرأة . والقاهرة سباقة دائما إلي التطور " .

قلت : وانت ؟ أين كنت من كل هذا ، وكيف سمعت ورأيت ؟

قال : سؤالك هذا كان أخشى ما خشيته . كنت

أحد الرجال الستة.

قلت : أنت الذي عاش سنوات في حيث تجلس المرأة ويقف الرجل ؟

قال : والله لا أدري ما الذي جري . لقد كنا هناك يقوم الرجل للمرأة على غير وهي ومن غير تدبير . أما هنا ، فالفكر يتدخل دائما ، فيوازي ويقارن ، ويستدعي العدالة لتحكم ، ويستدعي المعاذير . ووراء كل هذا طباع متأصلة ، والمرء لطبعه عواد لقد كان فينا نحن السنة من هو اقل مني سنا ، وأشب عضلا ، فتربصت بأحدهم أن يقوم فخاب أملي . وكان فينا الجندي وقد هبطت على كتفيه الزهرة والمشتري ، والجندية موطن الشهامة ومظنة النجدة ، فتربصت به أن يقوم فخاب أملي . وكان فينا طالب الجامعة ، وقد استغني عن غطاء رأسه ، وجري في رأسه المشط ، وافترق الشعر ، والتمع العطر ، وتدلي علي صدره المنديل الكبير الطويل يطلب أرضا ، فقلت هنا الحداثة ، هنا العصرية ؛ فما لبثت أن //نبثغتها// عصرية وقفت عند الجلد ، فخاب أملي . وضاعت فرصتي أنا بين هذا الانتظار وهذا التربص . ضاعت فرصتي في الجود ، والجود لا أحبه إلا مبادرة ، فبسط اليد يخجل من بعد قبضها ، والإقدام يبوخ من بعد إحجام . فاحتميت في عزة الرافض حينا ، وزادني استمساكا بعزة الرافض فورة هذا الرجل الأجنبي وثورته وبقيت حتي هدأت الزوبعة.

قلت : فماذا صنعت من بعد هدوئها ؟ قال : تلطفت فأعطيت مجلسي للسيدة .

قلت : إذن لطف الجو من بعد ذلك وراق. قال : ولكنها رفضت مجلسي بابتسامة عريضة ، وقالت : لا وشكرا . فلم أدر ايها كان اقتل لي ، ابتسامتها أم شكرها . وكأنما ثقل عليها الموقف فأرادت ان تحسمه ، فنزلت من القطار ؛ ولما سار بنا ، رأيتها على بعد تستدعي سيارة أجرة . ونزل الرجل الصخاب من بعد ذلك .

وهنا انفتحت الأفواه المغلقة ، وصانت الألسنة كما نصبت السياط.

قلت : ففي أي شيء وقعت السياط . قال . وقعت في عرض المرأة ، فكأنما كانوا عرفوا من تكون ، وانطلقت النكتة بذيئة ، شبروا بها هذه المرأة المجهولة من قمة رأسها إلى إخمصها . وربطوا نزول الرجل بنزولها على بعد الشقة بينهما ، واستدعوا الوطنية يستعينون بها علي ما هم فيه . والوطنية جميلة ، ولكن الإنسانية أجمل . والرجل كان رجلا ، والمرأة كانت امرأة ، والطفل العاجز طفلا ، قبل أن تتفرع الاسرة الإنسانية إلي غربي وشرقي وآري وشامي وحبشي ومصري . وأي وطنية تكون بلا أداب ، وما إقحام الوطنية في مثل هذه الأداب ؟ ! وقمت بدوري عن هذه الجماعة ، وقد امتلأ الجراب .

قلت : هون عليك ، فما حال المرأة إلا بعض أحوالنا . أتسمع مني قصة اخري حدثت لي في عاصمة اخري من عواصم الشرق ، تريك أن أمم الشرق في حلمية الجد افراس رهان ؟

قال : هات قلت : نزلت في عاصمة الغساسنة منذ سنوات على غير معرفة وساقتني الصدفة إلي لقاء رجل كريم ، له لحية سوداء وعمامة بيضاء وجلباب اسود . وكان ذا وسامة ومهابة . وعرفت منه أنه فقيه ، فأكرمت فيه فقهه وعرفت منه بعد ذلك انه لا يتجر بالفقه ولكن بالحرير ، فأكبرت فيه تجافيه عن دين الله أن يتجر فيه وعرفت عنه انه ذو سابقة في الثورة التي جناها الفرنسيون ، وانه اقتحم البيوت في إطفاء الحرائق ، واقتحم الحصون ، وتعرض للموت صريحا ، فأعظمت فيه هذه المجموعة النادرة : دين وتجارة وحرب . وقلت ما هانت بلد انجبت مثله . وحضر إلى الفندق مبكرا يطلب صحبتي في المدينة ، فأكبرت فيه كرما ، واستبنت شهامة ، وجرت لنا معه أيام لم تنكشف

حاله لنا فيها إلا عن أطيب المثل . وكان كريما معوانا . وحدث من بعد ذلك ان جري الحديث عن المرأة - عن زوجة له طلقها . فقلت له : ) خسارة " فقال : " لا خسارة ولا شئ . إنها ام ولد ، كانت فبانت " فحسبت انه قصد إلى إعزازها بوصف انها أم أولاده . ثم علمت انه إنما قصد إلى أن المرأة ماعون يهيأ فيه الطعام ، ثم يلقى به في الحوض عند بالوعة الماء ليغسل من اوضاره . وقال في برود شديد : " إن النساء كالنعال تقدم ، وعندئذ لا مفر من تجديدها " . افتدري كم كانت صدمتي منه

وبليتي فيه ؟

قال صاحبي : صدمة من رائعة ، فلما حملها بين يديه ، وقعت فانكسر

قلت : نعم كانت بلية من وقع على ورد وتغرى نضارة ، وعلى وريقاتها ندى الصباح الب أردت ضمها إلي صدري وجدت في قلبها بصقة خص

قال : فألقيت بها إلي الأرض ، ودهستها بالرجا قلت : لا. أشفقت على نعلي أن تتسخ ،  حرمة الورد أن تمتهن

اشترك في نشرتنا البريدية