قرأت منعاة صديقي الكبير محمد رمزي بك فتولانى هم فوق هم النائبة الطامة التي نزلت بالبلاد لمصرع الصديق الاكبر لمصر والمصريين جميعا ، بيد زعمت انها مصرية ، وفي دار البرلمان . وما ظننت القلب يتسع لفجيعتين في يومين اثنين متلاحقين ، لولا ان شدة الفجيعة القومية الأولى هي التي جعلتني أطيق الثانية أيضا ؛ وإنا إلى الله وإنا إليه راجعون .
عرفت محمد رمزي بك وهو مشرف على الستين ، وعرفت أنه من كبار موظفي الدولة ، يروح ويغدو إلى عمله المسؤول بوزارة المالية في داب وهدوء ، فإذا انتهى يومه الحكومى أوي إلي بيته ليقوم على عمل من نوع أجل وابقى ، وهو تحقيق تاريخ البلاد المصرية واسمائها ومواضعها . ومن هنا نشأت صلتى به وتوثقت حتى أضحي هو ومكتبته والآلاف المؤلفة من جذاذاته ومذكراته مرجعا وموئلا لي ولغيري من المشتغلين بالتاريخ المصري في مختلف العصور .
ثم بلغ محمد رمزى بك سن الستين ، وأحيل إلي المعاش والتقاعد ، فاذا به يبدأ حياة جديدة ، ملء ايامها ولياليها نشاط علمى منقطع النظير ، في غير كلالة او تعب . إذ عكف على تحقيقاته وتأليفها ليخرجها كتبا للناس ؛ وعرفه الأمير عمر طوسن ، وغيره من الشخصيات النبيلة وغير النبيلة ؛ وعرفته دار الكتب المصرية ومصلحة المساحة ، ولجنة حفظ الآثار العربية ، ومصلحة التنظيم والمجلس الحسبي العالي ، ولجنة التقسيم الإداري الجديد ، وغيرها من مختلف الهيئات الرسمية . فأرسلت إليه تستمد انواع المعلومات فيما يغلق او يسئبهم ، واستجاب هو إليها كلها مرحبا في غير منة ، وأمدها بما عنده من ثمرات البحث والاستقصاء والاطلاع الواسع في كرم لا يعرفه إلا من خبره ؛ ولم يدر أن ذلك الكرم قد
صرفه عن كتبه التي لا تزال إلى الآن في طئ المخطوطات ، وأرجو ألا تظل هناك طويلا.
وكثيرا ما قصدت إليه في طلبة علمية في ساعات يقضيها معظم أمثاله في لا شئ أو أقل من لاشئ ، فإذا هو جالس إلي مكتبه مكب على نسخة من مخطوطة نادرة نسخها بيده ، أو خريطة من خرائط القاهرة القديمة والحديثة يصحح بعض خطوطها وأسمائها بقلمه ، أو جذاذة من جذاذاته القديمة يضيف إليها من كل جديد . . وذلك من غير أن يكون بحاجة إلى عمل أو ما يشبه العمل ، ومن غير أن يطلب إلى أحد شيئا سوى أن يأخذوا مما يجدونه عنده من مجاني الكتب ، على أن ما عند محمد رمزى بك لم يكن من مجاني الكتب فحسب ، بل كان كل ما عنده خلاصة من القراءة والرؤية معا ، ولا يكاد يخلو سطر مما كتبه من اشارة إلي زيارته ومشاهدته لهذا أو ذاك من المدن والقري والعزب والكفور والأمكنة والشوارع والجوامع والدور والمدارس القديمة ، بمصر والقاهرة وسائر البلاد المصرية . مما اقتضاء عمله الطويل في خدمة الحكومة ، وعني هو بتدوين أوصافه وتواريخه وجغرافيته لنفسه منذ صباه.
وكان مولده - يرحمه الله - في ١٧ أكتوبر سنة ١٨٧١ م ، بقرية المقاطعة بمركز السنبلاوين . وأبوه عثمان رمزي بك من رجال الجبش زمن الخديو سعيد واوائل عهد الجدي إسماعيل ، وجده مصطفى أغا آق كسكه من رجال المدفعية الذين انتقاهم الكولونيل سيف ( سليمان باشا الفرنساوي ) من بين الضباط الاتراك لتعليم المصريين فنون الحرب ، عند ما قرر محمد على الكبير إنشاء الجيش المصري.
وقد تعلم محمد رمزي بك مدرسة القبة الابتدائية التي أنشأها الخديو توفيق لتعليم أنجاله وأترابهم من أبناء الذوات ، فكان من زملائه بتلك المدرسة الخديو عباس
الثاني والأمير محمد علي ؟ ودخل المدرسة الخديوية الثانوية ، ودرس القانون بمدرسة الحقوق . ثم التحق بوظائف الحكومة بالمنصورة ، فلم يقم بها طويلا ؛ واتصل بالشيخ محمد عبده ، فعينه بوظيفة في الإدارة بنظارة الداخلية ، وظل يترقي في ذلك السلك حتى سار كبير مفتشي المالية بمصلحة الاموال المقررة . واكاد اراه الان ، وهو يتقلب فيما تقلب من وظائف صامتة - كما كان يحلو له ان يسمى عمله بالحكومة - وا كاد اراه الان وهو يحمل حقيبته وبداخلها خطط المقريزي وابن دقماق وعلى مبارك - كما أخبرني عن نفسه - ليسترشد بها في تنقلاته الدائمة بين البلاد المصرية صغيرها وكبيرها . غير انه ما لبث ان امتدت به القراءة إلى ما وراء ذلك ، فاوغل في مؤلفات كاترمير
وأمليونو وماسبيرو وقيت ، كما أوغل في القري والنواحي منقبا محققا لما قرأ في تلك الكتب حتى عرف أصولها جميعا ، وصار الحجة الكبرى بين الإخصائيين ، ممن رأيت في جنازته الكبرى خاشعين مترحمين ، مفكرين فيمن يكون خلفا صالحا يقوم مقامه في التثقيف والتعريف في غير أنانة أو ضنائة أو ادعاء أوتقتير
وبعد فهذه كلمة وداع عابرة من صديق يحزنه أن محمد رمزي بك لم يعد بين الأحياء على وجه الأرض في هذا البلد المقل في أفذاذ الرجال .
26 من فبراير سنة ١٩٤٥

