وقع نظرى أثناء مطالعتى فى الجرائد اليومية التى وصلتنى من المانيا على خبر لم يوضع فى مكان بارز كأنه ليس من الأهمية فى شىء، ورد فيه نعى جوتهلف برجستر يسر أستاذ اللغات السامية بجامعة ميونيخ، سقط أثناء رحلة رياضية فى جبال الالب من قمة جبل جلوكنر إلى هاوية توفى فيها على الفور، لو وقع هذا الحادث منذ سنوات قليلة لكان قد وضع فى مكان أبرز، وعلى حالة تلفت القراء أكثر مما هو فى جرائد هذه الأيام، لأن المانيا الحالية ليس فيها من يعبأ كثيرا بمن توفى من العلماء المستشرقين، ولكني روعت لهذا الخبر الذى أدمى قلبى وملأه حزنا وأسى.
كان علم الاستشراق قد قطع شوطا بعيدا فى أواخر القرن الماضى فى جامعات اوربا على العموم، وفي ألمانيا خاصة حتى وصل ببحوث نولدكه وجولدسيهر ويت ويستنفلد وليتش وغيرهم إلى اوج مجده ثم أخذ بعد انتهاء الحرب العظمى ينحدر من قمة الجبال إلى بطون الوهاد ويتضاءل شيئا فشيئا.
ويجب أن يلاحظ أن الحرب العالمية قد أدت إلى انحطاط العلم على العموم فى أوربا، لأن التفكير الجدي والقراءة الدقيقة انقطع عنهما الشباب الذى أخذ يميل إلى البحوث السطحية وإلى اكتساب العلم عن طريق الراديو والسينما، كما انتشر فى الجامعات توغل جمهرة الطلبة فى الشؤون السياسية والحزبية اكثر من توغلهم فى البحوث العلمية.
وقد توفى من خيرة الأساتذة المستشرقين (جولدسهر ونولدكه شبيجلبرج وبيجر وهورديتس) دون أن يأتى غيرهم فيملأ الفراغ الذى تركوه فى شتى العلوم التى كانوا يضحون حياتهم فى سبيلها. واما الآن فنجد عددا غير قليل من الأساتذة يملئون أروقة الجامعات فى المانيا وهم من الذين يناصرون الحزب الذى يقبض الآن على ناصية الحكم فى البلاد ... هذه الأفكار أخذت تقلق بالي فى تلك اللحظات التى قرأت فى الجرائد الألمانية عن وفاة العالم برجستريسر.
نشأ الأستاذ برجستريسر فى أسرة المانية مسيحية بروتستانتية وكان أبوه وجده قسيسين فى مدينة بلون Plauen من أعمال زكسن Sachsen بألمانية، ومن هنا يسهل فهم سبب عناية والديه بتربيته الدينية فى المدرسة الابتدائية والثانوية، إذ أرادا أن يحقق امنيتهما حتى يكبر تقيا ويصبح صالحاً لرداء الكهنوت ويكون خير خلف لخير سلف، ولكن جوتهلف برجستريسر مال عن هذه الرغبة إلى البحث فى اللغات السامية والعلوم الإسلامية حين دخل فى جامعة ليبزيج Leipzig فى سنة 1904 وقد درس آداب اللغة العربية عند العالم أوجست فيشر الذى يعتبر إلى يومنا الحالى من قادة النقاد لدى جمهرة المستشرقين، وقد أثرت روح النقد فى جستريسر حتى أضحت على كر الزمن من مميزاته البارزة لا فى الكتابة والقاء المحاظرات فحسب، بل اثناء محادثاته العادية مع محدثيه كانت لا تفوته كبيرة أو صغيرة دون أن يتعرض لها إذا وجد مجالا للمعارضة أو الانتقاد.
ونذكر بهذه المناسبة ان فيشر- شيخ النقاد- كان على الدوام ينتقد بكل شدة مؤلفات المستشرقين حتى هابه عظماء العلماء فى العصر الحاضر، على إن فيشر لم يؤلف المؤلفات الكبيرة كما فعل العلماء الذين انتقد مصنفاتهم بل كان يكتفى بوضع المقالات، وأخذ بعض العلماء يهزأون به ويقولون أن فيشر لا يحب أن ينشر كتبا خوفا من شبح النقد وانتقام النقاد، ومن اكبر عيوب أوجست فيشر أنه بدأ يدون جملة كتب فى موضوعات شتى منذ سنين كثيرة ولم ينته منها، إذ من المعلوم انه يعمل منذ ثلاثين سنة فى
تأليف قاموس عربى علمى دقيق للشعر العربي القديم لم يطبع إلى الآن، وكذلك بدأ فى مراجعة جملة مخطوطات لكتاب المغازى للواقدى منذ أمد بعيد وإلى الآن لم ينته منه أيضا. وكان كاتب هذه السطور قد التقى بالأستاذ فيشر فى مدينة فينا فى مؤتمر المستشرقين فى سنة 1930 فعرض عليه أن يتم مراجعة بقية الأجزاء من كتاب المغازى للواقدى، فلما سمع فيشر اقتراحه بدا اضطراب على وجهه وسكت طويلا كأنه لم يتمكن من أن يبوح بكلمة، ثم أجاب بعد تفكير طويل: أمهلني حتى أفكر ملياً فى هل أكمل الكتاب أم أقدمه إليك مع جميع المخطوطات والصفحات التى بدأت بمراجعتها...فلما قصصت حكاية المقابلة مع فيشر للأستاذ برجستريسر ابتسم ابتسامته الحلوة قال: فيشر لن يرسل إليك الصفحات التى راجعها أبدا كما لن يخبر أنه عزم على أن لا يتم الكتاب...
على أن فيشر كان قد درب فى جامعة ليبزيج تحت أشرافه عددا لا يستهان به من العلماء حتى أصبحوا من فحول المستشرقين فيما بعد، وكان بينهم الأستاذ جوتهلف برجستريسر.
وبعد أن أتم برجستريسر دراسته الجامعية وقدم رسالة عن حروف النفى وأسماء الاستفهام فى القرآن الكريم فى سنة 1911 قام برحلة إلى الأقطار الشرقية فى سنة 1913 فزار الأناضول وسورية وفلسطين ومصر وما كاد يصل إلى ألمانيا من هذه الرحلة المباركة حتى بدأت الحرب العظمى فدعى إلى ساحة القتال، وظل متنقلا مع الجيش الألماني فى أرض بلجيكا وفرنسا إلى أن دعته الحكومة التركية فى سنة 1915 لإلقاء محاضرات فى جامعة الأستانة، وكان أول عهده بلقب أستاذ، وقد بلغ حينئذ العام الثلاثين من حياته، ولما ذاع صيته دعى لإلقاء محاضرات فى جامعات ألمانيا فى العلوم الإسلامية واللغات السامية كانت أولها جامعة كونسبرج فى سنة 1919 وفى عام 1922 انتقل إلى جامعة برسلو ومنها إلى جامعة هيدلبرج فى سنة 1924 ثم دعى إلى مدينة ميونيخ، سنة 1926 التى ظل يدرس بها إلى أن أدركته المنية .
تنقسم مؤلفات برجستريسر إلى أربعة أنواع أصلية، نوع يشتمل كتبه عن اللغة العربية وعلم اللغات السامية، ونوع آخر يبحث فى الأرامية ولهجاتها، ونوع ثالث يحتوى على مصنفاته ومطبوعاته فى الآداب العربية والعلوم الاسلامية، وأما النوع الرابع فيشمل مقالاته عن علوم اللغة التركية.
على العموم تمتاز كتابة برجستريسر بدقة الجمل القليلة فى ألفاظها، الكثيرة فى معناها، يعبر عما يجول فى خاطره بعد تفكير
طويل، وبعد إحاطة بالموضوع من جميع نواحيه، وإلمام شاق بجميع المراجع الكبيرة والصغيرة مع استعمال الأدلة العلمية الدقيقة، مما يجعل القارىء يحتاج إلى قراءة الكتاب بأناة حتى يقف على النظريات الغزيرة
ومن أهم ما دون برحستريسر فى حياته: كتابه عن قواعد اللغة العبرية، ومما لا شك عندنا أنه اخطر كتاب فى موضوعه منذ بدأ البحث فى علوم الأمم الشرقية على الطريقة العلمية المألوفة عند الإفرنج، وقد أظهر المؤلف فى هذا المصنف أنه وقف على جميع النظريات التى الفت فى هذه المادة فى جميع العصور بين كتب ومقالات معروفة ومهجورة، وهذا المام يندر أن يوجد بين علماء اليهود أنفسهم.
ومع أن كتابه هذا وضع لجمهرة الطلبة فى الجامعات فانه لم يستعمل كثيراً بين هؤلاء لأنهم لم يتمكنوا من فهمه وإدراكه حق الإدراك، لذلك اصبح كتاباً للأساتذة والمدرسين فى المعاهد العليا كما هو شأن جميع كتب برحستريسر التى انحصر تداولها بين أيدى الذين نضجت عقولهم وتمرنوا على مطالعة الموضوعات العويصة والكتب الفنية الدقيقة.
وله كتاب آخر سمى المدخل إلى اللغات السامية
Einfuhrung in die semitischen Sprachen.
ويجب أن يلاحظ أنه بعد أن نشر مصنف نولدكه عن اللغات السامية، وكتاب بروكلمان الكبير عن الموازنة بين قواعد اللغات السامية جاء برجستريسر وأضاف كتاباً جديداً فى هذه المادة، وكان الناس يتوقعون أنه لا يأتي بجديد، ولكن ظهور الكتاب أزال كل أثر لتلك المخاوف، إذ جاء جديداً فى اسلوبه، فياضاً فى نظرياته، ثائراً على القديم، يلقى أحكامه الجديدة ويهدم قضايا مألوفة ومعروفة.
وله كذلك كتاب فى جغرافية اللغة فى سورية وفلسطين
Sprachatlas fuer Syrien und Palacestina (
وضعه لاغراض عملية لرجال الجيش الألمانى فى البلدان العربية أثناء الحرب العظمى.
وقد ذكرنا رحلة الاستاذ برجستريسر إلى البلدان الشرقية، وكان قد أقام مدة من الزمن فى دمشق بحث فيها بحثا علميا دقيقا عن اللهجة العامية فى دمشق، كما وجه عناية شديدة إلى البقية الباقية من الارهاط السريانية التى تقطن فى المعلولة وهى ضاحية من ضواحى دمشق. وصنف رسالتين إحداهما عن اللهجة السريانية عند أهل معلولة
والأخرى عن الروايات الخرافية الجديدة عند الأراميين.
على أن الاستاذ برجستريسر وجه جل عنايته إلى البحث فى العلوم الإسلامية والعربية، وكانت باكورة مصنفاته فى هذه المواد رسالته عن حنين بن اسحق ومدرسته، ومما لا شك فيه أن اللذين يكتبون عن الفلسفة اليونانية وأثرها فى الفلسفة الإسلامية وعن حركة الترجمة والنقل من اليونانية إلى العربية بواسطة السريان، يجدون فى هذا السفر مادة غزيرة لا يمكنهم أن يستغنوا عنها مطلقا...
وله كتاب آخر وهو عظيم الخطر فى العلوم الإسلامية أعنى به ما كتبه عن مصاحف القرآن الكريم. كان الأستاذ نولدكه قد الف فى أواسط النصف الثانى من القرن التاسع عشر كتابا عن تاريخ القرآن كان له الدوي العظيم والأثر البعيد فى أندية العلماء فى أوربا، ولما احتاج الكتاب إلى تنقيح وزيادات وكان الأستاذ نولدكه قد توغل فى بحوث أخرى تناوله الأستاذ شوللى Scwally واخرج الطبعة الثانية من كتاب تاريخ القرآن الكريم مع زيادات وملاحظات كثيرة، ولم يكن الكتاب كمل بعد، لذلك أتم برجستريسر ما بدأ به نولدكه وشوللى فدون الجزء الثالث من تاريخ القرآن الكريم وهو كتابه عن المصاحف، وقد رأى الأستاذ برجستريسر أن يبحث فى قراءات القرآن وهي مادة لم يكن ليشتغل فيها غيره من كبار المستشرقين، فقضى سنين طويلة يراجع بصبر واناة كل ما دون فى أمهات المصنفات الإسلامية فى هذه المادة من كتب مطبوعة ومخطوطة، وكانت نتيجة هذه الأبحاث الطويلة أنه طبع (1) كتاب غاية النهاية فى طبقات القراء لشمس الدين أبى الخير محمد الجزرى المتوفى سنة 832 هـ (2) كتاب شواذ القراءات لابن خالويه (3) رسالة باللغة الألمانية عن القراءات القرآنية الشاذة فى كتاب المحتسب لابن جنى
NiChikamische Kran les arten im Mughtasab des Ibn
وهو آخر مصنف وضعه الأستاذ برجستريسر فى حياته، ومما يلفت الأنظار أن هذا الكتاب مقدم إلى الدكتور طه حسين.
ويجب ألا يغيب عن البال إن الأستاذ برجستر يسر قد أتقن ماعدا اللغات السامية: الفارسية والتركية أيضا، وقد وضع جملة مقالات عن آداب هاتين اللغتين نشرت فى مجلات المستشرقين فى مناسبات شتى
كان الأستاذ أنوليتمان (E.Littmann)المستشرق الشهير صاحب المدونات عن الكتابات العربية قبل الاسلام، المعروفة بالخطوط الثمودية واللحيانية الصفوية(راجع كتاب تاريخ اللغات السامية لكاتب هذه السطور ص 175 - 188) بعد أن ألقى محاضرات
فى الجامعة المصرية فى السنة الدراسية 1928 - 1929 ولم يستطع الرجوع إلى الجامعة بعد ذلك الحين أشار على الهيئات الرسمية بالجامعة بان يدعو الأستاذ برجستر يسر لإلقاء محاضرات فى الجامعة المصرية.
وقد قوبل الاقتراح ولبى الأستاذ برجستريسر دعوة الجامعة وحضر إلى القطر المصري وكان مجيء برجستريسر حادثاً خطيراً فى حياة الجامعة المصرية إذ كان الأساتذة والمدرسون يقبلون عليه ويحضرون مع الطلاب محاضراته النفسية، وكان يلقي فى ذلك العام (1930) محاضرات عن التطور النحوي للغة العربية. وكان فى محاضراته الأولى كثير العجمة والإبهام فى لغته العربية، وكان يقرأ المحاضرة من الورقة المكتوبة التى كانت أمامه، ثم أخذ بعد جملة أسابيع يتحرر شيئاً فشيئاً من الكراس، وأخذ يرتجل الجمل ارتجالاً ويفصح فى الكلام افصاحاً، ثم رجع فى سنة 1932 إلى مصر وألقى محاضراته عن اللهجات العامية فى الموصل. كان يفيض كالبحر الزاخر بلغة عربية فصيحة كانت مفهومة واضحة لجمهرة الطلبة
ويجب أن يقال بكل صراحة إن عدد الحاضرين عند برجستر يسر كان فى بادئ الأمر كبيرا، ثم أخذ ينقص على كر الزمان الى ان انحصر الحاضرون فى طلبة قسم اللغات السامية فقط، والسبب فى ذلك يرجع إلى أن محاضرات برجسترسر كانت فنية قبل كل شيء أي إن الذين لم يدرسوا اللغات السامية لم يفهموا كثيرا مما كان يلقي الأستاذ، وفوق ذلك فأن عقلية برجستريسر كانت دقيقة وعميقة وكانت محاضراته موجهة إلى أصحاب الثقافة الراقية قبل كل شيء. لم يكن برجستريسر أكبر الأساتذة سنا، ولكنه كان أعلاهم مقاما وأغزرهم علما وكانوا يوجهون إليه الأسئلة حتى يقفوا على أرائه فى كثير من الموضوعات ومن هنا ادخل برجستريسر فى هيئة التحرير فى المجلة العلمية الشهيرة فى أدبيات فى أدبيات المستشرقين وكان Orientalistische Literaturzeitung مدة من الزمن رئيس التحرير فى المجلة الألمانية للعلوم السامية Philolagie und Linguistion Beitragezur sem.
كان الاستاذ برجستريسر فى اجهاد نفسه حتى أضناه العمل لانه كان فوق البحث والفحص لتنظيم محاضراته لطلبة الجامعة المصرية ، يمضى أيام كاملة من الصباح الى الغروب فى المكتبة الملكية يجلس الى مائدة فى غرفة منفردة ويراجع مخطوطات فى قراءات القرآن، ثم اضطر الى ملازمة الفراش ،فعنفه الاطباء على اجتهاد المفرط الذى ينذر بالخطر وأشاروا عليه بترك العمل فى المطالعة والتأليف ولكنه لم يحفل بهم
وكان برجستريسر يحب الجبال، والرياضة فى الجبال، يتنزه أسابيع كاملة على خلوة بنفسه، وفي اليوم الثاني عشر من شهر أغسطس المنصرم صعد جبل جلوكز الشامخ فحدثت الفجيعة العظمى إذ زلت قدماه من ذروة الجبل الشاهق وسقط إلى هاوية فتوفي على الأثر
وكان قد بلغ الثامنة والأربعين من عمره حين قضى نحبه.
