كان من أثر الفتوح الإسلامية التي ثحلت العالم القديم شرقا وغربا أن انبثت القبائل العربية في كثير من عمالكه ، ثم امتزجت هذه القبائل بشعوبها واتصلت بيهم أواصر النسب ووشائج الولاء والتحالف ، فنشأ بعدهم جبل ملقح بالعدم العربي ، لسانه لسانهم ولهجته لهجتهم ، إما لتفرعه عنهم ، وإما لتأثره بهم نزولا علي القاعدة الاجتماعية ، أن يقفل المقلوب غالبه ويتعلم لسانه ، تقربا إليه وزلغي ؛ هذا إلي أن دين الفاتحين الجديد قد خلص إلي أعماق قلوبهم واستحوذ علي مكمن العقيدة منهم ، فسلكهم في عداده ، ومنحهم من الحقوق ما أقر عيونهم وأثلج صدورهم والذي يمنعنا من بحثنا هذا أن نعرف القبائل التي كان لها أثر في الشعب المصري والتي نشأت عن امتزاجها تلك اللهجات التي لا يزال الكثير منها باقيا ، على طول العهد به وتناوح الواغلين عليه ، يجري علي ألسنتهم مع اختلاف يسير أو كثير بين بعض الأقاليم وبعضها الآخر ، وإنما لنعلم أن هناك فروقا بين لهجات القبائل تظهر إما في الحروف ، وإما في الألفاظ ، وإما في طريقة الأداء . فاذا استطعنا أن نستخلص بعض المظاهر ونطبق مواد الاختلاف الشائعة في اللغات العامية علي ما يماثلها من لغات العرب الصحيحة ولهجاتها ، أمكننا أن نعلم إلي من ينتسب أكثر هذا الوجه أو ذاك ، وبمن ترتبط هذه المديرية أو تلك ، سواء أكان ذلك ارتباط نسب أم ولاء أم محالفة . وقد يبدو هذا أول وعلة أمرا يسيرا ، إلا أن الواقع بخلاف ما يبدو ، فالباحث فيه محتاج إلي أن يعرف ما يدور على السنة العامة ، ثم يقارب بينه وبين ما يعرفه
من لهجات ، فإذا ما أسفرت أمامه البراهين وتعددت له الأمثلة كان عليه بعدئذ أن يلقي نظرة في التاريخ لعله يظفر منه بسند قوي يعاضد حجته وبشد ازرها ، فلا يكون في حكمه مجافيا الصواب ، أو متبعا طريقا يوغل ، في الخطأ ويبعده من مظان الحق . ومن المتعذر علي من يريد الدخول في هذا البحث أن يطبق ما اختلفت فيه القبائل من جهة الاعراب رفما ونصبا وجرا ، وما اختلفت فيه إعرابا وبناء ؛ فالعامية المنحدرة عن اختلاط العرب بغيرهم مع طول الزمن محت هذه الفروق وقضت عليها ؛ فليس في مقدورنا ان نلمح ولو شعاعا ضئيلا منها يؤدي بنا إلي ما نريد فما كان في الاستطاعة مثلا أن نطبق الاختلاف بين الحجازبين والتميمين في نحو " ما هذا بشراً " بإهمال " ما " عمل " ليس " عند الحجازين ، أو ما هذا بشر بالرفع بإهمالها عند التميمين ، مع أن هذا الاختلاف بينهما في هذا الإعمال والاهمال من الشهرة بحيث تظرف فيه أحد الشعراء - النحويين على ما يبدو - فقال : ومهفهف الأعطاف قلت له : انتسب
فأجاب : ما قتل المحب حرام للبرهان على ان المجيب وهو مهفهف الاعطاف تميمي لا حجازي ، لأنه لم ينصب لفظة "حرام" بل اهمل إعمال "ما" كان في الاستطاعة ايضا ان تعليق الاختلاف بينهما في نحو " كم عبداً ملكت" بنصب تمميز (كم) الخيرية وإفراده وجوبا كما يفعل التميميون ، أو كم عبيد او عبد بوجوب الجر مع جواز الافراد والجمع كما يفعل الحجازبون . وليس في مقدورنا كذلك ان نلحظ الفرق بين المصريين
في مثل قولنا : " كنت في مكان كذا امس" ، ببناء امس على الكسر في لغة الحجازيين الذين جري بيت الشاعر على لغتهم وهو :
اليوم أجهل ما يجيء به ومضى بفصل قضائه أمس
أو " كنت في مكان كذا أمس " بإعراب أمس إعراب ما لا ينصرف على لغة التميميين الذين حمل قول الشاعر على طريقتهم وهو :
لقد رأيت عجباً مذ أمسا عجائزا مثل السعالي خمسا
فهذا الذي تقدم وأمثاله مما لا سبيل إلى الظفر به الآن ووضوح الفرق فيه ؛ فليس ثمة والحالة هذه إلا أن نتجه وجهة اخرى قد يكون الأمل من ورائها مرجواً والسبيل فيها واضحاً ، ذلك أن ننظر إلي ما اختلفت فيه العامة من الحروف او الالفاظ أو طريقة الأداء ، فنجملها عماد بحثنا ومحور دوراتنا .
إن أظهر اختلاف في الحروف بين المصريين يتجلى في حرفين اثنين : أولهما الجيم وثانيهما القاف ؛ فعامة أهل الصعيد ، وكثير من مديريتي الشرقية والبحيرة وبعض المديريات الأخرى ينطقون الجيم صريحة من غير تغيير فيها ولا تبديل ، وإلى جانب هذا يتلفظون بالقاف مشابهين الحرف الانجليزي ""g ، ولكن ليس على إطلاقه في النطق ؛ وإنما وجه الشبه من ناحية نطقه في مثل الكلمة الانجليزية "go" أما القاهريون وباقي المديريات فانهم ينطقون الجيم كما ينطق أهل الصعيد القاف ، ويجعلون القاف في جميع أوضاعها همزة . وجلى أن الجيم الصريحة لا إبهام فيها ، ولا تحتاج إلى تحقيق لأنها عربية خالصة ؛ لكن الجيم القاهرية ماشأنها ، أعربية هي أم غير عربية ؟ وإذا كانت عربية فأي القبائل تنطق بها ؟
لا مربة في أن الجيم القاهرية عربية قطعاً ؛ فقد ذكر أحمد بن فارس في كتابه " الصاحبي" ، ان الحرف الذي بين القاف والكاف والجيم لغة سائرة في اليمن ، فيقولون في جمل
" كمل" (1) كما ذكر الاسترابادي في شرحه على شافية ابن الحاجب أنها سائرة في البحرين ؛ ولما كانت الجيم القاهرية متفقة كما نعلم مع القاف الصعيدية في النطق ، وليس لها في الحروف العربية رسم ، كتبها السابقون تارة كافا وتارة جيما ، ومنهم من كتبها قافا ، والعلماء وصفوها بأنها تظهر في التلفظ دون الكتابة ؛ وهذا هو السبب علي ما أعتقد الذي جعل صاحب الأغاني يذكر أبا كلدة اليشكري بالكاف ، ويورده صاحب اللسان في مادة " كلد " ؛ بينما صاحب الشعر والشعراء والطبري بذكرانه باسم أبي جلدة اليشكري بالجيم ؛ وهذا هو السبب أيضا الذي جعل أقرب الموارد يذكر أن السنبوسج ( ٢ ) ورد بالكاف والقاف والجيم ؛ فظاهر بعد الذي قدمنا أن أبا جلدة أصل نطقها بالجيم القاهرية المتفقة مع القاف الصعيدية ؛ وفقدان حرف الهجاء الذي يصوره هو الذي جعل اللسان والأغاني يكتبانه كافا ، وهو أقرب الحروف تعبيراً عنه ، وجعل الشعر والشعراء والطبري بكتبانه جيما لمعرفتهما أن أهل اليمن يقلبون الجيم كما يفعل القاهرة الآن . وظاهر أيضا أن السنبوسج أصل نطقها بالجيم القاهرية أو القاف الصعيدية المتحدثين في التلفظ كما قدمنا ، فكتبها بعضهم كافا لقربه في التعبير ، وكتبها بعضهم جيما لمعرفته بلهجة أهل اليمن ، " وكتبها بعضهم قافا لمعرفته بلهجة كثير من القبائل العربية التي تقلب القاف كما يفعل عامة أهل الصعيد . ولا أدري كيف لم يتنبه إلي هذا كثير من باحثينا خصوصا اللغويين منهم ، وكيف غفلوا عن تحقيق هذه الأوضاع ؛ والآن نتساءل عن القاف الصعيدية : أعربية هي ؟ والجواب على هذا قد سبق ضمنا ، وهي أنها عربية صرفة ، فهي لغة سائرة في العرب ما عدا الحجازيين بوجه عام ، وهي في سكان نجد
الضربين من قبائل تميم وقيس عيلان وأسد بن مدركة أكثر استعمالا ووضوحا . بقيت القاف التي يجعلها القاهريون وبعض المديريات همزة ، وتلك ليست من العربية في شيء ، فجميع الصادر التي بين أيدينا ، بل إن كل الكتب التي بحثت في لهجات القبائل العربية لم تشر إلي هذا ولم تنبه إلي واحدة منها . ولقد بحثت عن ألفاظ كثيرة في المعاجم لعلى أجد كلمة فضلا عن كلمات وردت بالقاف بمعنى ، ثم وردت بالهمزة موضع القاف بنفس ذلك المعنى ، فلم أظفر بما أردت ؛ وإذا فما أصل هذه اللهجة ؟ لنبحث في اللغات التي يمكن أن تكون اتصلت بالشعب الصري قديما ، فإذا وجدنا أن القاف الصريحة ضمن حروفها قطعنا بأن هذه اللغة ليست هي ذات الأثر في اللهجة المصرية ، وإذا فهي ليست من السريانية ولا العبرية ، كما أنها ليست من الفارسية ولا التركية ولا الحبشية ، فجميع هذه اللغات توجد فيها القاف الصريحة ؛ وليس هذا الأثر ناشئا عن اليونانية ولا الرومانية ولا القبطية ، فالأولى لم تتصل بالمصريين إلا في القديم السحيق . والثانية وإن كانت قد اتصلت بعد الأولى بمصر اتصال استعمار قبل الفتح العربي ، تنطق القاف كافا كالانجليزية . أما الثالثة وهي القبطية فلو كانت هي صاحبة الأثر في القاف لكانت تلك اللهجة التي تقلبها همزة عامة في أنحاء القطر المصري بحكم أنها لغة المصريين قبل الفتح العربي ، زد على هذا أن القاف الصريحة موجودة فيها ؛ وغني عن البهان أنها ليست من أثر اللغة المصرية القديمة التي توجد فيها القاف الصريحة أيضا . وفي استطاعتنا بعد هذا الاستقصاء أن نحكم أنها من عمل العامية المتحضرة في مصر ، ترقيقا للفظ ونطرفا به ، وانها لم تحدث إلا من منذ حوالي خمسة قرون على الأكثر . وهناك من العامة من لا ينطقون الجيم خالصة ، بل يجعلونها حرفا بين الجيم والشين والياء ، فيكون مشاربها إلي حد كبير الحرف (1) . وهذا النطق موجود
في اللهجات العربية ، إلا أن المراجع التي بحثها لم تنسبه إلي من يتكلمون به ، بل اكتفت بوصفه دون ذكر مورده . والقاف الصريحة التي ينطق بها نفر قليل من سكان القطر المصري في مديريتي بني سويف والفيوم وبعض البلاد الآخرى إن هي إلا لهجة قريش من العرب خاصة . هذا من حيث الفروق بين المصريين في الحروف وصلتها بالعرب وفي مقال آخر إن شاء الله سيكون بحثنا في الفروق بين لهجات العرب في الألفاظ وطريقة الأداء وصلة ذلك المصريين ، ثم نتبعه بنظرة في التاريخ حتى تعرف من سكن مصر من القبائل ، ليتسني لنا الحكم على مقدار الصلة ومدى الارتباط ، ولتعرف القبائل التي سكنت مصر ، أتقاير ما سنستخلصه أم تكون معنا في تأييد رأينا . على ان الوراثة اللغوية هي اقوى برهان واثبت حجة على وجود الصلة ، من السياقات التاريخية التي لا يؤيدها مظهر قوي من مظاهر الوراثة التقليدية أو اللغوية .
