الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 213الرجوع إلى "الثقافة"

المعرفة والنقد :، نظرية عبد القاهر الجرجانى

Share

1

يخيل إلي أنه لا سبيل إلي الوقوف عند الكليات في مناقشة منهج الدراسة في الأدب ، فها هو صديقنا الأستاذ خلف الله يري أن ما ادعو إليه جاهدا لا يختلف إلا قليلا عما يقول ، وانا لا ريب يسرني أن أكون علي وفاق تام مع الصديق ، بل ومع كافة البشر ، ولكني أخشى ان يكون الخلاف أعمق  مما يظن ، وإن كان ثمة ما يخفف عن نفسي فهو أننا نقتتل لغاية شريفة .

والذي ادعو إليه هو استقلال الأدب عن غيره من مظاهر نشاطنا الروحي : استقلاله بموضوعه  وبمناهجه ولي في استقلال الفلسفة التي كانت تشمل قديما كل أنواع المعرفة أسوة حسنة وأما ما يدعو إليه الصديق فذلك ما لا علم لي به لأنه هو نفسه لم يستقر بعد على تحديده . وكم اود لو واجهنا الصديق برأي متميز يناهض به رأيي . إذن لاهتزت جوانحي فرحا ، ولقلت ها نحن قد نضجت ملكاتنا فأصبحت  لنا اتجاهات نؤيدها ويؤيدها معنا من يري الأشياء كما نراها ، وبهذا تكون لنا مدارس ادبية كما كانت لغيرنا من الشعوب .

يريد الأستاذ خلف الله أن يأخذ الأديب من كل شيء بطرف : علم نفس وجمال واجتماع ؛ وانا اعوذ بالله ان اكون عدوا للمعرفة ، ولو ان اديبا أخبرني انه يدرس الفلك لشجعته على المضي في دراسته لأن المعرفة - أي معرفة - إن لم تنفع كما يقولون ، فلن تضر ما حجرناها عن الأدب . وموضع الخطر هو أن نقحم علي دراستنا معارف أقل ما فيها من إضلال هو صرفنا عن أن نركز

نظرنا في الأدب كفن لغوي ، واهمين أننا نجدده إذ نتناوله بمباديء علوم اخري . وأما النظريات اللغوية ، وأما علوم اللغة ومناهج اللغة ، فذلك موضع دراستنا الذي نعتز به ونري فيمن يستطيعه على نحو ما استطاعه عبد القاهر كنزا ثمينا . المنهج الذي ادعو إليه هو المنهج الفقهي - منهج فقه اللغة - وسوف نري ذلك المنهج يبتديء بالنظر اللغوي لينتهي إلي الذوق الأدبى الذي لا شك متحكم في كل ما يمت إلي الأدب بصلة ، وذلك أردنا أو لم نرد .

ولنتخذ في إيضاح ما نريد سبل البواقي ، فندل بضرب المثل على ما ليس من منهجنا ، ولتكن امثلتنا من بين المسائل النفسية التي عالجها صديقنا وغيره من النقاد المصريين ، ولنكتف بمثلين : دراسة شخصية الحجاج التي نشرها الأستاذ خلف الله بالثقافة ، و مسألة التصغير عند المتنبي كما نشرها الأستاذ العقاد في " المطالعات " .

درس الأستاذ خلف الله خطب الحجاج فوجده رجلا ورعا قوي الإيمان من جهة ، قاسيا صلبا من الجهة الأخرى ، وذكر أن في علم الأمراض النفسية شيئا اسمه " ازدواج الشخصية " بل وفطن إلي أن هذه الحقيقة العلمية قد استخدمت في الأدب نفسه ، فكتب أحد الروائيين الإنجليز قصة بعنوان " دكتور جيكل آند مستر هيد ) ١ ( وفيها يصور المؤلف رجلا يعمل بالنهار كطبيب شريف رفيق ، وفي الليل ينقلب شريرا مجرما . وما دام الحجاج قد جمع إلي التقوي الصرامة فهو إذن مزدوج الشخصية ، وهو - في رأي الأستاذ - مثل قديم " لدكتور جيكل آند مستر هيد ، وهذا مثل لتطبيق مبادئ علم النفس علي الأدب ،

مثل دال نري فيه إغراء الذهب وإفساد الفكرة لحقائق النفوس ، وهو بعد لا يقل إسرافا وخطرا وخطأ عن محاولة بروتبير تطبيق مبدأ التطور علي الأدب كما رأينا في المقال السابق . الحجاج أقوي شخصية من الأزدواج ؛ الحجاج نفس مؤمنة تتعصب لما تؤمن به والتعصب قسوة ؛ نفس قوية بوحدتها

فنظر الاستاذ فوجد الحجاج يقول : " إني لأري رؤوسا قد اينعت وحان قطافها وإنى لصاحبها وانى  وإني . وذكر أن في علم نفس الأطفال مرحلة تسمي " التركيز الإني " ) ego eentrismeوهي تلك التي يرد فيها الأطفال كل شئ إلي انفسهم ، كأن العالم الخارجي امتداد لذواتهم ، وكأنهم جزء لا ينفصل عن ذلك العالم حتي يتم لهم إدراك انفصال اجسامهم عن غيرها وتميزها عما  سواها . وها هو الحجاج يكثر من استعمال ضمير المتكلم ، وإذن فلا بد انه ولوع بذاته مركز للعالم في إنيته ؛ وهذا مثل ثان لطغيان علم النفس علي الأدب . وانا بعد لا أري في هذا إنية ما ، وإنما هي حماسة قلب تلتمس من طرق الأداء ما يشفيها ؛ ذلك ما يحدثني به المنهج الفقهي - المنهج الطبيعي المستقيم .

وكذلك يفعل الأستاذ العقاد ، فهو بلا ريب يعلم ونعلم معه ان المتنبي كان رجلا معتزا بنفسه ، وهو قد لاحظ أن المتنبي يكثر من استعمال التصغير ، فما عليه إلا ان يقيم علاقة نفسية بين الظاهرتين فيعلل تصغير المتنبي بتكبره . وهذا ايضا من طغيان النفسيات على الادب ، والنفسيات في ذاتها ليست شرا ، وإنما الشر ياتي من طريقة استخدامها وبخاصة في عصرنا الحالي ، حيث يريد أصحابها ان يعطوها صفة العلم بما يستتبع ذلك من تعميم قوانين لا يمكن ان تنطبق على الأدب ، الذي هو كما قلت وسأقول دائما مفارقات دقيقة تحتاج في إدرا كها إلي ما يسميه بسكال pascalلطافة الحس esprit de

finesse  أكثر من احتياجها إلي التفكير الهندسي esprit de geometrie

ولننظر عن قرب في رأي الأستاذ العقاد ، وذلك لأنه يبدو لأول وهلة ظاهر الوجاهة ، والمتنبى لا نزاع في انه متكبر ، كما لا نزاع في أنه قد هجا " الشويعر و " كويفير  "و الخويدم و الأحيمق بل و " اهيل عصره " . والتصغير في رأي النحاة كثيرا ما يكون للتحقير ، وإذن فالمتنبي يريد بالتصغير ان يحقر خصومه ، وهو يحقرهم لانه متكبر ؛ وهنا يتسلل الخطأ إلي التفكير النفساني ، وذلك لأني لا أظن أن التصغير في شعر المتنبي كان لتكبره ، وإنما هو أداة من ادوات الهجاء يعرفها كافة شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب اداة لصيقة بفن أدبى بذاته لا وليدة لطبيعة نفسية عند من يستخدمها ، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير ، حتى ولا في شعر المتنبي نفسه ، وهو قد استخدمه للتعظيم ، قال : أحاد أم سداس في أحاد         لييلتنا المنوطة بالتنادي

ومعنى الشطر الأول أن الليلة كانت طويلة حتي خيل للشاعر انها لم تكن ليلة واحدة بل سبعا ، وإذا كان هذا طولها فكيف بصغرها فيقول : " لييلتنا " ولقد سئل المتنبي نفسه في ذلك فقال ) الوساطة طبعة صبيح ص ٣٤٩ ( : هذا تصغير التعظيم ، والعرب تفعله كثيرا ، قال لبيد :

وكل أناس  سوف تدخل بينهم      دويهية تصفر منها الأنامل

أراد لطف مدخلها فصغرها . وقال الأنصاري : أنا عذيقها المرجب وجذيلها المحكك فصغر وهو يريد التعظيم . وقال آخر :

ياسلم أسقاك البريق الوامض     والديم الغادية الفضافض

إذن فالمتنبي قد استخدم التصغير في غير التحقير ، بل

استخدمه في ضده ومن هذا تري أن العلاقة بين التكبر والتصغير غير مطردة حتى يستقيم التفسير بفرض امكان ذلك وفي الحق أن التصغير لا يفيد التحقير والتعظيم والتمليح وما إليها فحسب بل يفيد ألوانا لا حصر لها من العواطف وإنه لمن الخطأ ان نأتي بتفكيرنا الهندسي فنعمم  على غير احتياط ، ونحن لسوء الحظ لم نعد نحس اللغة العربية الفصحى ، وهذا يقودنا إلي أخطاء كثيرة لا يمكن أن يعصمنا منها أي نحو أو بلاغة . ولنفكر جميعا في الإحساسات المختلفة التي يثيرها في أنفسنا تصغيرنا العامي في قولنا مثلا حتة ولد " و حتة لشلة ولد  ولنتصور الملابسات العديدة التي يقول فيها شعبنا أمثال تلك الجمل . لندرك المفارقات الدقيقة التي اشرت إليها . هناك وسائل

كثيرة تحتال بها اللغات علي تلوين أفكارنا ذلك التلوين الذي لا نحمله ولا يمكن أن نحمله مفردات اللغة ، وإنما نلحقه بها بفضل التنغيم في الكلام ، وبحيل بلاغية في الكتابة ، والتصغير إحدي تلك الحيل . ذلك ما يحدثني به المنهج الفقهي وأما منهج العلم النفسي فيري ان تصغير المتنبي كان لتكبره .

هذه الأمثلة أسوقها للتدليل علي النتائج البعيدة التي تترتب على استخدام مناهج العلوم الاخرى او مبادئها في دراسة الأدب . الأدب فن لغوي كما قلت ، فمنهجه هو المنهج الفقهي الفني كما فهمه عبد القاهر الجرجاني وطبقه في " دلائل الإعجاز " . والآن ما هو ذلك المنهج ؟ .

للبحث بقية ؛

اشترك في نشرتنا البريدية