تتمة ما نشر في العدد الماضي
لم تكلمني حتى وصلنا إلى (شركه جي) حيث موقف الترام هناك فقالت:
- هنا كنت أنتظر يا سيدي، وفي كل يوم كنت أركب الترام هنا، ولا ادري كيف أخطأت في هذه الليلة وركبت الترام الذاهب عن (الجسر) لا اليه؟ ولا أادري كيف لم انتبه لذلك؟ كان السبب كما قلت يا سيدي الظلام الحالك والمطر الكثير الذي ادهشني، لو تدري يا سيدي كم انتظرت هنا تحت سيول الأمطار معرضة للهواء الذي يعصف بشدة، وكم لقيت من الانتظار، لقد ظننت أن غشاء اسود قد ستر عيني، لا أقدر أن أصف لك اضطرابي حينما علمت منك أنها آخر عربة تسير في الليل، آه لقد تأخرت كثيرا..
- لقد كانت كأنها في حمية عن الكلام ثم تركتها فذهبت فيه مذهبا بعيدا وقالت:
- غريب جدا أن المصادفات في بعض الأحيان تظهر للمرء عجائبها وغرائبها كأنها تسخر منه، لقد فاتني القطار أيضا في (مقرى كوى) لذلك تأخرت حتى ذلك الوقت لأني انتظرت هناك طويلا، ولم يكن يخطر لي على بال أنى هنا سأركب في آخر عربة تسير في الليل وفي غير الجهة التي اقصدها.
فسألتها: - إذن أنت آتية من مقرى كوي؟
أخذت الكلفة ترتفع بيننا شيئا فشيئا لان وجودى بجانبها طول المسافة التى قطعناها أظهرها على حسن نيتى وجعل لى في
قلب هذه الفتاة الشابة موقعا حسنا فأجابتنى على سؤالى جواباً طويلا مفصلا، قالت:
أجل يا سيدي إني اذهب مرتين في الأسبوع إلى (مقرى كوى) لإعطاء درس خصوصي هناك لإحدى السيدات، آه يا سيدي! إن حياتي شقية جدا، محتم علي أن أشتغل من الصباح حتى المساء في جميع أنحاء هذا البلد الكبير، تصور المسافات التى اقطعها كل يوم: ذهبت اليوم صباحا إلى (طرابية) وعدت منها إلى (مقرى كوى) وأنت تعلم تباعد هذه المسافات وتنائي بعضها عن بعض. على هذه الصورة يجب أن اشتغل في أربعة أطراف البلد؛ فإذا كان الصيف احتملت كل ذلك، لان النهار طويل أتمكن فيه من تأدية دروسي من غير كبير مشقة ولا عناء، أما في الشتاء فالمشقة فوق الطاقة وخاصة في مثل هذه الأيام عند شدة النوء وكلب الشتاء، لقد غلبني اليوم البكاء اكثر من مرة، ولا أتذكر أني تأخرت مثل هذه الليلة، وما الذى أقوله الآن في البيت لوالدى؟
وهنا انقطعت عن الكلام ولم تجسر على إتمام جملتها، لأنها فجأة شعرت بخجل من سردها تاريخ حياتها، ولما لم تجد في نفسها القوة على إتمام كلامها غيرت مجرى الكلام وقالت وهى تنفض ذراعها المبتلة من المطر.
- لقد ابتلت ثيابي. فقلت لها: - إن مظلتك صغيرة فاطويها وخذى مظلتى فهى تحفظك من المطر.
ولكنها لم تقبل وقالت: - أشكرك يا سيدي! لا أود أن تبتل ثيابك اكثر مما ابتلت، ألا يكفي ما تحملت حتى الآن من اجلي؟
أردت أن أعود بها إلى الحديث عن حياتها فقلت لها. - إذن لك والد فقط يا آنسة؟ - نعم يا سيدي. ثم قالت: - أظننا قد بلغنا الجسر؟
وسكتت كأنها لا تريد أن تبحث عن شيء أبدا، ولكنها لم تتمكن من ذلك لأنها كانت في حاجة إلى أن تتكلم عن نفسها وأن تحدثني عن حياتها، اجل! بحاجة شديدة إلى ذلك، فقالت:
- فقدت والدتي منذ سنتين، ومنذ ذلك الوقت اضطررت إلى العمل الكثير. كانت والدتي في حياتها هي التي تشتغل لنا، فلما ماتت ورثت تلك الوظيفة عنها وانتقلت إلى بمرارتها والمها.... هل لك والدة يا سيدي؟
فأشرت لها برأسي أن نعم، على أنها ما كانت تنتظر مني جواباً، لأن سؤالها هذا كان مقدمة لما تريد أن تحدثني به فقالت :
- إن اكبر تغيير يطرأ على حياة المرء يبتدي من تاريخ وفاة أمه، لقد كنت حتى وفاتها اجهل الحياة وما فيها، كنت في مدرسة داخلية لا اعرف من الحياة إلا قدر ما يقع عليه نظري بين جدرانها السامقة، لا اعرف شيئا ولا اعرف أحدا أبدا، فلما توفيت والدتي واضطررت إلى ترك المدرسة والبقاء في البيت علمت أنني اجهل كل شي حتى أبى، أما الآن فقد عرفت الحياة جيدا، واختبرت أبناء آدم ظواهرهم وبواطنهم. لقد علمت كل ذلك، ولم يكد يمضي على دخولي في معترك الحياة اكثر من شهر. ولكن من المؤلم جدا أن يقف المرء على تلك الحقائق دفعة واحدة لأن أعصابه تتزلزل بتلك الصدمة. لقد وصلنا إلى (الجسر) يا سيدي. أشكرك شكرا جزيلا، وهذه عربة هنا تقلني إلى البيت.
وهنا تهيأت لوداعي، ولكني رأيت أن المصادفات قد وقفتنى على قصة حياة مؤلمة، فكنت أفكر في وسيلة أمد بها مرافقة تلك الفتاة حتى البيت، فقلت لها.
كلا أيتها الآنسة، إني سأرافقك حتى الجانب الآخر من (الجسر) لأني عدلت عن الرجوع إلى بيتي في مثل هذه الساعة وسأبيت بفندق هناك، فلم تعارضني بل اكتفت بتلك الإيضاحات وسرنا نقطع (الجسر) ونحن ساكتان.
كنا نمشي معا على أحد جانبي الطريق، وكنا نلاقي مشقة شديدة في إمساك مظلتينا بسبب ذلك الهواء الشديد البليل الذى كان يعصف من أحد جانبينا فيبلل ذلك الجانب. وفي تلك الأثناء أدارت نظرها فيما حولها وقالت:
- نعم إن بقاء الفتاة الشابة كل حياتها محرومة من عطف
الوالدة وحنانها مصيبة ليست تضارعها مصيبة.
ثم استأنفت كلامها فقالت: هل تدرى يا سيدى ما الذي يقلق فكرى أكثر من كل شىء بعد هذا التأخر؟
كانت مضطربة تماما واضطرابها يزداد شيئا فشيئا، كانت تشعر أنها فى حاجة إلى أن تقص على الرجل الذي لا تعرفه ولا يعرفها الناحية التي خفيت من نواحى حياتها.
فسألتها بسكون قائلا: - ما هو أيتها الآنسة ذلك الذى يقلقك؟
قالت: والدى !. ثم سكتت قليلا وقالت:
- أرانى لا اقدر أن أصف لك والدى وصفا دقيقا، لا أدرى كيف تنظر إلى فتاة تشكو إليك من والدها لأول مرة رأيتها فيها، ولكنك بمرافقتك لي حتى هذا المكان اثبت لي طيبة قلبك وصفاء نيتك، وانك بحسن تلك النية وبصفاء ذلك القلب ستدرك سلامة الأسباب التى ساقتنى إلى تلك الشكاية، أليس كذلك يا سيدى؟.
كان الهواء يعصف بشدة، فلم نقدر أن نضبط مظلتينا ونقاوم الهواء الشديد فأغلقناهما وأخذنا نمشي غير مبالين بالمطر
القليل الذى ينزل، بل خففنا السير لندرك وقتا كافيا للتكلم معا، وقد اقترب كلانا من الآخر، وكنا نسير متلاصقين بقلبينا وجسمينا كأننا قد تعارفنا منذ سنين لا منذ دقائق.
كانت هى في حاجة إلى أن تشكو إلى همومها، أجل! كانت في حاجة شديدة جدا إلى أن تنشر كل ما خفي من نواحى حياتها، وتبسطه أمام ذلك الرجل الذي ربما كان اجتماعها به مصادفة واتفاقا أول اجتماع وآخره، فقالت.
- اعلم يا سيدي أنى الليلة ككل ليلة ساجد والدى سكران طافحا، وحينما يرانى يستقبلنى بكلمات الشتم والتحقير، وفي بعض الأحيان ... ولم تتم جملتها كأنها رأت أنها قد اعترفت لى بأكثر مما يجب، لذلك قطعت كلامها بسرعة وأتمت جملتها التى شرعت فيها بصورة أخرى، فقالت:
- لا أذكر أن والدي عمل يوما ما عملا مثمرا يعود عليه وعلينا بربح؛ كان في شبابه صاحب مقهى صغير في (بك أوغلى) ، وكان يأتي بمغنيات في الشتاء إلى قهوته، وكانت والدتي إحدى أولئك المغنيات، اشتغلت عنده ثم تزوجها، وقد علمت هذه التفصيلات واحدة بعد أخرى مصادفة واتفاقا، ولا ادري كيف تم الاتفاق بين أبى وأمي على الزواج الذى كنت ثمرته، ولكن ظهورى في الحياة كان سببا لأمراض كثيرة أصابت والدتي ومصائب أخرى اضطرتها إلى ترك العمل وأرغمت والدي على ترك المقهى. كانت والدتي موسيقية بارعة، فبعد أن تركت المسرح صارت معلمة تعطي النساء دروسا في الموسيقى؛ وأنا أعرف والدتي وهي معلمة فقط، لم تكن تملك دقيقة من دقائق حياتها، بل كلها كانت رهن التعب والشقاء والتعليم والكدح في سبيل القوت، حتى اضطرت إلى وضعي في مدرسة داخلية، اخرج منها في الأسبوع مرة إلى البيت، أقول (البيت) وأنت تدرك بثاقب فكرك ما هو هذا البيت. كنا نسكن في غرفتين في الطابق الرابع من بناء كبير عال. كنت إذا جئتهما في يوم عطلة أو في يوم جمعة وجدتهما بعيدين عن الحياة العائلية كل البعد، فأهرب منهما إلى المدرسة. وكيف يكون البيت إذا كان لا يطبخ فيه الطعام، ولا تغسل فيه ثياب، ولا يعمل فيه شي مما يعمل في البيوت؟ كانت والدتي تشتغل بلا انقطاع لتحصيل القوت، وكان والدي بلا انقطاع يشرب الخمر، فهذان المخلوقان وان كانا متقاربين جسما يعيشان تحت سقف واحد، فقد كانا متباعدين كل البعد معني، وكنت أنا في سرور لأنني بعيدة عنهما، حتى أنى لم اكن أجد لهما في
قلبي مكانا. استدعتني يوما مديرة المدرسة إليها وأخبرتني بوفاة والدتي ثم قالت: (ان المرء تصيبه في حياته مصائب جمة، فيجب أن يتلقاها بكل ثبات وصبر) ، لم أجد في ذلك الوقت وفاة والدتي مصيبة كبيرة كما قالت المديرة، ولكني أصبحت أحب والدتي بعد وفاتها، آه لو تعلم كم أحبها الآن ... كم أحبها!
سكتت هنا قليلا، وقد شعرت أن صدرها يعلو وينخفض من حسرة كامنة في أعماق قلبها، ثم قالت:
- منذ ذاك الوقت أصبحت الحياة على أضيق من سم الخياط. أخرجني والدي من المدرسة، واخذ يسوقني من مكان إلى مكان. أجل! اخذ يسوق فتاة في السادسة عشر من عمرها، لا تعرف من الحياة إلا ما رأته من نافذة المدرسة، إلى الأماكن التي كانت والدتها تعطي دروسا فيها لتقوم مقام أمها في تحصيل اللقمة! منذ ذاك الحين انتقلت إلى وظيفة السعي وراء كسب القوت. وأنا الآن أسعى بكل قواي وأعطي دروسا، وكل يوم أقطع مسافات شاسعة متعبة، فمن (طرابية) إلى (مغري كوي) ، ومن (اسكدار) إلى (بك أوغلي) ، ولكني لا أدري لماذا أشتغل هذا الشغل؟ ولماذا أسعي كل هذا السعي؟. . انهم يقولون لي (اشتغلي) وأنا أصدع بالأمر!. .
كنا على وشك الوصول إلى آخر (الجسر) فتراءت لنا أضواء (غلطة) ، فرأيت من الواجب أن أقول لتلك الفتاة المسكينة كلمتين أسليها بهما، فقلت لها:
- لا تجزعى يا أنسة، اصبرى وتجلدى، فالصبر أقوى ما يعتمد عليه المرء في طريق الحياة. فهزت رأسها الصغير وقالت:
- الصبر يا سيدى؟ إن الإنسان أوجد لنفسه كلمات خداعة يخدع نفسه بها ليتحمل مصائب الحياة. وازداد اضطرابها فقالت:
هل تعلم يا سيدى ماذا ينتظرنى في البيت بعد كل هذه الأتعاب وهذه المشقات من الصباح حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟ إن والدى في مثل هذه الساعة يعود من الحانة يرسم في مشيته لام الف، فإذا دخل المنزل جلس في غرفته يتم ما فاته في الحانة انتظارا لى، وهو قد جعل لنفسه في البيت حانة صغيرة، فغرفته مملوءة بالزجاجات الفارغة والأقداح المكسورة والصحون القذرة، لو رأيت كل ذلك لدهشت، كثيرا ما سعيت لتكون غرفته نظيفة ولكنى لم افلح، فعدلت عن ذلك الآن وصرفت همتى إلى ترتيب غرفتى الخاصة وتنظيفها، لله تلك الغرفة الصغيرة! انها صغيرة إلا أننى أجد فيها راحة كبيرة، انزوى فيها بعد
عودتي من العمل ليلا وبعد أن اخذ قسطى من كلمات التحقير والشتم التى يستقبلنى بها أبى إرضاء لنفسه وكسرا لحدته، هناك في غرفتى فقط افهم معنى الراحة وأفسح المجال لدموع عينى أن تسيل فأجد السعادة في ذلك البكاء، اغسل به قسما مما تراكم على قلبى من الهم والبؤس.
تقول المسكينة (فأجد السعادة) ،حتى هذه الفتاة البائسة ترى أن في البكاء سعادة، وفي هذه اللحظة لو لم اخش أن ترتاب بى لأمسكت يدها وشددت عليها بكل قوتى مظهرا ما في قلبى من الرحمة لها والإشفاق عليها.
فقالت بعد صمت قصير: - أنا على يقين أننى هذه الليلة لن أقدر على تهدئته، آه ليت شعرى ما الذى سيكون لى منه؟
فقلت لها: - ولكنك أيتها الآنسة تشتغلين لأجل والدك، أفلا يدرك تلك الحقيقة فيشكرك عليها؟
وقفت عن السير في الحال ورفعت وجهها إلى ونظرت في وجهى ولم تقل شيئا، إلا أنني أدركت في الحال مغزى نظرتها هذه وما تقصده منها، كانت تريد أن تقول بها لمخاطبها الذى يدعى انه خبير بالحياة (أنت غر قليل التجربة) ثم خطر ببالى خاطر فجائى فقلت لها:
- أيتها الآنسة: إذا كانت مرافقتى لك حتى البيت وإعطائى الإيضاحات اللازمة لوالدك يفيدانك شيئا فاسمحى لى أن أرافقك حتى منزلك.
ترددت قليلا ثم فكرت مليا وقالت - وأكثر ظنها أن ذهابى معها سيخلصها من تحقير أبيها ويقلل من حدته:
- نعم يا سيدى أقبل لطفك هذا أيضاً . ثم أضافت إلى جملتها هذه قائلة:
- لقد اثر البرد في جسمك فهل لك في قدح من الشاى أقدمه إليك إذا انتهينا إلى البيت؟
ارتفعت الكلفة بيننا وأصبحنا صديقين.كنا في ذلك الحين نتجه نحو (غلطه قوله سي) فقالت:
أتراني لو لم تكن معى كنت أجسر على المرور وحدى من هذه الاماكن؟ ثم وقفت فجأة أمام دار كبيرة وقالت (هنا)
دخلنا إلى صحن الدار المفروش بأحجار المرمر ثم أخذنا نصعد الدرج الحلزونى، لا أدرى كم صعدنا، ولكنى شعرت بدوار
في رأسى وضعفت رجلاى عن حملى لأننا كلما انتهينا من طابق وقفنا قليلا نستعيد قوانا للصعود إلى الطابق الذي فوقه. وقفت أخيرا وأنا أتتنفس بقوة، فقالت ضاحكة: لم يبق درج نصعده!
فدخلنا في دهليز صغير فيه ضوء ضئيل ووقفنا أمام باب، فنظرت إلى وجهى ولم تجسر أن تطرق الباب فطرقته بظهر يدى فلم يجبنى أحد؛ طرقته مرة ثانية فسمعت صوتا يشبه صوت حيوان وحشى، ثم سمعت وقع أقدام تخطو رويدا رويدا خطوات غير منتظمة، وشعرت باقتراب أنفاسه منا، وأخيراً فتح لنا الباب وعاد من غير أن ينظر إلى ما وراءه وفي قلبه من الغضب والسخط عواطف يخشى بأسها.
دخلنا في ممر ضيق ووقفنا أمام غرفتين متقابلتين إحداهما مفتوحة فدخلناها وعلمنا أن الرجل لم يتبين أننا شخصان إلا بعد دخولنا غرفته، فنظر إلي متحيرا بعينيه المحمرتين من تأثير الكحول فقلت له: إن ابنتك اليوم قد وقعت في خطأ...
كان عند كل كلمة ألقيها عليه في شرح موقف الفتاة وحالها ترتسم على وجهه المغطى بسحابه من البلاهة منشؤها ذلك الإدمان ابتسامة خفيفة وترتخى أعصابه وتنحل
كنت وأنا اسرد له القصة، انظر إلى تلك السحنة البلهاء تارة، والى غرفته أخرى. كان غائر العينين بارز عظام الخدين قد رجل شعره بدهن اللوز ليلمع، وعلى وجهه مسحة شباب ميت قد أقامه ذلك الهرم المتصابي بقوة العلاج الذى كان يستعمله.
وكانت الغرفة قذرة ما تحويه هذه الكلمة من معنى، وكان كل ما فيها عبارة عن كراسى عتيقة مكسرة، ومنضدة صغيرة كمناضد المقاهي عليها مشمع اسود اللون، وزجاجات خمر ونبيذ فارغات، وصحون قذرة، ومصباح قد طار من زجاجة قطعة فجعل مكانها ورقة سيجارة وينشر ضياء ضئيلا كأنه أنين باك موجع، وفيها فراش إن صح أن يسمي مثله فراشا، حولت نظري المتألم عن كل هذه الأشياء وقلت له:
- لقد جئت بالآنسة إلى هنا وهأنذا أسلمها إليك. فلما سمع منى تلك الكلمة ظهر ما لم يكن في الحسبان:
ذلك أن والد تلك الفتاة المسكينة السكير البغيض الذي ابتدأ حياته أجيرا في أماكن الريب في (غلطه) أمضى قسما منهما في مرقص أنشأه بنفسه، تقدم مني مشيرا إلى فتاته الطاهرة التي كانت تنتظر النتيجة، وقد تجلت عليه تماما أمارات البلة وقال:
- لقد ظهرت الحقيقة أيها السيد ...!
ثم اقترب منى وقال وهو ينظر إلى نظرة مرتاب: - يظهر أن الآنسة قد وقعت من نفسك. . .
فأدركت سوء نية ذلك الرجل. كم كانت يدى في تلك الدقيقة تود أن تصفع ذلك السكير! حولت نظرى إلى ابنته فوجدت وجهها قد علاه الاحمرار، لأنها أدركت غاية والدها.
لله أنت أيتها المعلمة الصغيرة! أيتها المخلوقة التي تشتغلين من الصباح حتى المساء لإشباع والدك، هل أنت حقا ابنة ذلك الرجل؟!
حولت وجهها عني فلم أشك أنها في تلك الدقيقة كانت تود لألمها من تلك المهانة التي لحقها في عصمتها وعفتها، والجرح الذى أصابها في كرامتها، أن تهرب من بين يدى وتذهب إلى حيث لا أراها فتبكى . . وتبكى. . .
لم أجبه بشي ما، إن الرجل كان لا يزال ينظر إلى نظرة المرتاب، فأدركت أن من الواجب البعد عن ذلك المكان، وكأنه أدرك ما دار في خلدى، فعرض على مستهزئا كأسا من (الكونياك) فقلت:
- شكرا. ليس لدى من الوقت ما يتسع لذلك.
وسرت نحو الباب، فظهرت من الفتاة حركة تدل على أنها تود أن تخرج معى حتى الباب تودعنى. لكنها لم تجسر على ذلك في بادىء الأمر، ثم أقدمت عليه وسارت ورائى. بقى والدها في غرفته يضحك ضحكا عاليا كأنه يعلن به ما قاله أولا: (يظهر أن الآنسة وقعت من نفسك!!)
تبعتنى الفتاة حتى باب الدار وقلت بصوت وتخنقه العبرات:
- سيدي. . . ثم اضطربت ولم تستطع أن تتم جملتها.
حينذاك أخذت يدها وهى في القفاز بكلتا يدى، وشددت عليها مظهرا ألمى على تلك الزهرة الناضرة التى نبتت في ذلك المكان الملوث، وحكم عليها أن تعيش فيه عيشة حقارة ومهانة وقلت لها:
- أيتها الآنسة: اكرر لك جملتى السابقة وأقول. إن الصبر أقوى ما يعتمد عليه المرء
في طريق الحياة. لا أظن أننا نلتقى مرة أخرى، ولكن كونى على ثقة أننى دائما سأتمنى لك من صميم قلبى السعادة والهناء.
فانحدرت من عينيها دمعتان كبيرتان وسالتا على خديها ثم استقرتا على صدرها، أعلنت بهما شكرها لى.
ففررت من ذلك المحل، وكنت وأنا انزل الدرج أقول في نفسى: (لقد وعدتها أن أتمنى لها دائما السعادة، ولكن أين منها السعادة؟!
لعمري لو رايتها حين يبدي الربيع نواره، وينثر على بسط الزبرجد أزهاره، على عربة من تلك العربات الفخمة، التى يركبها صائدات القلوب وسالبات الجيوب وهي متجهة نحو (شيشلي) حيث تموت الفضيلة، وتحيا الرذيلة، تسلم على أحبابها بابتسامات غريبة وإشارات مريبة، لم اعجب لذلك بعد الذى رأيت من حالها مع أبيها.
ما أتعس تلك الفتاة الصغيرة! إنها بين شقاءين: شقاء الحاضر بأبيها المختبل، وشقاء المستقبل بشرفها المبتذل.
نزيلة بعلبك
