هذه كلمة لا تقصد بها أن نقدم الدكتور أحمد زكي بك إلى القراء ، فقد عرفوه من قبل على صفحات هذه المجلة وغير هذه المجلة ، وعرفوه في كتبه ومؤلفاته عالما وأديبا ، له طريقة ساحرة في عرض العلم في أسلوب أدبى . وله فضل كبير على الأدب العربي ، فقد زاد من ثروة اللغة بما نحت من لفظ وما اشتق من كلمات . كما انه علم الأدب ، أو أدب العلم ، في أسلوب جزل رصين ، أثر الصناعة الفنية فيه واضح ملموس . وكأنه صائغ يصوغ الذهب ، أو جوهري يؤلف بين الجواهر ، في صورة رائعة ومنظر يأخذ بالآلباب .
لا نقصد أن نقدم الدكتور أحمد زكي بك ، فهو عن ذلك في غني ، وإنما نقصد أن ننوه بأحدث ما أخرجت له المطبعة العربية من كتب .
في " ساعات السحر " يقدم لنا الدكتور ثمانيا وعشرين مقالة في موضوعات شتى . وكلها نظرات ثاقبة في الحياة والمجتمع ، جمعها المؤلف في كتاب لم يدر ما يسميه . ثم رأي أن يختار له عنوانا ( ساعات السحر ) يربط أجزاءه بزمانها الذي كتبها فيه لما عز عليه أن يربطها بموضوع .
مقالة الدكتور أحمد زكي بك مقالة من الطراز الأول في الآداب العالمية ، لا تقل قيمة في ميزان النقد عن مقالة بيكن أو منتيني . فالمقالة في معايير الأدب الرفيع يجب أن تصدر عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع ، على شرط أن يجئ السخط في نغمة هادئة خفيفة ، مصطبغا بفكاهة لطيفة . وينبغي لكاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما . ولذا وجب أن يكون المقال على غير نسق من المنطق ، كما وجب أن يكون الأسلوب عذبا سلسا دفاقا . وكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله ، فيأخذها نقطة ابتداء ، ثم يسلم نفسه إلى الآحلام يأخذ بعضها برقاب بعض دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير . ولا يجوز أن تبحث المقالة في
موضوع مجرد يصح أن يكون فصلا في كتاب أو بحثا في علم .
وبهذا المقياس الأدبي الذي نستعيره من رأي الدكتور زكي نجيب محمود تكون مقالات الدكتور أحمد زكي بك أدبأ خالصا . لولا أنه يتأنق أحيانا في أسلوبه إلى حد الصناعة المتكلفة ، فلا يندفع القارئ مع الكاتب منساقا يجرفه تيار الحديث ، كما ينبغي أن يكون أسلوب المقال . حتى إن الكاتب ليستهويه السجع أحيانا فيستخدمه في غير موضعه .
ومن أجل هذا التانق والتكلف في الأسلوب جاءت بمعض المقالات قصيرة ينقصها التدفق والإفاضة كمقال ( حب الأوطان ). ومن أجل هذا كذلك كثرت العبارات التي يتركز فيها المعنى ، وهي ميزة كبرى في الأسلوب بمعيار النقد في الآداب العربية ونقيصة واضحة بمعيار النقد في ادب الغرب . وذلك كقول الكاتب : " لك من دفء المخ ما أغنى عن دفء العضل " .
ولعل من خير الأمثلة للمقالة الأدبية التي تبلغ أقصي حدود الإجادة بمعيار النقد الحديث المقالة التي عنوانها : (خواطر عند الحلاق ) . فقد أثار دكان الحلاق عند أدبينا خواطر سامية ، تضرب في صميم الحياة وطبائع الناس ، والأديب الحق هو الذي يستمد من أتفه الحوادث أعظم العبر : " ونظرت إلى يساري فوجدت رجلا أصلع ، له لحية حجبت وجهه . خطأ بسيط في التوزيع أنتج وجها كرأس ورأسا كوجه . وأخذت أحاضر نفسي في سوء
التوزيع وعلله ، وما جره على الناس من بلايا . وذهب في الفكر في هذه الناحية بعيدا ، ذهب بي إلى سوء توزيع المؤن في حرب ، وذهب بي إلى سوء توزيع الثروة في سلم وحرب ، وذهب بي إلى تلك المبادئ الجديدة التي تريد أن تهدم ما نحن فيه ، فذكرت بها الروس . ومن الروس عدت من جديد إلى ذكر اللحى فعلمت أن الفكر ، كالأرض ، دوار " .
وفي مقالات الدكتور زكي فلسفة عملية يصح أن يتخذها شباب اليوم دستورا لهم في الحياة . ففي أولى مقالات
الكتاب ( يعجبني الشباب إذا . . ) يقول : " فإن كان العمل فحما وزيتا انغمس في الفحم والزيت ، وإن كان انبطاحا على الأرض تمرغ في تراب الأرض ، وإن كان بخارا وعفارا ، نشق الأبخرة ، ولم يشح بوجهه عن الاعفرة " ثم يقول : " ويعجبني الشاب أن يكون مجددا ومتجددا " . غير أن الدكتور لا يرى أن يندفع المرء في سبيل التجديد إلى حد إنكار الماضي والقديم ، فيفرد في كتابه مقالا للدفاع عن القديم ، ولم يخشى أن يقال عنه رجعي ذو رأي عتيق . بل " إن الشئ القديم قد يحسن ، ولا يستطيع فوات الزمن أن يغير من حسنه ، والشئ الحديث قد يسوء ، ولا تستطيع حداثته أن تقلل من سوئه . وأكثر أصول الحياة ثابت ، لا يتغير مع الزمان " .
والكاتب طموح لا ترضيه القناعة ، ينصح للقاريء أن يطلب الكثير الخطير " وأنا أعيذك أن تسرق لأنك في حاجة إلى ما تسرق ، فهذه سرقة تأتيها العامة ، وأنا لا أريدك أن تكون عاميا في سبيلك إلى العلا ! " . ولا يعجبه الرجل يخشى دنياه ، فلولا أقوام آثروا التعب على الراحة ، وقلق الحياة على استقرارها ، ما كان في الدنيا تجديد ، ولا كان لبني الناس تقدم . وهو يرى أن الحياة عمل يحدوه أمل ، ولا ينبغي أن نستشعر الخيبة عندما تصادفنا العقبات في الحياة أو أن نلوم الناس على ما يصيبنا من عثار ، أو أن نبحث عن فلسفة نتواري فيها ونرقد تحت ظلالها الوريفة الباردة ، أو أن نتخفي في شعر أو أدب ، وإنما الدنيا لا تؤخذ إلا غلابا واغتصابا
ويدرك الكاتب ما ركب في خلق الله من ضعف في النفوس ، حتى كبارهم وزعمائهم ، فلكل منهم عيبه ونقيصته " ولقد أعرف كبيرا أو زعيما ، وأسمع منه ، وأقرا عنه ، فأري في ثنايا كل هذا عثار الرجل الذي خلق من طين ، وحمأ مسنون "
ويتعلم من الحمار الحكمة . فكلنا كذلك الحمار الذي علقت بعنقه جزرة ورآها تتأرجح أمام عينية فأسرع في الخطا لينالها ، ولكنها لا تقترب : " إنه كلما أسرع أسرعت وكلما أبطأ أبطأت ، والمسافة بين فمه وبينها دائما واحدة ، ولكنه ظل يدأب " .
وهو يتعطش إلى الحقيقة ، غير أنه لا يري إليها سبيلا . وفي بحثه عن الحقيقة يدرك بعين الأديب النافذة ما لا تدركه عامة الناس . يدرك أن الاستقامة اعوجاج وشذوذ ، وان القناعة في الزحام تزحم صاحبها إلى الموقف الأخير ، والأمانة ميراثها الفقر ، والصدق جزاؤه التأفف والكراهة : " وانت إذا أردت ان تربح طلبت من الشر جليله ، وعفت حقيره . فالشر الضخم مهيب ، والشر الضئيل الحقير صاحبه مكشوف مغلوب . إن السرقة مفضوحة معيبة ، إن اتصلت برغيف ، ولكنها غير ذلك إذا هي اتصلت ، أسهما ، في سوق الغلال بألف ألف رغيف " .
ومن أروع ما في الكتاب مقال ( الكرة التي تحمل فوق عنقك ) ؛ ففيها يرى الكاتب أن كلا منا برأسه ثقل ، بل اثقال تميل به : " والثقل قد يكون في الرأس عن يمين فيميل بالفكر إلى يمين . والثقل قد يكون في الرأس إلى شمال ، فيميل بالفكر إلي شمال . وهو لا يكاد يجري في أحد على استقامة أبدا " .
وما أكثر ما ضمن الكاتب من حكم في مقاله ( علمتني الحياة ) . فقد علمته الحياة أن الحياء المحض غير نافع إذا لم تدعمه من ورائه سفاقة تظل دائما على استعداد أن تبرز وتظهر ، وعلمته " أن هؤلاء الذين ترى من صغار ومن كبار ، ومن صاحب كوخ وصاحب قصر " وصاحب غنى وصاحب فقر ، ومن ذي رتب وسلطان ، وغير ذي رتب وسلطان كل هؤلاء إذا أردت أن تسود فيهم ،
فانظر إذا إليهم شزرا ، وتربص بهم الفرص لتوسعهم سبا وركلا . وقد يكرهونك ، ولكنهم يخافونك ، وفي الخوف الإكبار ، ومن خاف فأكبر ، فعل فيه مركب النقص فتراجع لك وتقهقر " . وقد خالط الناس صنوفا وألوانا فلم يجد أحدا يمتاز في الحكمة على أحد بالقدر الذي يوحى به الظاهر ، ووجد أن أفرغ الأشياء الطبول . والدنيا عنده حظوظ . بل لقد يؤمن أن الغباء على الجد أنجح للمرء ، من ذكاء يصحبه تكاسل وتخاذل وارتخاء .
ويحاول الدكتور أن يربي في قارئه الذوق السليم ، فالاكل عنده فن وفلسفة ، ومن حسن الذوق التناسب
في الثياب وفي الصحاب . وفي اختيار الزوج ، والتوسط في الإنفاق ، فلا بذخ ولا إمساك .
ولا يعجبني منه رأيه في الجمال . فهو عنده يسكن إلى الضعف أكثر من سكنه إلى القوة ، وهو في مظاهر المرض أفعل منه في مظاهر الصحة . وعندي أن الجمال صنو القوة ورفيق الصحة .
والأدباء فريقان ، فريق متشائم ، لا يري إلى الإصلاح من سبيل ، وآخر متفائل ، يبتسم للحياة ، ويتوقع لها أن تسير إلى الأحسن وإلى الأرقي دائما . ومن هذا الفريق الثاني الدكتور زكي . ففي مقاله ( قلوب كبيرة ) يقول : " وسألت من بعد هؤلاء أصحابا وصواحب ، عن القلوب الكبيرة ، ما هي ؟ ومن هي ؟ وخرجت من السؤال والجواب مقتنعا بأن الدنيا لا تزال بخير ، وانه لا يزال في الخلق لبعض النفوس عظمها وضخامتها . . ورجعت عن
نفسي وعن الحياة راضيا . وزاد في رضاي أن حكيم الإغريق ، طلب الرجل قديما ، ومصباحه في يده ، فلم يجده ، وطلبته أنا ، حديثا ، وبغير مصباح ، فوجدته . ووجدت مع الرجال نساء وعلمته الحياة ألا يأس مع الحياة ، وأن الليل دائما يعقبه نهار " وما وقعت في ضيق إلا انتظرت فرجا ، ولا حل بي مرض إلا صبرت أنتظر الشفاء " .
هذه أمثلة يسيرة لما في الكتاب من حكمة وفلسفة ، ولا يغني القليل عن الكثير . وتكاد كل عبارة أن تكون موضع جمال في الفكر والصياغة . وليس ( ساعات السحر ) بالكتاب الذي يقرأ ثم يلقي . إنما هو من روائع الأدب وكنوزه التي ينبغي لكل صاحب مكتبة أن يقتنيها ليعود إلى قراءتها ، يلتمس عندها عزاء وسلوى ، كلما أصابه هم أو اعتراه قلق .
