الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 594الرجوع إلى "الثقافة"

المقالة فى يد الدكتور احمد زكى بك

Share

هذه كلمة لا تقصد بها أن نقدم الدكتور أحمد زكي بك إلى القراء ، فقد عرفوه من قبل على صفحات هذه المجلة وغير هذه المجلة ، وعرفوه في كتبه ومؤلفاته عالما وأديبا ، له طريقة ساحرة في عرض العلم في أسلوب أدبى . وله فضل كبير على الأدب العربي ، فقد زاد من ثروة اللغة بما نحت من لفظ وما اشتق من كلمات . كما انه علم الأدب ، أو أدب العلم ، في أسلوب جزل رصين ، أثر الصناعة الفنية فيه واضح ملموس . وكأنه صائغ يصوغ الذهب ، أو جوهري يؤلف بين الجواهر ، في صورة رائعة ومنظر يأخذ بالآلباب .

لا نقصد أن نقدم الدكتور أحمد زكي بك ، فهو عن ذلك في غني ، وإنما نقصد أن ننوه بأحدث ما أخرجت له المطبعة العربية من كتب .

في " ساعات السحر " يقدم لنا الدكتور ثمانيا وعشرين مقالة في موضوعات شتى . وكلها نظرات ثاقبة في الحياة والمجتمع ، جمعها المؤلف في كتاب لم يدر ما يسميه . ثم رأي أن يختار له عنوانا ( ساعات السحر ) يربط أجزاءه بزمانها الذي كتبها فيه لما عز عليه أن يربطها بموضوع .

مقالة الدكتور أحمد زكي بك مقالة من الطراز الأول في الآداب العالمية ، لا تقل قيمة في ميزان النقد عن مقالة بيكن أو منتيني . فالمقالة في معايير الأدب الرفيع يجب أن تصدر عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع ، على شرط أن يجئ السخط في نغمة هادئة خفيفة ، مصطبغا بفكاهة لطيفة . وينبغي لكاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما . ولذا وجب أن يكون المقال على غير نسق من المنطق ، كما وجب أن يكون الأسلوب عذبا سلسا دفاقا . وكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله ، فيأخذها نقطة ابتداء ، ثم يسلم نفسه إلى الآحلام يأخذ بعضها برقاب بعض دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير . ولا يجوز أن تبحث المقالة في

موضوع مجرد يصح أن يكون فصلا في كتاب أو بحثا في علم .

وبهذا المقياس الأدبي الذي نستعيره من رأي الدكتور زكي نجيب محمود تكون مقالات الدكتور أحمد زكي بك أدبأ خالصا . لولا أنه يتأنق أحيانا في أسلوبه إلى حد الصناعة المتكلفة ، فلا يندفع القارئ مع الكاتب منساقا يجرفه تيار الحديث ، كما ينبغي أن يكون أسلوب المقال . حتى إن الكاتب ليستهويه السجع أحيانا فيستخدمه في غير موضعه .

ومن أجل هذا التانق والتكلف في الأسلوب جاءت بمعض المقالات قصيرة ينقصها التدفق والإفاضة كمقال ( حب الأوطان ). ومن أجل هذا كذلك كثرت العبارات التي يتركز فيها المعنى ، وهي ميزة كبرى في الأسلوب بمعيار النقد في الآداب العربية ونقيصة واضحة بمعيار النقد في ادب الغرب . وذلك كقول الكاتب : " لك من دفء المخ ما أغنى عن دفء العضل " .

ولعل من خير الأمثلة للمقالة الأدبية التي تبلغ أقصي حدود الإجادة بمعيار النقد الحديث المقالة التي عنوانها : (خواطر عند الحلاق ) . فقد أثار دكان الحلاق عند أدبينا خواطر سامية ، تضرب في صميم الحياة وطبائع الناس ، والأديب الحق هو الذي يستمد من أتفه الحوادث أعظم العبر : " ونظرت إلى يساري فوجدت رجلا أصلع ، له لحية حجبت وجهه . خطأ بسيط في التوزيع أنتج وجها كرأس ورأسا كوجه . وأخذت أحاضر نفسي في سوء

التوزيع وعلله ، وما جره على الناس من بلايا . وذهب في الفكر في هذه الناحية بعيدا ، ذهب بي إلى سوء توزيع المؤن في حرب ، وذهب بي إلى سوء توزيع الثروة في سلم وحرب ، وذهب بي إلى تلك المبادئ الجديدة التي تريد أن تهدم ما نحن فيه ، فذكرت بها الروس . ومن الروس عدت من جديد إلى ذكر اللحى فعلمت أن الفكر ، كالأرض ، دوار " .

وفي مقالات الدكتور زكي فلسفة عملية يصح أن يتخذها شباب اليوم دستورا لهم في الحياة . ففي أولى مقالات

الكتاب ( يعجبني الشباب إذا . . ) يقول : " فإن كان العمل فحما وزيتا انغمس في الفحم والزيت ، وإن كان انبطاحا على الأرض تمرغ في تراب الأرض ، وإن كان بخارا وعفارا ، نشق الأبخرة ، ولم يشح بوجهه عن الاعفرة " ثم يقول : " ويعجبني الشاب أن يكون مجددا ومتجددا " . غير أن الدكتور لا يرى أن يندفع المرء في سبيل التجديد إلى حد إنكار الماضي والقديم ، فيفرد في كتابه مقالا للدفاع عن القديم ، ولم يخشى أن يقال عنه رجعي ذو رأي عتيق . بل " إن الشئ القديم قد يحسن ، ولا يستطيع فوات الزمن أن يغير من حسنه ، والشئ الحديث قد يسوء ، ولا تستطيع حداثته أن تقلل من سوئه . وأكثر أصول الحياة ثابت ، لا يتغير مع الزمان " .

والكاتب طموح لا ترضيه القناعة ، ينصح للقاريء أن يطلب الكثير الخطير " وأنا أعيذك أن تسرق لأنك في حاجة إلى ما تسرق ، فهذه سرقة تأتيها العامة ، وأنا لا أريدك أن تكون عاميا في سبيلك إلى العلا ! " . ولا يعجبه الرجل يخشى دنياه ، فلولا أقوام آثروا التعب على الراحة ، وقلق الحياة على استقرارها ، ما كان في الدنيا تجديد ، ولا كان لبني الناس تقدم . وهو يرى أن الحياة عمل يحدوه أمل ، ولا ينبغي أن نستشعر الخيبة عندما تصادفنا العقبات في الحياة أو أن نلوم الناس على ما يصيبنا من عثار ، أو أن نبحث عن فلسفة نتواري فيها ونرقد تحت ظلالها الوريفة الباردة ، أو أن نتخفي في شعر أو أدب ، وإنما الدنيا لا تؤخذ إلا غلابا واغتصابا

ويدرك الكاتب ما ركب في خلق الله من ضعف في النفوس ، حتى كبارهم وزعمائهم ، فلكل منهم عيبه ونقيصته " ولقد أعرف كبيرا أو زعيما ، وأسمع منه ، وأقرا عنه ، فأري في ثنايا كل هذا عثار الرجل الذي خلق من طين ، وحمأ مسنون "

ويتعلم من الحمار الحكمة . فكلنا كذلك الحمار الذي علقت بعنقه جزرة ورآها تتأرجح أمام عينية فأسرع في الخطا لينالها ، ولكنها لا تقترب : " إنه كلما أسرع أسرعت وكلما أبطأ أبطأت ، والمسافة بين فمه وبينها دائما واحدة ، ولكنه ظل يدأب " .

وهو يتعطش إلى الحقيقة ، غير أنه لا يري إليها سبيلا . وفي بحثه عن الحقيقة يدرك بعين الأديب النافذة ما لا تدركه عامة الناس . يدرك أن الاستقامة اعوجاج وشذوذ ، وان القناعة في الزحام تزحم صاحبها إلى الموقف الأخير ، والأمانة ميراثها الفقر ، والصدق جزاؤه التأفف والكراهة : " وانت إذا أردت ان تربح طلبت من الشر جليله ، وعفت حقيره . فالشر الضخم مهيب ، والشر الضئيل الحقير صاحبه مكشوف مغلوب . إن السرقة مفضوحة معيبة ، إن اتصلت برغيف ، ولكنها غير ذلك إذا هي اتصلت ، أسهما ، في سوق الغلال بألف ألف رغيف " .

ومن أروع ما في الكتاب مقال ( الكرة التي تحمل فوق عنقك ) ؛ ففيها يرى الكاتب أن كلا منا برأسه ثقل ، بل اثقال تميل به : " والثقل قد يكون في الرأس عن يمين فيميل بالفكر إلى يمين . والثقل قد يكون في الرأس إلى شمال ، فيميل بالفكر إلي شمال . وهو لا يكاد يجري في أحد على استقامة أبدا " .

وما أكثر ما ضمن الكاتب من حكم في مقاله ( علمتني الحياة ) . فقد علمته الحياة أن الحياء المحض غير نافع إذا لم تدعمه من ورائه سفاقة تظل دائما على استعداد أن تبرز وتظهر ، وعلمته " أن هؤلاء الذين ترى من صغار ومن كبار ، ومن صاحب كوخ وصاحب قصر " وصاحب غنى وصاحب فقر ، ومن ذي رتب وسلطان ، وغير ذي رتب وسلطان  كل هؤلاء إذا أردت أن تسود فيهم ،

فانظر إذا إليهم شزرا ، وتربص بهم الفرص لتوسعهم سبا وركلا . وقد يكرهونك ، ولكنهم يخافونك ، وفي الخوف الإكبار ، ومن خاف فأكبر ، فعل فيه مركب النقص فتراجع لك وتقهقر " . وقد خالط الناس صنوفا وألوانا فلم يجد أحدا يمتاز في الحكمة على أحد بالقدر الذي يوحى به الظاهر ، ووجد أن أفرغ الأشياء الطبول . والدنيا عنده حظوظ . بل لقد يؤمن أن الغباء على الجد أنجح للمرء ، من ذكاء يصحبه تكاسل وتخاذل وارتخاء .

ويحاول الدكتور أن يربي في قارئه الذوق السليم ، فالاكل عنده فن وفلسفة ، ومن حسن الذوق التناسب

في الثياب وفي الصحاب . وفي اختيار الزوج ، والتوسط في الإنفاق ، فلا بذخ ولا إمساك .

ولا يعجبني منه رأيه في الجمال . فهو عنده يسكن إلى الضعف أكثر من سكنه إلى القوة ، وهو في مظاهر المرض أفعل منه في مظاهر الصحة . وعندي أن الجمال صنو القوة ورفيق الصحة .

والأدباء فريقان ، فريق متشائم ، لا يري إلى الإصلاح من سبيل ، وآخر متفائل ، يبتسم للحياة ، ويتوقع لها أن تسير إلى الأحسن وإلى الأرقي دائما . ومن هذا الفريق الثاني الدكتور زكي . ففي مقاله ( قلوب كبيرة ) يقول : " وسألت من بعد هؤلاء أصحابا وصواحب ، عن القلوب الكبيرة ، ما هي ؟ ومن هي ؟ وخرجت من السؤال والجواب مقتنعا بأن الدنيا لا تزال بخير ، وانه لا يزال في الخلق لبعض النفوس عظمها وضخامتها . . ورجعت عن

نفسي وعن الحياة راضيا . وزاد في رضاي أن حكيم الإغريق ، طلب الرجل قديما ، ومصباحه في يده ، فلم يجده ، وطلبته أنا ، حديثا ، وبغير مصباح ، فوجدته . ووجدت مع الرجال نساء وعلمته الحياة ألا يأس مع الحياة ، وأن الليل دائما يعقبه نهار " وما وقعت في ضيق إلا انتظرت فرجا ، ولا حل بي مرض إلا صبرت أنتظر الشفاء " .

هذه أمثلة يسيرة لما في الكتاب من حكمة وفلسفة ، ولا يغني القليل عن الكثير . وتكاد كل عبارة أن تكون موضع جمال في الفكر والصياغة . وليس ( ساعات السحر ) بالكتاب الذي يقرأ ثم يلقي . إنما هو من روائع الأدب وكنوزه التي ينبغي لكل صاحب مكتبة أن يقتنيها ليعود إلى قراءتها ، يلتمس عندها عزاء وسلوى ، كلما أصابه هم أو اعتراه قلق .

اشترك في نشرتنا البريدية