الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 270الرجوع إلى "الثقافة"

الملاريا

Share

تسألني عن الملاريا ، ما خطبها ؟

وقد حدثتك فيما سلف عن جرثومتها ، واسمها البكترمود وهي في الحجم ضئيلة بحيث لا تري إلا بالمجهر . وهي في التركيب من البساطة بحيث أنها تتركب من خلية واحدة . وهي من الحيوانات لا من النباتات . وهي ابسط الحيوانات وأصفرها . وهي أقلها نشاطا وحركة واعتمادا على النفس ،

ومن أجل هذا عاشت تطفلا ، وهي تتطفل علي دم الإنسان ، على خلايا الحمراء . وهي تعتقل إلي دم هذا الإنسان من دم إنسان غيره . والذي ينقلها البعوض . وليس كل البعوض بناقلها ، وإنما هو جنس معين من البعوض .

فماذا تصنع هذه الجرثومة الحيوانية الدنيئة المتطفلة في دم الإنسان ؟ وماذا تصنع هذه الجرثومة الحيوانية الدنيئة المتطفلة في جسم البعوضة قبل أن تنتقل إلي جسم الإنسان ؟

سؤالان إذا أجبنا عنهما فقد قضينا من هذا المقال وطرا . وسؤالان يجيب عنهما في ساعة ، وقد استغرق بنو الإنسان في الإجابة عنهما القرون . تدخل الجرثومة إلي كرة الدم الحمراء . وما تلبث أن تدخل فيها حتى تأخذ هذه الخرتومية في التغيير ، في التغيير حجما وشكلا وتركيبا أما حجمها فيزيد ثم يزيد حتى يملأ الكرة الحمراء كلها . أما الشكل والتركيب فتبدأ الجرثومة وبها زلالها الذي يسميه العلماء بروتوبلازما ، وبهذا

الزلال قطعة الصبغة التي يسميها العلماء كروماتين . وهذان من صفة الخلايا الحيوانية جميعا . فتبدأ الجرثومة كروية الشكل ( شكل ١ حرف ١ ) . ثم لا يلبث زلالها ان يتراجع إلي جدارها تاركا في اوسطها فراغا ، فيصبح الزلال في الجرثومة كالحلقة أو كالهلال ، وتكون قطعة الصبغة في طوق هذه الحلقة أو هذا الهلال . وفي هذا الطور يكون قطر الجرثومة قد بلغ ثلث قطر كرة الدم الحمراء ( شكل ١ حرف ب ، حـ ، ء ، ه ) . ثم تأخذ الجرثومة تتزايد ، فتصبح ( شكل ١ حرف و ) ثم تنقسم قطعة الصبغة التي بها إلي قطعتين فأربع وهلم جرا إلي ما بين ٨ قطع و ١٦ قطعة

شكل ١ - أطوار جرثومة الملاريا في دم الإنسان

( شكل ١ حرف و ، ز ) ثم يتجزأ كذلك زلال الجرثومة إلي مثل هذا العدد من القطع ، أو هو يتهيأ لذلك ، وتحتل كل قطعية من الزلال مكانها حول قطعية الصبغة حتى تلقيها استمدادا للطور الأخير . وعندئذ يقال إن الجرثومة بلغت ونضجت واستوت ( شكل ١ حرف ح ) ، وعندئذ تكون  قد ملأت كل الكرة الحمراء فلا تعرف أيتهما الكرة وأيتهما الجرثومة . ولا يبقي بعد ذلك إلا ان ينفتح فشاء

الكرة الحمراء عن عدد من الجراثيم الناشئة الوليدة ، تامة الخلق ، كتلك الجرثومة الأولى التي غزت تلك الكرة الحمراء ( شكل ١ حرف ا )

وقد قصرنا وصفنا على جرثومة واحدة تدخل كرة حمراء واحدة . والواقع أن عدة من تلك تدخل عدة من هذه وتجري الحراثيم في أدوار التطور معا ، وفي سرعة واحدة . حتى إذا جاء طور البلوغ والنضج والاستواء ، بلغوه جميعا بما إذا جاء دور انفقاع الكرات الحمراء وانطلاق الجراثيم الجديدة الوليدة ، انطلقت جميعا معا

وبانطلاق هذه الجراثيم ينطلق من الكرات المنفقعة أجسام غريبة ، إن شئت سمميتها سموما ، هي بقايا ما حدث في هذه الكرات من تغيرات كيماوية ، وبانطلاق هذه المواد بالجسم ترتفع درجة حرارته . فانطلاق الجراثيم إيذان بوقوع الحمى .

ثم تأخذ هذه الجرائم الجديدة الوليدة ، هذه الذرية الأولى ، تأخذ تغزو كرات الدم الحمراء غزوة ثانية وتستغرق بالطبع هذه الجراثيم زمنا تستكمل فيه أدوارها من جديد داخل هذه الكرات ، وفي اثناء ذلك تكون الحمى قد انقشعت ، ويطيب المريض أو يظن أنه طاب ثم لا يلبث أن تنقض عليه الحمى من جديد بانطلاق الذرية الثانية من الجراثيم في دمه وهكذا دواليك .

وهنا يحسن أن نبادر بالقول إن حمى الملاريا أكثر من صنف واحد ، فأصنافها قد تبلغ الخمسة . ولكن أشيعها ثلاثة : حمي الثلث الحميدة ، وحمي الربع ، وهي جيدة أيضا . والحمى الخبيثة

أما حمى الثلث فهي التي ترزور صاحبها مرة كل ثلاثة أيام وأما حمى الربع فهي التي تزور صاحبها كل أربعة ايام وأما الحمى الخبيثة فتزور صاحبها كل ثلاثة أيام أيضا . أما وصف حمى الثلث أو حمى الربع بالحميدة فليس معناه ان هذه

تحمد أو تلك تحمد ، فليس في الشر ما يحمد ، إلا أن يكون حمدا لله الذي لا يحمد على مكروه سواء ، وإنما المقصود أنها حميدة العاقبة .

ولكل من هذه الحميات الثلاث جرثومة تختص بها . وإذن فاليلزمود - جرثومة الملاريا - ليس صنفا واحدا بل صنوفا

أما حمى الثلث الحميدة فجرثومتها - واسمها يلزمود فيفاكس P.Vivax - تستتم أطوارها في ٤٨ ساعة ، أي في يومين ، تنزل الحمى في ثالثهما . وإذا انت امتحنت دم مريضها تحت المجهر وجدت كراته الحمراء قد زادت حجما وامتقعت لونا ، ثم تترقط حتى يعمها الترقط فتتراءي كما نثرت سمسما في ماء فانتشر فيه ، لو أمكن هذا. وعند ما تستكمل الجرثومة أطوارها داخل كرة الدم الحمراء ، وتكون على وشك ان تنفقع عن أولادها ، تكون هذه الجرثومة الأم قد بلغت حجما أكثر من حجم الكرة الحمراء ، وتكون قد اتخذت شكلا غير كروي ، غير منتظم . وبهذه الصفات ، وبغيرها ، يعرف الفاحص نوع الجرثومة ، فنوع الملاربا ، تحت المجهر

أما حمى الربع فجرثومتها واسمها بلنزومود مالاريي  p.malarie- تستتم Hطوراها في ٧٢ ساعة ، أي في ثلاثة أيام ، تنزل الحمى في رابعهما . وإذا أنت امتحنت دم مريضها تحت المجهر وجدت كراته الحمراء لم تزد حجما ، ولم تمتقع لونا ، بل علي النقيض قد يزيد لونها أعتماقا. وهي لا تترقط . أما الجرثومة ، داخل الكرة ، فتأخذ شكلا كالشريط ، ثم شكلا كحبة الفاصوليا ، وتكون قطعة صبغها ( الكروماتين ) أشد بروزا ، وهي تكبر ، كغيرها من صنوف الجراثيم ، حتى تملا كرة الدم الحمراء كلها ، ثم هي تنفقع فتخرج منها الجراثيم الوليدة لتنهج منهح الجرثومة الأم من حيث غزو الكرات الحمراء ، فالتطور فيها ، ففقمها أخيرا .

أما الحمى الخبيثة فجرثومتها - واسمها بلزومود فلسبارم p . falaciparum - تستتم دورتها في ٤٨ ساعة ، أي في يومين ، تنزل الحمي في ثالثهما . وإذا انت امتحنت دم مريض بها تحت المجهر وجدت كراته الحمراء لم تزد حجما ولم تتغير مظهرا . وهي لا تترقط ذاك الترقط السمسمي أما الجرثومة داخل الكرة فتأخذ في التطور على عادتها ، ولكنها لا تملأ الكرة الحمراء أبدا . حتى إذا بلغت واستوت واحتتمت وتهيأت لتتفقع ، انفقمت فانطلق منها جراثيمها الوليدة .

وقد امتحن الله مصر بهذه الثلاثة الصنوف من الحمى . ولا أقصد بالحديث عن هذه الجرائم وما تغزوه في الدم من كرات حمراء ، ان أهئ ، السبيل إليك لتمتحن بنفسك هذه الأحداث تحت المجهر ولو كنت من أهل العلم . فتلك صناعة يختص بها أربابيها ، وأنا لم أذكر من وصف هذه إلا قليلا .

وإنما أنا ذكرت ما ذكرت لأعطيك صورة عامة مما يجري في المعمل حتى إذا جاءك طيبك - لا قدر الله - وجاء يطلب ان يتغير طرف اصبعك بإبرة ، فإذا وخزه عصر هذا الطرف حتى تجمعت قطرة من دمك على موضع الوخز ثم نقل هذه القطرة على شريحة صغيرة من الزجاج في حجم الإصبعين ، ثم فرش هذه القطرة على الشريحة حتى رقت عليها وانتشرت - حتى إذا جاءك طبيبك يفعل هذا عرفت إلي أي شيء بقصد ، وأي شيء تتوقع .

واعلم أن الفحص الحديث يقضي علي الطبيب غالبا أن يأخذ منك قطرتين ، قطرة يفرشها على شريحة الزجاج كما وصفنا ، وقطرة أخري ينقلها ثقيلة سميكة كما هي على شريحة أخري . ذلك لأن جرثومة الملاريا ، في بعض أطوارها ، تتراءي في الدم الثخين غير مرآها في الدم الرقيق ، فيزيد هذا في الحكم وثوقا

واعلم انه ينقضي بين دخول الجرثومة إلى دمك أو إن شئت فإلى دمي ، بضعة من أيام لا تقل في المادة عن عشرة ، قبل أن تظهر عليك أعراض الحمى . وقد

تطول هذه الفترة طويلا أما هذه الفترة فنقضيها الجرثومة في التوالد . ولا عجب . فبضعة من جراثيم ، يبلغ قطر الواحدة منها نحو الثلاثة الأجزاء من المليمليمتر ، إذا دخلت إلي دم إنسان ، كانت كبضعة من أسماك تدخل محيطا من الماء فهي لا تؤثر في هذا الدم ، ولا في صاحبه ، حتي تتكاثر فيه بالتوالد . وهي تتكاثر حتي يكون منها حشد عظيم بعثو بالفساد في هذا الميدان العظيم فإذا أنت أحسست بغزوها مرة - بالحراة والرعشة ثم بالعرق وبالأوجاع - احسست بكل هذا مرة أخري كلما قضت تلك الجراثيم عدتها ، فهي لا تعيد الغزو إلا في ميقات معلوم لا تخلفه .

" ويصدق وعدها والصدق شر   إذا ألقاك في الكرب العظام "

ولكن كثيرا ما يحدث الغزو في غير ميقاته . فقد تنتظر زيارتها بعد يومين ، فإذا هي تحيثك في الغد القريب على غير ميعاد . ويحدث ان تصيبك بعوضة وبيئة يوما ، ثم تصيبك من بعدها بعوضة وبيئة أخري . فبدل العدوى الواحدة تحظي بعدوبين . وبدل النسل الواحد من الجراثيم تحظي بنسلين . وبدل الغزوة الواحدة تحظي بغزوتين متقاربتين . وجل من قسم الأزراق .

واعلم غير هذا وهذا ، أن أعراض الملاريا ليست حمى وعرقا وأوجاعا فحسب فجراثيم الداء إذا غزت فهي إنما تغزو  كرات الدم الحمراء فتفقأها . وكلما زادت هذه الكرات نفقا ، زاد الدم حسمة ، وقل احمراره . واعتري صاحبه المظهر المعروف لفقر الدم . ومن فقر الدم هذا يموت صاحبه . والآن حسينا حديثا عما تصنع هذه الجرثومة الحيوانية الدنيئة المتطفلة في دم الانسان ؟

فما بال ما تصنع هذه الجرثومة في جسم البعوضة ؟ موعد هذا في المقال القادم . فثلاث صفحات من علم لو زادت لا تكفأ من تثفل بها الميزان .

اشترك في نشرتنا البريدية