إننا حين نكتب عن هذه المدنية الموسيقية المصرية القديمة التي ترجع بالقارئ إلى ثمانية آلاف عام قبل الميلاد لا نقول ما قاله مندل(Mendel) (البحاثة الألماني من أن هذا البحث من أظلم البحوث في التاريخ، ولا ما قاله العلامة الفرنسي فيلوتو (Villoteau) من أنه بحث غير مثمر يضيع السعي فيه هباء، والكد فيه عبثاً؛ وإنما نقول ما قاله الدكتور محمد أحمد الحفني شرقي نال الدكتوراه في التاريخ الموسيقي (إنه بحث قائم على حقيقة ثابتة يؤيدها العلم والتاريخ وتنطق بصحتها الصور والنقوش) .
وهذا حق فإنه لم يدفع مندل وفيلوتو إلى هذا القول اليائس إلا جهلهما وجهل عصرهما بعلم الآثار المصرية فكانا يبحثان ويفحصان دون جدوى لأنهما لم يتوصلا إلى حل تلك الرموز حتى وافاهما أجلهما فلما حلت الرموز وكشفت المقابر عثر أثناء الحفر المتوالي
على آلات قديمة كاملة أو قريبة من الكمال وعلى نقوش موسيقية دلت على حضارة بالعزة ومدنية موسيقية ناضجة وصلت إلى درجة
تشعرنا أنها كانت مصدر الثقافة الموسيقية في العالم القديم فكانت إماماً للآشوريين واليونانيين والرومانيين والإيرانيين. وإذا علمنا أن ثقافة أوربا الموسيقية كانت أثراً من آثار الحضارة التليدة أمكننا أن نفخر
بأن مصر - وحدها - هي التي تولت إذاعة هذه الحضارة والثقافة الفنية الموسيقية! ولعل القارئ يعجب حينما يرى فيما سيراه من (الصور) تلك الصورة التي تظهر فيها فرقة كاملة بها عازف بالناي، ومغنّ، وعازف بالصنج، وعازف بالزمارة المزدوجة. . . في الوقت الذي
كانت أوربا خالية من كل ثقافة علمية أو موسيقية. ولعل مما يؤيدنا في هذا أن الثقافة اليونانية القديمة التي ندين لها بالشيء الكثير حتى الآن كانت صدى للثقافة المصرية القديمة نقلها أرفيوس وأفلاطون وفيثاغورث عمن تتلمذوا على المصريين وأخذوا عنهم ثقافتهم الموسيقية. ولعل القارئ يعجب أكثر عندما يعلم أن أفلاطون كان يؤثر الموسيقى المصرية على الموسيقى اليونانية (موسيقى بلاده) وكان يصفها بأنها أسمى ما عرفه العالم من فن جميل هو جماع ما في الدنيا من صدق وتأثير وجمال وتصوير. . . حتى أن الأغاني المصرية كانت تنشد في اليونان في كل مكان وعلى كل لسان. . .
لو نظر القارئ إلى الصورة رقم (١) لرأى ابن آوى يعزف بالناي الطويل ذي الثقوب العديدة. والناي المصري القديم خشبة طويلة مجوفة بها ثقوب جانبية تصوّت إذا نفخ فيها. ولا يظن القارئ أن المصريين توصلوا إليها طفرة واحدة فقد قطعوا مئات السنين حتى توصلوا إليها وهي قديمة عثر عليها من نقوش سبقت تاريخ الأسر.
أما الصورة رقم (٢) فهي لآلة الجنك أو الصنج (الهارب) وهي عبارة عن صندوق مصوت من الخشب ثبتت أوتاره الكثيرة بأوتاد (تقابل المفاتيح في الآلات الوترية الحديثة) وقد قضت
هذه الآلة أيضاً زمناً طويلاً حتى تطورت واستقرت كما ترى في شكلها كاملة ناضجة، وإذا علمنا أنها آلة وترية وأن الآلات الوترية هي أحدث أنواع الآلات الموسيقية أمكننا أن نلمس إعجاز قدماء المصريين وجبروت عبقريتهم وعظيم حضارتهم. . .
والصورة رقم (٣) وهي التي قلنا عنها إنها تمثل فرقة كاملة فيها المغني والضارب بالجنك أو الصنج والعازف بالناي والعازف بالزمارة المزدوجة. وقد يتكرر أحد أفراد هذه الفرقة فترى أكثر من عازف للصنج أو الناي في الصورة الواحدة كما هو الواقع في شكل رقم (٣) .
إن الناظر إلى المغني في الشكل المذكور ليلفاه ملوِّحاً بيده في الهواء. ولا يظن أن هذا هراء فقد كان المطرب يستعين بهذه الحركة ليرتِّب الإيقاع وينتقل باللحن من نغم إل ى نغم، ويقود عازف الناي أو ضارب
الصنك. . . وكان لهذه الحركة أثر عظيم في الموسيقى المصرية القديمة حتى الغناء باللهجة الهيروغليفية كان يسمى (جِسِيْثْ
إمْ جِرِثْ) ومعناه الحرفي (الموسيقى بواسطة اليد(1) ) .
وتُرجِع أوربا أصل التدوين الموسيقي (النوتة) إلى حركة اليد وتسميها لغة اليدCheironomie وتقول ان طريقة Neumen الموسيقية التي ظهرت بعد أربعة آلاف سنة من هذا التاريخ هي الطريقة المصرية تماماً مع فارق بسيط. فمصر رسمت في الهواء باليد، وأوربا رسمت في الورق باليد!. . .
بل إنها لا تزال إلى هذا العصر تستعملها، وقد استعملها في مصر لتعليم الأطفال الدكتور الحفني فخلد لكل نغمة من النغمات السبع الأساسية التي يتكون منها السلم الموسيقي حركة خاصة تعرف بها وتدل عليها اليد وعممها في جميع مدارس رياض الأطفال. . .
وقد كان المطرب المصري القديم إذا غنى في وضع يده اليسرى تجاه أذنه وخده ليتمكن من التحكم في صوته فيتلاعب به كيف يشاء - كما هو الحال في البلاد الشرقية إلى الآن - وكما هو الحال مع المقرئين المبصرين والمكفوفين!
قلنا إن الآلات الوترية هي أحدث أنواع الآلات الثلاثة، فأقدمها هي آلات النقر ومنها القضبان المصفقة، والأذرع المصفقة، والأرجل المصفقة، والألواح المصفقة، والرؤوس المصفقة والأجراس والجلاجل، والشخاليل، والطبول، والستروم المنحني والناقوسي. وتلى آلات النقر أو الآلات الإيقاعية آلات النفخ كالناي والمزمار والنفير والفليدت الخ. . .
أما الآلات الوترية فمنها العود، والقانون، والكمان، والبيانو
وقد استعاضت به أوربا في القرن السابع عشر عن العود لموافقته
لموسيقاها وتلاحينها. . .
فإذن كان طبيعياً ألا نرى في النقوش القديمة التي عثرنا عليها إلا الآلات الإيقاعية وآلات النفخ وآلة وترية وحيدة هي الصنج؛ وليس معنى هذا أنه لم يعثر على آلات وترية غير الجنك وإنما المسألة مسألة زمنية طبيعية. . . فالإنسان القديم لم يستعمل إلا تلك الآلات التي خلقها الله له في جسمه فاستعمل فمه في الغناء، ويده في التصفيق ورجله في الضرب على الأرض (وللآن تستعمل الرجل لضبط الوحدة) ثم تدرج
شيئاً فشيئاً حتى وفق إلى صنع القضبان والأذرع والأرجل والألواح المصفقة وكان يصنعها من الخشب أو العظم أو العاج كما يتضح من الأشكال (٤، ٥، ٦) أما الأجراس فكان يصنعها من البرنز على شكل البيضة، والشخاليل كان يصنعها من الخيزران المجدول على شكل الكمثرى (شكل ٧، ٨) .
أما الستروم بأنواعه فهو نوع من الأجراس كان يستعمل للعبادة، وهو عبارة عن قضب منحن تخترقه أسلاك تلتوي من نهايتها في اتجاه عكسي سهلة الحركة تصطدم نهايات أسلاكها
بجدران القضيب كلما حركه الإنسان (ش ٩، ١٠) وكان استعماله مقصوراً على النساء (كهنة هاتور) وبعض الملوك.
وقد وصفنا من آلات النفخ القديمة (الناي) . أما الزمارة المزدوجة (ش ١١) فهي عبارة عن قصبة من الخشب تستعمل دائماً مزدوجة، وتعزف بها السبابة والوسطى؛ أما الخنصر والبنصر فتسندان الآلة من الخلف، والإبهام تسندها من الأمام. ولا تزال هذه الآلة تستعمل في ريف مصر إلى الآن.
أما الآلة الوترية الوحيدة التي عثر عليها قبل تاريخ الأسر فهي الجنك أو الصنج، وكانت من النوع المنحني، وقد وصفناها قبلاً.
من هذا ومن الرسوم التي عثرنا عليها قبل تاريخ الأسر وبعده يتضح لنا إلى أي مدى وصلت حضارة المصريين في هذا الفن الجميل الذي فرض نفسه فرضاً على جميع المدنيات القديمة حتى رأينا كما قلنا كيف أن فلاسفة اليونان الذي ثقفوا ثقافة مصرية فضلوا الموسيقى المصرية، وعملوا جاهدين مخلصين - على شيوعها وإذاعتها في بلادهم - فكان لهم ما أرادوا فلم يبق ثمة بيت
ولا إنسان إلا ودخل طائعاً مختاراً تحت راية الاستعمار المصري (الفني) . .!
بل رأينا إلى أي حد بلغت عبقرية المصريين وقدرتهم الخارقة على الخلق والابتكار والوصول إلى صنع آلات إيقاعية ووترية ونفخ في وقت كان العالم كله يسير في ظلمات بعضها فوق بعض حتى هدته مصر بنورها وبثقافتها، وبعبقرية أبنائها الذين بسطوا نفوذهم وسلطانهم وملكهم على الأرض ومن عليها.
هذا كان من ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد. . .! أما الآن وقد تدرجت الدنيا في معارج المدنية وسارت الأرض في مسالك النور
فقد أصبحنا وكأننا كنا نسير طوال هذا الزمن سيراً عكسياً متخلفين عن كل حركة إصلاح وحياة. . فثقافتنا أصبحت محاكاة، وموسيقانا أصبحت ترديداً للموسيقى الأوربية التي لا توافق ميولنا، ولا تتفق وخوالجنا، وقد وصل عجزنا في هذا إلى درجة أصبح فيها كل من يخلط ويمزج الموسيقى المصرية بالموسيقى الأوربية يسمى مجدداً.
أصبح كل من يضرب الرومبا، والتانجو، والكاريوكا، والفالس. . . الخ يعتقد أنه أتى بما لم تأت به الأوائل والأواخر. أصبحنا لا نملك إلا الذكريات، ولا نفخر إلا بالذكريات، ولا نعمل ولا نتقدم ولا نسعى إلا اعتماداً على الذكريات. . . وويل لشعب لا يعيش إلا على الذكريات!

