كانت خطب الأقطاب الثلاثة : تشمبرلن ، وهتلر ، وموسوليني ، اهم احداث السياسة الدولية في الأسبوعين الماضيين وقد اصبحت هذه الخطب الموسمية عاملا ذا شأن في تطورات السياسة الأوربية ، بعد أن عودنا الزعيمان الآلماني والايطالي ، ان يفصح كل منهما عن طرف من خططه وغاياته في خطب ومواقف معينة ، وكانت هذه الخطب في احيان كثيرة نذير مفاجأت عظيمة في السياسة
الأوربية ، كما حدث غير مرة في العام الماضي ؛ ففي شهر فبراير كانت خطب هتلر نذير الخطر على النمسا وتمهيدا لضمها ؛ وكانت خطبه في سبتمبر نذير الخطر علي تشيكوسلوفا كيا ، مما ادي إلي عقد مؤتمر ميونيخ وتحقيق مطالب المانيا بأكملها . وقد حدثت منذ مؤتمر ميونيخ تطورات خطيرة في السياسة الأوربية ، ترتبت بالأخص على حركة إيطاليا في سبيل مطالبها الاستعمارية ، وعلي تفاقم
المسألة الأسبانية بانتصار الجنرال فرانكو وسقوط برشلونة ، وسادت الافق الدولي في الآونة الأخيرة سحب ونذر جديدة مزعجة . ومن ثم كان اهتمام العالم بالخطابين الموعودين ، خطاب الهر هتلر والسنيور موسوليني ، وما قد يفضيان به من اقوال وتصريحات عن المشاكل الأوربية الكبرى التي تتوقف عليها مصاير القارة ومصاير الحرب والسلام .
وقد ألقي " الزعيم " ( هتلر ) خطابه في ٣٠ يناير في مجلس الريخستاج لمناسبة الذكري السادسة لقيام حكم الاشتراكية الوطنية (النازية )في ألمانيا ، وألقي " الدوتشي " ( موسوليني) خطابه فبراير في المجلس الفاشستي الأعلى بيد أنه لوحظ أن المستر تشمبرلن رئيس الوزارة البريطانية وهو ثالث الأقطاب الثلاثة ، قد سبق الدكتورين ، فألقى في برمتهام في ٢٧ يناير خطابا هاما جامعا عن الحالة الدولية وموقف السياسية البريطانية منها ؛ والمعروف أن مستر تشمبرلن من أعظم أنصار السلم ، وأشدهم إبتارا للوسائل السلمية في تسوية المنازعات الدولية ، ومن ثم كانت مواقفه المشهورة في سبتمبر الماضي ، وكانت زيارته الأحيرة لرومة . ولكن الذي لا ريب فيه هو أن مستر تشمبرلن يلقي في هذه السياسية معارضة شديدة من الجبهة البريطانية ، التي لا تثق بحسن نية الدول الدكتاتورية ووعودها ، وفي رأي هذا الفريق أن سياسة تشمبرلن قائمة على الخوف والتسليم ، وأن محور برلين رومة بعد أن حقق ظفره في ميونيخ بواسطة هذه السياسة ، ما زال يرجو المزيد من نتائجها وثمراتها معتمدا في ذلك على سياسة الوعيد والتحدي . والظاهر أن مستر تشمبرلن نفسه قد بدأ يشعر بشيء من التوجس لعواقب هذه السياسة ، فقد سمعناه لأول مرة منذ ميونيخ يتحدث بلهجة قوية حاسمة عن موقف بريطانيا العظمي إزاء الأزمة الدولية الحاضرة ، وكون بريطانيا قد حددت موقفها بصورة واضحة يجب ألا يساء فهمها ، وقد حان
الوقت لأن يعمل الغير في سبيل الوصول إلي الغاية المنشودة ، وعن موقف الأمم الديموقراطية ، وكونها كما قال الرئيس روزفلت في رسالته عن العام الجديد ، لا يمكن ان تسلم بسيطرة القوة على العالم ، ولا مناص من ان تقاوم هذه المحاولة بكل قواها ، وان لا شئ يعرض سلام العالم للخطر مثل هذا التحدي . ثم يقول لنا مستر تشمبرلن إن التسلح أصبح ضرورة لا مناص منها ، وإنه يرجو أن يكون تسلح بريطانيا العظمي مقدمة للعودة إلي التعقل والروية في أوربا ، وإن الحرب في هذه الأيام فظيعة العواقب على الذين يدخلونها مهما كانت نتائجها ، بحيث يجب ألا تقع إلا بعد أن تتخذ كل وسيلة عملية شريفة لاتقائها ، وإنه " يجب أن نضع أنفسنا في مركز نستطيع فيه الدفاع عن أنفسنا ضد أي اعتداء ، سواء أكان موجها إلي أرضنا أم إلي شعبنا ، أم إلي مبادئ الحرية التي يرتبط بها وجودنا كأمة ديموقراطية ، والتي تعتقد أنها تتضمن أقدس الخواص العالية للحياة الإنسانية وروحها ، وأن نكون في هذا المركز إلي أن نصل إلي تفاهم جلي يزول به كل توتر سياسي ،
هذه الفقرات الموجزة من خطاب مستر تشمبرلن تتم عن تطور واضح في اتجاه السياسة البريطانية التي يقودها مستر تشمبرلن نفسه ؛ ومع ان رئيس الوزارة البريطانية قد لجأ في التعبير عن ارائه إلي ارق الاساليب السياسية وأرفعها ، فإنه لم يترك مجالا لقريب في تصميم بريطانيا العظمي على أن تقابل الاعتداء بمثله ، ولم يحجم عن التنويه بمعركة المبادئ التي تضطرم بين الدكتاتورية والديموقراطية ، والتصريح بأن الديموقراطية التي تزعمها بريطانيا العظمي لن تدخر وسعا في الدفاع عن كيانها ومبادئها ؛ فإذا ذكرنا ان رئيس الوزارة الفرنسية ووزير خارجيتها قد افضيا قبل ذلك بأيام قلائل بتصريحات قاطعة في عزم فرنسا على المحافظة على سلامية ارضها وسلامة امبراطوريتها ، والدفاع عنها ضد
اي معتد عليها ، أدركنا ان السياسة التي ارتضتها الدولتان الديموقراطيتان في ميونيخ قد أصابها رد فعل عميق .
وقد القي هير هتلر خطابه المرتقب في مجلس الريخستاج بعد خطاب مستر تشمبرلن بثلاثة ايام ، ولوحظ بهذه المناسبة ان رئيس الوزارة البريطانية رأي أن يسبق بالقاء خطابه لحكمة مقصودة ، هي الا يتورط الجانب الآخر في تصريحات ومفاجات لا محل لها ، وعلى أي حال فقد جاء خطاب " الزعيم " الذي استغرق إلقاؤه أكثر من ساعتين خلوا من هذه المفاجآت المزعجة ، وإن لم يخل من تصريحات خطيرة عدة ، وقد أفاض كعادته في الكلام على نعم الحكم النازي على المانيا ، وما حققه لها من الآماني القومية العظيمة ، وما أسبقه عليها من آيات القوة والعزة ، وليس في حديثه جديد من هذه الناحية ؛ ثم أفاض في الكلام عن مركز المانيا الاقتصادي ، ومتاعبها من هذه الوجهة ، وهي متاعب يحمل الفريق الآخر تبعتها ، وتطرق من ذلك إلي التحدث عن ثروات العالم وكونها موزعة بطريق العنف ، وإنه ما دام العنف وسيلة التقسيم ، فسيبقى أيضا وسيلة التغيير من آن لآخر ؛ أما إذا كان التوزيع بطريق العدالة والتعقل فيجب أخيرا أن تسود فيه العدالة والانصاف .
ونحن لا نمني كثيرا بهذا العرض الاقتصادي الذي استغرق معظم الخطاب ، والذي تبدو أهميته فقط من حيث انصاله بحديث المستعمرات ، وإنما نمني بنوع خاص بما فيه من اشارات وتصريحات عن المسائل الأوربية الكبري التي تشغل بال العالم ، وتستطيع أن نلخص هذه التصريحات فيها بلى :
أولا - أن المانيا ترغب في السلم كل الرغبة ، وأنها لا تتمشق الحسام إلا لكي تدفع خطرا يداهمها من الخارج ، وانها لا تهدد أحدا ، ولا تفكر في مهاجمة أحد ، ولكنها تقف في وجه كل سمى من دولة اخري للتدخل في شؤونها
ثانيا - انه لابد لألمانيا ان تستعيد مستعمراتها
لأسباب اقتصادية وأدبية ، وانه فيما خلا مسألة المستعمرات لا يوجد اي خلاف اقليمي بين المانيا وبين فرنسا وبريطانيا ؟ بيد أن مسألة المستعمرات لا تمكن أن تعتبر سببا كافيا لاثارة الحرب .
ثالثا - أن ألمانيا متضامنة كل التضامن مع إيطاليا ، " وانه إذا حدثت حرب من اي نوع ومن اي ناحية ضد إيطاليا بطريق الأثارة ( ١ ) ، فإن ألمانيا تقف إلي جانبها كرجل واحد "
رابعا - أن ألمانيا تحتفظ بمبادئها النازية داخل حدودها ، ولا تري آية فائدة من إذاعتها خارج ارضها ، ولا تري أن تخاصم احدا من الشعوب بسبب المبادئ .
خامسا - ان الهير هتلر يعتقد في سلام طويل الأمد ، ولا يرى مبررا للخلاف بين المانيا وانجلترا او المانيا وفرنسا ، وان يكون من دواعي الغبطة ان يعقد التفاهم بين الفريقين .
تلك هي النقط الجوهرية التي وردت في خطاب المستشار هتلر ، وهي في مجموعها تدل على تحوط واعتدال لم نعهدهما في خطبه من قبل ؛ فهو يؤيد رغبته في السلم هذه المرة بصورة متكررة واضحة، وينفي كل احتمال للحرب الاعتدائية ، ويعرب عن امله في استقرار السلم لمدى طويل ؛ ونلاحظ مثل هذا التحوط واضحا في تصريحه الخاص بتضامن المانيا وإيطاليا من الوجهة العسكرية ، فهو مع تأكيده بأن المانيا تقف إلي جانب إيطاليا إذا وقعت الحرب ضدها ، يقيد هذا التضامن بشرط ان تقع الحرب ضد إيطاليا بطريق الاثارة ، أو بعبارة أخري أن تكون حربا اعتدائية من جانب خصوم ايطاليا ، ودفاعية من جهة إيطاليا .
فهل في ذلك ما يرضي الأماني الإيطالية ، وما يشجع إيطاليا علي المضي في مطالبها الاستعمارية ؟ أكبر الظن أن
هذا التأييد الغامض المقيد بشرط الاعتداء ، والذي لم يشر إلي مطالب بذاتها لم يحقق كل ما كانت تعلقه إيطاليا على تأييد حليفتها المعنوي في هذه الظروف ، وهو بلا ريب لا يعدل موقف إيطاليا من اماني المانيا ومطالبها حينما غزت النمسا وطالبت بمنطقة السوديت ، إذ تذكر عندئذ مواقف السنيور موسوليني ، وما كان يعلنه من تضامن وثيق مع المانيا ومطالبها ، وما اتخذه أثناء ازمة سبتمبر من إجراءات التعبئة الجزئية ليشد أزر حليفته.
وتستطيع أن ترجع تحفظ المستشار هتلر في ذلك إلي عوامل ثلاثة : اولها ان المانيا تري ان إطاليا قد اندفعت في مطالبها الاقليمية والاستعمارية إلي حدود غير معقولة . وترتب على ذلك رد فعل شديد في فرنسا وفي الجبهة الفرنسية البريطانية التي ازدادت حزما وتضامنا في موقفها ، وانهت خطاب مستر تشمبرلن الذي يعلن فيه ان الديموقراطية لا يمكن أن تسمح للقوة أن تسود أوربا . والثاني أن ألمانيا نفسها لا ترى أن تثير أزمة أوربية أو أن تخوض حربا من أجل المطالبة بمستعمرانها ، فهي من باب أولى لا نري ان تتضامن بصفة مطلقة مع إيطاليا في إثارة مثل هذه الازمة ، او مثل هذه الحرب ، من أجل مطالبها الاستعمارية المغرفة . والثالث أن المانيا تنظر بنوجس شديد إلي امريكا وتضامنها الواضح مع الدول الديموقراطية ، وتري أن الظرف يتطلب كثيرا من الروية والأعتدال
وإذا ففي وسعنا ان نقول إن يحفظ المستشار هتلر قد احدث نوعا من خبيبة الامل في إيطاليا ، ويبدو ذلك واضحا فيما ابدته الصحافة الإيطالية من فتور في التعليق على خطابه ، وإن لم يضها ان تتوء بتصريحه الخاص بمساعدة المانيا لإيطاليا إذا نشبت الحرب ضدها ، بل يبدو بنوع خاص فيما أحيط به خطاب " الدوتشي " أمام المجلس الفاشنسي في مساء الرابع من فبراير ، من التحفظ والتكتم في ذلك انه لم يدع خلافا لما كان منتظررا ، بل صدر
عنه بلاغ رسمي موجز قيل فيه إن المجلس الفاشستي بعد أن سمح بيانات (الدونشي) يعرب عن عظيم ارتياحه لخطاب المستشار هتلر ، ويؤكد التضامن السياسي والفكري والعسكري بين الفاشستية والنازية ، ويعلن ان المتطوعين الإيطاليين لن يغادروا اسبانيا قبل انتصار فرانكو النهائي . ولم يشر البلاغ الرسمي بشيء إلي " أماني إيطاليا الطبيعية " أو مطالبها الاستعمارية ، ولكن ظهرت عقب ذلك في الصحف الإيطالية تعليقات شبه رسمية قيل فيها إن الدول الديموقراطية يجب ان تبدي شيئا من التعقل فتمنح بعض الأراضى ، وتعترف ببعض الحقوق ، وإن ايطاليا ستكافح حتى تظفر المانيا بمستعمراتها ، وانه يجب تغيير المواثيق المعقودة بين الدول إما بالوسائل السلمية أو بالحرب.
على أنه في نفس الوقت الذي تغرق فيه الصحف الإيطالية في وعيدها ، يعلن مستر تشمبرلن في مجلس العموم ( ٦ فبراير ) بكل صراحة وجلاء ان بريطانيا تقف إلى جانب فرنسا بكل قواتها إذا وقع عليها اعتداء او تعرضت مصالحها الجوهرية للخطر ، وهو تصريح خطير ذو مغزي واضح .
تلك هي أدوار هذه المظاهرة الخطابية الدولية ، التي بدأت بخطاب مستر تشمبرلن ، فخطاب المستشار هتلر ، فخطاب السنيور موسوليني ، ولا ريب أنها في مجموعها قد أسبغت على الأفق الدولي شيئا من الوضوح والطمأنينة, خلافا لما كان ينتظر من اضطرابه وتفاقمه ، ولا ريب أيضا أنها تشف عن تحسن ظاهر في مركز الجبهة الديموقراطية ، وتحمل على الامل بان موقف الحزم الذي اتخذته فرنسا وبريطانيا ، ومن ورائهما امريكا ، قد يحمل العسكر الدكتاتوري على أن يتبع سياسة أكثر روية واعتدالا .

