الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 209الرجوع إلى "الثقافة"

الميدان التونسى

Share

امتد لهيب الحرب حتي شمل قطرا عربيا كان ينعم ببعض الأمن والهدوء . واليوم أصبحت أطرافه الشمالية ميدانا للقتال ، وتوشك الأطراف الجنوبية أن تصطلى بأوار الحرب أيضا . لقد كانت مرا كش والحزائر أسعد حظا من تونس . فقد دار القتال فيهما حول بعض الموانئ أياما قلائل ، ثم صدر الأمر إلي القوات الفرنسية بأن تلقى السلاح ، وإن تهادن الغزاة بل وأن تنضم إلي صفوفهم

فلم تمض أيام حتى كانت مراكش والجزائر أقطارا محتلة احتلالا عسكريا ، ولكنها لم تصبح ميادين قتال ولقد يصيبها من الشر ما يصيب الأقطار المحتلة أو المحايدة أحيانا من غارات جوية ، سيصيب معظمها الموانئ والمدن القريبة من تونس مثل بولة وقسطنطين وباجة والجزائر . ولكن بعض الشر على كل حال أهون من بعض . وفرق كبير

بين أن تتعرض بلدان محدودة لغارات متقطعة ، وبين أن تصبح البلاد ميدانا للحرب ، وما يصاحبها من التخريب والتدمير الذي يأتيها من البر والبحر والجو ..

ولقد عجب الناس _ يوم علموا بالزحف الأمريكي الهائل الذي كان من نتائجه أن احتلت الجزائر ومرا كش في بضعة أيام - كيف قلت البريطانيين والأمريكيين أن يبادروا باحتلال تونس ما دامت هي ذلك القطر العظيم الخطر ، ذو الموقع الحربي الممتاز ، الذي يمكن منه وحده مدافعة قوات المحور ثم مهاجمتها .

وليس في هذا كله موضع للعجب ، فإن ذلك الموقع الحربي الخطير نفسه ، يجعل من المستحيل أن تنال تونس بتلك السهولة التي تم بها الزحف علي مرا كش والجزائر فصقلية ، حيث المطارات واوكار الغواصات ، على بعد مائة

ميل من سواحل تونس ؛ وسردينيا لا تبعد عنها بأكثر من مائة وخمسين ميلا ، وجزيرة بفتلاريا المحصنة علي بعد سبعين ميلا ، وهذه كلها جزر إيطالية ، وبعضها أكبر جزر البحر المتوسط كله . فإذا أضفنا إلي هذه جزيرة كريت التي تحتلها قوات المحور أيضا ، أدركنا أن منطقة البحر

الأبيض المتوسط هنا ، لم تكن بالمكان الأمن ، الذي تستطيع أن تقترب منه تلك القوافل البحرية الضخمة التي حملت الجنود البريطانيين والأمريكيين إلي بلاد المغرب

إن هذه القوافل جاءت بطبيعة الحال من الغرب ، من المحيط الأطلسي ، ولم يكن بد من أن تبادر باحتلال أقرب الموانئ منها ، وهي موانئ المغرب الأقصي . وكلما توغلت تلك السفن نحو الشرق ازدادت قربا من منطقة الخطر ، ومع هذا فقد استطاعت بعض القوافل أن تصل إلي وهران والجزائر وباجة .

وهكذا لم يكن بد من أن يؤجل الزحف إلي تونس حتى يكمل احتلال مراكش والجزائر كلها . وإلي أن يتم نقل الجنود وإعداد المطارات والمستودعات على حدود الجزائر وتونس ؛ وهذا كله استغرق بضعة أسابيع . ولم

تقف ألمانيا أو حليفتها موقف المنتظر ، بل بادرت بإرسال جيش لاحتلال السواحل الفرنسية وموانئها . وقد استطاع بالتدريج أن يحتل الأقطار الداخلية أيضا في عدة جهات . ومع أن نقل الجنود بإختراق بوغاز صقلية ليس بالشئ السهل الهين ، فإنه أيضا ليس بالأمر الشاق ، إذا ذكرت

أن صقلية لا تبعد أكثر من مائة ميل من سواحل تونس ، وأن من الممكن أن تقطع السفن هذه المسافة مستترة بظلام ليل الشتاء الطويل ، واحتمال نجاتها من الهجوم في مثل هذه الحال معادل لإمكان إصابتها بطوربيد من غواصة أو مدمرة أو طائرة . وهكذا استطاع الألمان أن يحشدوا

جيشا كبيرا ، لعله يشتمل علي وحدات من أقوى وأمهر ما في الجيش الألماني كله . ولم يبق مناص من أن ينشأ في شمال تونس ميدان جديد للحرب .

لقد اخترقت جيوش الدول المتحدة حدود تونس منذ نحو شهر ، في عدة مواضع ، ولا شك في أن جميع جهات القطر التونسي علي جانب عظيم من الخطر ؛ ولكن أخطرها وأهمها بلا ريب هو الإقليم الشمالي ، حيث المدن الهامة والعمران ، وحيث عاصمة البلاد تونس ، والميناء الحربي العظيم بنزرت ، وحيث وادي نهر مجردا الآهل بالسكان ، الذي يعد محور الحياة في هذا الإقليم الشمالي من تونس .

والحرب في هذا الميدان الشمالي تختلف اختلافا كبيرا عما ألقناه في الميدان اللوبي ، فهناك الأرض صحراء أو شبيهة بالصحراء . ولا يضر الجيوش شيئا أن تمعن في الكر أو في الفر وأن تتراجع عشرات بل مئاث الأميال ، وطبيعة الأرض الصحراوية تمكن الجيوش من أن تدفع دباباتها وعجلاتها في طرق غير معبدة ولا مطروقة . والحال في الميدان التونسي بخلاف ذلك ، فالأرض من الطين ،

والمطر غزير في فصل الشتاء ، ولا تستطيع المركبات والدبابات أن تجتاز سوي الطرق الممهدة ، وإلا ألقت نفسها في وحل يشق السير فيه . وقد تقدمت القوات الأمريكية البريطانية أول الأمر بسرعة حتى احتلت ما طورة ، وهي واقعة جنوب بنزرت بنحو أربعين ميلا ؛ ولكنها لم تثبت أن أخلتها ، لكى تحتل الجهات المرتفعة

الواقعة غربها . وتقدمت في الوقت نفسه تلك الجيوش في سهل ما جردا ، حتى احتلت طبوريه ، الواقعة على نهر ما جردا إلي غرب تونس بنحو عشرين ميلا . ولكن تعديل خط القتال اقتضي التراجع نحو الجنوب علي طول نهر ما جردا إلي بلدة مجاز الباب علي بعد عشرين ميلا أخري من طبوريه . ولا شك أن هذا الوضع الجديد أصلح

الهجوم والدفاع بالنسبة للقوات البريطانية والأمريكية . لان مجاز الباب كما يدل اسمها تقع في واد منبسط تحميه من الجانبين تلال متوسطة الارتفاع .

وهكذا نري جبهة القتال في تونس قد اخذت تتكون ، و برغم قلة الأنباء نستطيع أن نتصور أنها تشتمل على طرف شمالي وجهته بنزرت ، ووسط وجهته تونس ، وجنوبي لم يتم تكوينه بعد ، وربما كانت وجهته الفيروان وسوسة

والميدان الأوسط هو فيما يبدو أهم جزء في الجبهة التونسية ، وربما برزت أنباؤه وسمت على سائر الأنباء والأرض في هذا الميدان سهلة تحيط بها بعض التلال في الجنوب على جوانب نهر ماجردا ، ثم تأخذ السهول في الاتساع ، وتختفي التلال إلا القليل . وينتهي نهر ماجردا إلي الطرف الشمالي من خليج تونس ، ذلك الإقليم العريق الذكر ، الذي كان دائما محور الحياة في القطر التونسي كله . والذي كانت قرطاجنة تسيطر منه على بلاد المغرب والبحر المتوسط الغربي بضع قرون .

أما مدينة تونس فإنها ليست واقعة على الخليج مباشرة ، بل بينها وبينه بحيرة عرضها عشرة اميال ؟ وهي بهذا تتجنب ما تعرضت له قرطاجنة من الغارات البحرية .

ومع هذا فإن قناة قد شقت في وسط البحيرة ، لكي تصل شاطئ المدينة بالبحر العميق ، وبذلك صار من الممكن للسفن المتوسطة الحجم أن تصل إلي أرصفة تونس .

وهذه البحيرة كان يطلق عليها في العهد العربي اسم

بحيرة رادس ، وميناؤها مرسي رادس . ولعل مرسى رادوس هذا هو الذي ندعوه اليوم جولت ولا يزال هذا المرفأ تستخدمه السفن الكبيرة إلي اليوم ، وهو بمثابة الميناء الخارجي لتونس .

ولا شك في أن إقليم تونس أهم نواحي القطر كلها لعمرانه ، وسهولة اتصاله بسائر أجزاء القطر ، ولموقعه الممتاز بالنسبة إلي مضيق صقلية . وإذا استطاعت القوات الأمريكية والبريطانية أن تستولي عليه أمكنها أن تعزل قوات المحور في الجهات الجنوبية ، وأن تبسط نفوذها على شبه الجزيرة الواقع شرق خليج تونس ، وهي التي تنتهي برأس بون المشرف على مضيق صقلية

أما الطرف الشمالي من الجبهة الجنوبية ، فإن وجهته ميناء بنزرت ؛ وهو ذلك المرفأ الطبيعي العجيب ، الذي يوشك أن يضارع تونس أو يبتزها ، لولا موقعه المتطرف نحو الشمال . ولميناء بنزرت بحيرة ، كما لتونس بحيرة ، ولكن هذا التشابه سطحي صرف ، فإن بحيرة تونس صغيرة

ضحلة ، وبحيرة بنزرت عميقة واسعة ، تستطيع أن تأوي إليها السفن الكبيرة . ومدينة تونس تجعل البحيرة فيما بينها وبين البحر ، أما بنزرت فإنها تقع على البحر مباشرة ، كأنها تحمى الطريق إلي البحيرة ، ولذلك فإنها الميناء الذي

كونته الطبقة ليكون ميناء حربيا بحريا تأوي إليه الأساطيل ، فتجد في داخل اليابس بعيدا عن البحر وأخطاره مساحة واسعة من ماء البحر تأوي إليها ! والوصول إلي هذا المرفأ الداخلي الآمن بواسطة قناة طبيعية ضيقة يسهل الدفاع عنها .

وليس في البحر الأبيض المتوسط كله ظروف طبيعية عجيبة كونت ميناء طبيعيا داخلا في اليابس كما هي الحال

في ميناء بنزرت ، التي أصبحت أهم ميناء حربي في بلاد المغرب ومن أجل حيازتها أو الدفاع عنها لابد أن تبذل جهود شاقة عنيفة في هذا الطرف الشمالي من الجبهة التونسية .

أما الطرف الجنوبي للجبهة فإنه لا يزال في دور التكوين ، ونظرا لبعده عن قواعد الفريقين لم تحشد فيه بعد جيوش كبيرة . و قوات المحرر تحتل السواحل كلها فيما يبدو ، ولكن ليس لها فيها وحدات كبيرة أما الدول المتحدة فقد احتلت الحدود الغربية وأخذت تتقدم نحو الشرق ، في

طريق يمتد من خمسة إلي القيروان وسوسة . ولكن ليس لدينا أنباء موثوق بها نستطيع أن نقرر بموجبها مدي تقدم أحد الفريقين .

وهنالك من يظن أن الميدان التونسي الجنوبي سيتصل قريبا بالميدان الطرابلسى ؛ وذلك لأن الزحف على

بلاد المغرب ، وضرورة المبادرة بإرسال جميع الإمدادات التي في متناول المحور إلي تونس ، قد جعل من الصعب امداد القوات المحورية في طرابلس بما تحتاجه من العتاد والذخيرة لمواجهة الجيش الثامن . وهذا الفريق يري إن جيش المحور قد يفضل أن يخلي طرابلس كلها ، وان

يعتصم بالإقليم الجنوبي من تونس ، وعلى فرض صحة هذا التنبؤ ، فإن هذه الحال ستؤدي إلي فتح ميدان جديد في أقصى الطرف الجنوبي من بلاد تونس . وهنالك موقع حربي ملائم لمقاومة الجيوش الزاحفة من طرابلس ، وهو مدينة قابس ، الواقعة في الطرف الجنوبي من الخليج المسمى باسمها .

إن تونس الجنوبية تختلف كثيرا عن تونس الشمالية ،

ففي الجنوب يغلب الجفاف ويقل المطر ، وتكثر القيافي والرمال الصحراوية . ولكن قابس نفسها تختلف عن هذا كل الاختلاف ، لأنها عبارة عن واحة عظيمة على ساحل البحر ، ذات نخل كثير وزروع ناضرة ، ومياه غزيرة ، وهي تحتل مجازا ضيقا ما بين البحر من جهة وشط

الجريد من جهة أخري ؛ وهذا الشط تغطيه طبقات من الملح تحتها مياه وطين ، ولا يصلح لأن تجتازه الجيوش الحديثة ، فهي خير مكان تستطيع منه قوة صغيرة أن تدافع جيشا أكبر منها .

ولكن مثل هذا التطور سيستغرق من غير شك زمنا طويلا .. وستكون له على كل حال أهمية ثانوية إذا سارت الحوادث في الشمال بقوة وسرعة

اشترك في نشرتنا البريدية