الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 217الرجوع إلى "الثقافة"

الميدان الروسى، بين المد والجزر, الميدان الروسي بين المد والجزر

Share

يتألف الميدان الروسي من سهل عظيم واسع , أطرافه الشمالية مشرفة على البحر القطبي ، وأطرافه الجنوبية تمتد إلي البحر الأسود وجبال القوقاز ، وبين الطرفين مسافة لا تقل عن ثلاثة آلاف من الكيلو مترات ، وليس في هذه المساحة كلها جبال أو مرتفعات عالية ، بل أرض سهلة واطئة ، يتخللها قليل من الكثبان والتلال . فهو إذن ميدان خال من العقبات الجبلية خلوا تاما ، اللهم إلا في أطرافه الجنوبية .

ولكن ليس معنى هذا أنه ميدان سهل ، أو أنه خال من كل صعوبة ، بل هنالك صعوبات ، لا نستطيع أن نصدق أنـها كانت مجهولة لقيادة محكمة دقيقة ، مثل قيادة الحكومة الألمانية ، وهي كما نعرف مزودة بجيش

هائل من الخبراء في كل علم وفن ، ولم تكن تقدم على عمل جليل ، إلا بعد أن يوزن ميزان دقيق ؛ ولقد شاهدنا هذه الدقة البالغة ، في الإغارة على نروج ودنمارك في ابريل عام ١٩4٠ ، وعلي بلجيكا وهولندا وفرنسا في مايو من ذلك العام ، وفي الاغارة هي البلقان في ربيع العام التالي ؛ وكانت كل خطة محكمة مدبرة أدق تدبير ، وموقوته بالموعد الملائم ، وكانت دائماً تكلل بالنجاح التام ويعقد للجيش الألماني لواء النصر في زمن وجيز لا يتجاوز الأسابيع . . . ثم كانت جميعا حروبا خاطفة من الطراز الذي برع فيه الألمان ، وأحكموا خططه وأعدوا له عدته ، وأتقنوه إتقانا باهرا . وكانت الجيوش العظيمة تتحرك بدقة تنم عن مران محكم طويل ، جعلها بمثابة الآلات

التي تحركها يد القائد ، فتندفع في الطريق التي رسمت لها تماما ، ولا تحيد عنها قيد الشعرة ، ولا تلبث أن تتم دورتـها وتبلغ المرمي الذي وجهت إليه . بمثل هذا الإتقان الشديد غزيت بولنده ، ودانماركه ونروج ، وهولنده وبلجيكا وفرنسا ، ويوجوسلافيا واليونان ؛ وبمثل هذه السرعة كانت قوات رومل تزحف وتنتصر كما فعلت في ابريل سنة ١٦٤١ ، وفي يونيو من العام التالي .

ولكن هذه الآلة المحكمة الدقيقة ، لم تعمل في روسيا بدقتها المعهودة ، وبدلا من أن تتم دورتها في أسابيع أو أشهر ، تراها اليوم وقد مضي عليها عام وثمانية أشهر ، وهي لاتزداد إلا بعدا عن الغرض الذي تطلبه ، والنصر الذي تنشده .

إن أولى الصعوبات في الميدان الروسي سعته الهائلة التي تقدر بآلاف الكيلو مترات ، فقد كانت الانتصارات النازية من قبل مقصورة علي ميادين صغيرة جدا إذا قيست إلي هذا الميدان العظيم ؛ ولا يمكن أن يقال إن القيادة الألمانية لم تكن تفطن لهذه الحقيقة الأولية ، وهي التي تعمدت أن تزيد هذا الميدان اتساعا ، بأن اقحمت معها فنلنده في هذه الحرب ، فوسعت الميدان بنحو الثلث ، وهذه السعة الهائلة تتطلب جيوشاً جرارة . فنحن اليوم لسنا في عهد نابليون الذي أغار علي روسيا بستمائة ألف من الجند ، وكان مع هذا يدعو جيشه بالجيش الأعظم ، وكان يقوده في ميدان محدود ؛ أما اليوم فإن الميدان يتناول كل قطعة من الأرض تقع بين بلاد الفريقين المتحاربين ، وأقل تقصير في نقطة واحدة من هذا الميدان العظيم ، قد تعود على الجيش كله . في الميدان كله ، بالوبال والهزيمة الساحقة .

وقد تعمدت ألمانيا أن تجعل الميدان الروسي ميدانا واسعا عظيما ، ولا شك أنـها كانت تدرك أن هذا يستلزم قوات وجيوشاً عظيمة في كل جزء من أجزائه .

والصعوبة الثانية في الميدان الروسي ، هي عمقه العظيم وبعد غوره ، فإن غزو البلقان كان ينتهي إلي البحر المتوسط ، وغزو دول غربي أوربا كان يفضي إلي المحيط الأطلسي ، وبحر الشمال ، وغزو بولنده انتهي بتقسيمها بين ألمانيا وروسيا ، وبينهما في ذلك الوقت معاهدة صداقة و "عدم اعتداء " ؛ أما في روسيا ، فإن الميدان عميق بعيد الغور , ولابد من قطع ألف كيلومتر قبل الوصول إلي موسكو ، وعلى فرض بلوغها والاستيلاء عليها ، يظل وراء موسكو آلاف أخري من الكيلومترات ، وبين حدود بولنده وأرض القوقاز ذات البترول الغزير مسافة الفين من الكيلومترات .

ولكن هذه المسافات البعيدة ، قد تهون إذا كانت الجيوش التي تقابل الغزاة قليلة العدد ضعيفة العدة . وهذه هي الصعوبة الثالثة التي لم تقدرها القيادة الألمانية قدرها . وفي هذا الأمر بوجه خاص كان الميدان الروسي يختلف كل الاختلاف عن كل ميدان آخر غزاه الألمان . فلقد كانت الدول التي أغارت عليها ألمانيا ضعيفة جداً بالقياس إليها ، وكانت ألمانيا تعرف هذا الضعف معرفة تامة . وكانت تقدم على كل عمل حربي وهي واثقة من نصر باهر سريع . وهي من غير شك أقدمت على حرب روسيا وهي تظن أنها ستغزو أمة ليست بأحسن عدة ولا استعداداً من الدول التي تغلبت عليها من قبل . وقد اعترف أحد قادتها في الشهر الماضي بأن روسيا قد ارتكبت أكبر خديعة في التاريخ لإخفاء قوتها الحقيقية ، وذلك بأن سمحت لفلنده بأن تنال انتصارات سهلة رخيصة على الجيش الروسي في شتاء عام ١٩٤٠ ، فأوهمت الناس أن الجيش الروسي قوة غير ذات خطر ، وأنه لن يستطيع الثبات أمام قوة حديثة بارعة العدة عظيمة العدد كقوة الجيش الألماني المظفر .

وسواء أكانت الحرب الفلندية خديعة أم لم تكن ، فإن العبارة التى فاه بها القائد تنطوي علي فكرة عجيبة ،

وهي أن من الشروط الأساسية لإشهار الحرب أن يكون العدو ضعيفاً والنصر محققاً . فالحروب في عصر هذه الحضارة العظيمة التي نعيش في ظلها ، لا تشهر من أجل حق يطلب ، أو أذي يدفع ، أو شرف يثأر له ؛ بل لأن هنالك أرضاً عظيمة أو غير عظيمة ، لا يستطيع أصحابها الدفاع عنها .

ومع ذلك فقد ذكرت أسباب رسمية للإغارة على روسيا ، لم نذكر فيها بترول القوقاز ولا قمح  أوكرانيا ، بل أعلنت القيادة الألمانية في صيف عام ١٩٤١ انها تغزو روسيا لأسباب كثيرة ، أهمها أن روسيا  - وبينها وبين ألمانيا معاهدة صداقة وعدم اعتداء _ لم تكتف بالحصول على نصف بولنده ، بل بسطت نفوذها على دول البحر البلطي ، ثم استولت على بـــــارايـــــا ، وعضدت يوجوسلافيا سراً في مقاومتها لألمانيا . وأخيراً ولعله أهم الأسباب - أن ألمانيا لا تستطيع أن تشرع في غزو بريطانيا ، حتى تؤمن ظهرها بالتغلب على روسيا ، ولهذا اتخذت موقف الدفاع في الغرب ، والهجوم في الشرق .

هذه هي الأسباب الرسمية للحملة الروسية ؛ وليس بينها كلمة واحدة عن السبب الذي ذكره مارشال جورنج في نهاية الشهر الماضي ، وهو أن ألمانيا كانت تظن أن محاربة روسيا ستنتهي بفوز حاسم وسريع . ومع هذا فإن ألمانيا لم تدخر وسعاً منذ بدء الحكم النازي ، في إعلان روسيا بأن مثل هذه الحرب خطب لا مفر منه ، وأن النازية شعارها العداء الصريح للدولة الروسية . وكان زعيم ألمانيا لا يترك لحظة تمضي دون أن يعلن للعالم أجمع عداء أمته لروسيا ،

وحاول جهده أن يكسب في هذا العداء أمواتًا وأنصاراً في كل قطر من الأقطار . وألف الميثاق الشهير ضد الشيوعية ، وقوام هذا الميثاق دولة إيطاليا واليابان وألمانيا .

وبرغم هذا كله فإن ألمانيا مدت يدها بمعاهدة الصداقة وعدم الاعتداء ، وتم التحالف بين الخصمين اللدودين في ٢٢ أغسطس سنة ١٩٣٩ . وتظاهر كل من الطرفين بأن ليس بينهما شئ يدعو إلي الخصام .

ومضت ألمانيا بعد ذلك في حربها مع بولنده وبريطانيا وفرنسا ومضت روسيا في استعدادها لليوم العصيب الذي لم يكن يد من أن يحل بها قريبا أو بعيداً . وفي ٢٠ يونيو سنة ١٩٤١ هجمت الجيوش الألمانية علي أرض روسيا وبدأت زحفها الهائل ، بعد أن تزودت بعدد من الأنصار والحلفاء من الدول الصغيرة ، مثل رومانيا وهنجاريا وفنلنده .

لقد بدأت ألمانيا غزوها في نفس الوقت الذي بدأ فيه نابليون زحفه الشهير في عام ١٨١٢ ، وقد أجمع المؤرخون على أن نابليون قد بدأ زحفه متأخراً بالنسبة إلى موسم الحرب في ميدان كالميدان الروسي . وقد تأخرت ألمانيا أيضا في زحفها ، لان جيشها كان مشغولا من قبل بالمراحل الأخيرة

من حملة البلقان ، فبدأ غزوه متأخراً . وقد دلت قلة استعداد الجيوش الألمانية لحرب الشتاء أنها كانت ترجوا أن يتم لها الفوز قبل أن يحل الشتاء .

وأخذت الجيوش الألمانية تتقدم بسرعة في اتجاهات ثلاثة : أولها تفضي إلي كيف وأكرانيا ، ومن ورائهما القوقاز ؛ والثانية تتجه رأساً إلي العاصمة في موسكو ، والثالثة وجهتها العاصمة الشمالية في لننجراد . ومضت الجيوش الألمانية نحو هذه الأهداف الثلاثة ، وهي تتقدم باطراد ، ولكنها لم تحز انتصارات سهلة رخيصة ، كالتي ألفها الجيش الألماني واعتادها ؛ وحسبنا أن نذكر أن الجيوش النازية وقفت أمام عقبة واحدة ، وهي سمولنسك بضعة أسابيع قبل أن تتمكن من اجتيازها والتغلب عليها . وفي نهاية الصيف ، في الأيام الأولى من شهر أكتوبر ، كانت الجيوش الألمانية قد اقتربت جدا من أهدافها الثلاثة ، ولكنها لم تصل إليها ، فوقفت علي أبواب القوقاز بالاستيلاء علي رستوف ، وتوقفت أمام موسكو علي بعد خمسين أو ستين كيلومتراً منها . وأحاطت بلننجراد ولكنها لم تستول عليها . . وجاء الشتاء مبكرا ، كما قالت لنا القيادة الألمانية مراراً ، وبدأ الجزر ، بعد أن بلغ المد أقصي مداه ، وتراجع الألمان أمام هجمات الجيش الروسي في الشتاء الأول ، فجلوا عن رستوف ، وتراجعت جيوشهم مسافات كبيرة ، ولكنها لم تصب بخسارة فادحة في الرجال أو في العدة .

ثم بدأت الحملة الثانية مبكرة في شهر مايو الماضي ؛ ورسمت لها القيادة الألمانية خطة جديدة ، فركزت كل قواها الهجومية في ميدان واحد دون سواه ، وهو الميدان الجنوبي الذي يوصل إلي القوقاز ، ومن وراء القوقاز إلي إيران والعراق ، في طريق يستحق أن يدعي طريق البترول ؛ ركزت ألمانيا جل جهودها في هذا الميدان ,

وبغيتها منه أن تضرب عدة عصافير بحجر واحد وبلغت فيه إلي مدى بعيد ، واتجه الهجوم في طريقين ، أحدهما نحو الشرق ، وهو الذي بلغ ستالينجراد ، والآخر نحو الجنوب في صميم بلاد القوفاز الشمالية ، واستطاعت الجيوش الألمانية أن تصل إلي آبار البترول في مايكوب ، وأن تستولي على إقليم نهر كوبان ، وأن تتعمق في السفوح الشمالية لجبال القوقاز . وكان الشتاء رفيقا بالجيوش الألمانية هذا العام ، فبدأ متأخرا ، وبرغم هذا لم تستطع ألمانيا أن تتم استيلاءها على ستالينجراد ، وبدأ الهجوم الروسي في هذا الشتاء الثاني ، قبل أن يحقق الهجوم الألماني جميع أغراضه .

وقد كان الروس أكثر توفيقا في هذا الشتاء ، فاستطاعوا أن يقضوا على جيش ألماني كامل في ستالينجراد وهو من خيرة الجيوش الألمانية ، و أكثرها مرانا واحسنها عدة ، ولم تبادر ألمانيا بالتراجع عن ستالينجراد ، وإخلاء القوفاز ، لأنها من غير شك لم تكن تحسب أن الهجوم الروسي سيكون قويا عنيفا بالدرجة التي ظهر بها . وفوق هذا فمن الجائر أن بقاء الجيش السادس في ستالينجراد كان ضروريا للقيادة الألمانية ، لكي يؤخر تقدم جيوش السوفييت ، وبرغم هذا فقد مضت القوات الروسية في زحفها بسرعة غير معهودة ، فاستطاعت أن تواصل تقدمها تاركة أمر ستالينجراد للزمن ، وتقدمت في القوقار حتي وصلت إلي شواطئ البحر الأسود ، وقطعت على الجيش الألماني فيه خط الرجعة ، بحيث لم يبق أمامه وسيلة للخروج من القوقاز إلا عن طريق بوغاز كرش على جزيرة القرم .

وقد أحس الألمان فداحة الخطب ، وأعلنوا حدادهم على الجيش السادس ، وبدلوا قليلا من خططهم الحربية ،

( البقية علي صفحة ٢٣ )

(بقية المنشور علي الصفحة الأولى )

فلم يتمسكوا بروستوف وخار كوف كما تشبثوا بستالينجراد . بل بادروا إلى إخلائهما قبل أن تحدق بهما القوات الروسية تماماً وهكذا يكون الألمان قد تراجعوا في هذا الشتاء أكثر مما تراجعوا في الشتاء الماضي . وقد سقطت مدينة خاركوف مع أنها ثبتت للهجوم الروسي السابق ، وبقيت في أيدي الألمان .

وتقدم الروس في هذا الشتاء بسرعة عظيمة . فإن المسافة بين ستالينجراد وخار كوف تبلغ سبعمائه من الكيلو مترات ، ولا يزال في الشتاء الروسي بقية تبلغ في الميدان الجنوبي نحو شهر من الزمن ، وبعد ذلك يذوب الجليد وتمتلئ الأرض طينا ومستنقعات ، وتـهدأ الحرب فترة ، حتى يحل الصيف الثالث ، ويدخل هذا الميدان في دورة جديدة .

اشترك في نشرتنا البريدية