الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 163الرجوع إلى "الثقافة"

النار !

Share

كان الجو باردا قارسا ، وكان الهواء عاصفا قاصفا . وكان الليل مظلما حالكا ؛ فأويت إلي بيتى و كأنى لا أجد جسمى ، وخلعت ملابس التكلف وليست ملابس البساطة ، وفرحت بالنار الموقدة في حجرتي ، والجو الهادئ حولي ؛ فكل شئ يحيط بي نائم ، وأنا والنار وحدنا يقظان .

جلست بجوارها أتأمل صنيعها ، واستمليها معانيها

يعجبني فيك - ايتها النار - ميلك إلي السمو وإنما ، يلعب بك الهواء في نواحيك ، فتقاومين وتعارضين ، وقد يتغلب عليك الحين بعد الحين ، ولكن لا تملين ولا تخضعين ، حتى يمل هو فيسكن ، وتستمرين في تساميك أبدا ، وفي تعاليك دائما ؛ فتباً لمن يخضع لأول عاصفة ، ويطأطي رأسه لأول صدمة

قوية قوة لا نهاية لها ، لا تلمسين شيئا حتى تأكليه وتخضعيه لأمرك ، وتحلليه إلى شئ واحد مهما اختلفت أنواعه - جماد كان أو حيوانا أو نباتا ، عظيما أو حقيرا ، جميلا أو قبيحا - إلي رماد ، إلي هباء ، إلي فناء تحلليه بحرارتك ، وتهضمينه بقوتك ، ثم تتركينه باردا برود الموتى . أين منك مخالب الأسد ؟ وأين منك أنياب الأفاعي السامة ؟ وأين منك الريح العاتية ترمى ولا تغني . وتقتلع ولا تبتلع ؟ لولا أن رأينا أفاعيلك قبل ان نعقل لجن جنوننا لرؤيتك وأخذنا العجب كل العجب لقدرتك .

عجب المجوس لقدرتها فعبدوها وألهوها ، واستدل الموحدون بعظمتها على عظمة خالقها ، وامتن الله بها على

عباده ، فقال : " الذي جعل لكم من الشجر الاخضر ناراً فاذا أنتم منه توقدون "

اشتق العرب أقوي فترة من العمر من صفاتك ، فسموا الشباب من شبوبك ، ووصفوا التهاب الشعور من التهابك ، وقالوا ضرام الحب من ضرامك . واندلع لهيب الثورة من لهيبك . وكما استعاروا صفات القوة من قوتك ، استعاروا صفات الضعف لغيابك ، فقالوا : انطفأت شعلته إذا مات ، تشبيها بانطفائك ، وهمدت قوته وخمدت ، من همودك وخمودك .

وكما عبدك المجوس جعلك العرب أعظم مفاخرهم وأشهر مآثرهم ، فرفعوك للسفر ولمن يلتمس القرى ، وكلما كان موضعك ارفع كانوا بك أفخر ، فقال شاعرهم :

له ثار تشب بكل ربع  .. إذا الظلماء جلت القسناها

وما إن كان أكثرهم سواما .. ولكن كان أرحبهم ذراعها

ومثل ذلك كثير لا يحصيه عد

لقد أبت الشمس أن تنزل من سمائها ، وتتنازل عن عليائها ، فأنايتك في الأرض عنها ، ومنحتك أعظم صفاتها ، وهي الضوء والحرارة والقوة ، فضوءك من ضوئها ، وحرارتك من جنس حرارتها ، وقوتك بعض قوتها ، وكأنك تبرهنين على ولائك لها ، فتميلين دائما للصعود إليها ! تستطيعين أن تمزقي الظلام ، فتكونين آية الليل كما كانت أمك آية النهار ، وتستطيعين أن تقهري البرودة ، وتبعثي الدفء إذا غابت أمك ، وتستطيعين أن تبعثي الحياة بحرارتك . وهل الحياة إلا حرارة ؟ وهل الموت إلا برودة ؟

ثم أنت بقوتك نفاعة إلي أشد حدود النفع ، ضرارة إلي أشد حدود الضرر . فيك الحياة وفيك الموت هأنذا استدفئ بك واحذر القرب منك ، وهذا الاكل تنضجينه وتحرقينه . وهذا القطار تسيرينه وتمزقينه

عد الانسان اكتشافه لك أجل شئ في حياته وأعظم حادثة في تاريخه ، لا يستغني عنك بدوي في بداوته . ولا حضري في حضارته . عرفت المدنية الحديثة طرق استغلالك فقفزت في تقدمها ، واتخذتك أكبر وسائلها في بنائها وهدمها ، وبؤسها ونعيمها ، ورفاهيتها وعذابها وسلمها وحربها . وهل بنيت المدينة إلا علي الحديد والنار : ومهما اختلفت الأسماء التي وضعوها لك من فحم وبنزين وغيرهما فأنت انت التي صيغت من ضوء وحرارة

لقد كنا نحن وأرضنا وما حولنا جذوة منك ، فلما بردت قشرتها دبت الحياة فيها وظل باطنها شعلة منك ، تنبئ بأصلها وتدل على تاريخها ، ومن أجل ذلك كان كل شئ حولنا إما نارا ظاهرة ، أو نارا كامنة

لك فوق جلالك وقدرتك جمال عجيب ) وقل أن يجتمع الجلال والجمال والقوة في شئ كما اجتمعت فيك ، أدرك الرضيع جمالك فناغاك وشدت عيناه إلى مرآك ، وارتبط جمال الليل بجمال ثرياك ، واجتمع فيك سر جمال النور وجمال اللون وجمال الحركة وجمال القوة وجمال الوداعة . تهدئين فتكونين شمعة ، وتثورين فتكونين بركانا ، وقد أنصف العرب إذ سموك " النار " قريبا من "النور" لقرب حقيقتك من حقيقته ، وجمالك من جماله .

ثم هاهي النار من أكثر ما في الوجود إيحاء وإلهاما فلأمر ما ارتبطت النار في حياة موسي بنور الوحي

" إذ رأي نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا . لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى . فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى " و لامر ما كانت النار معجزة إبراهيم " يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " ) ولأمر ما عظمها

اليهود وقالوا : إنها تأكل قربان المخلص ولا تأكل قربان النغل . ثم هي والجنة عدلان تلعب عليهما عواطف الإنسان من خوف ورجاء ورغبة ورهبة ؛ وبفضلها لم تجد تعبيرا خيرا من حرارة الإيمان وحرارة العواطف وحرارة القلب . ولو انعدمت حرارة الإيمان لكان إيمانا جافا ، ولو انعدمت حرارة العواطف لتجمدت وماتت ، ولو انعدمت حرارة القلب لكان حجرا إنما يقوم الشاعر  بحرارة شعره ،

والخطيب بحرارة قوله ، والأمة بالتهاب وطنيتها ، ولا فرق بين الموت والحياة إلا الحرارة . وإذا أظلمت النفس فما أحوجها إلى لمعة كلمة البرق تضئ جوانبها ، وإذا برد القلب فلا يحييه إلا قبس من نار يلهب شعوره ، وإذا جمدت عواطف امة فليس إلا النار والعذاب يحيي مشاعرها ، ويبعث وجدانها

لم يجد العاشق - أيتها النار - تعبيرا صادقا هما يجد إلا النار ترعي فؤاده ، والنار تحرق كبده ، والنار تكوي قلبه

ولم يجد الصوفي خيرا منك ومن النور ولد منهما معاني عجبا .

وهنا أحسست أن جسمي أخذ حظه من الدفء ، ورأسي كأنه شعلة نار من التفكير في النار ، فأطفأت نارها وأطفأت رأسي وقلت : إلي مخدعي

اشترك في نشرتنا البريدية