الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 164الرجوع إلى "الثقافة"

الناقوس والمدفع

Share

رب سائل يقول : ما هى العلاقة التى تربط الناقوس بالمدفع وكلاهما على طرفى نقيض ، يدق الاول فتسرى رناته الموسيقية العميقة رمزا للمودة والمحبة داعية بعض الناس للصلاة والعبادة - ويدوى صوت الثانى فتهلع له الأفئدة ، وتنطلق منه القدائف تحمل فى طياتها الموت والدمار ، فلا تصادف شيئا إلا أهلكته ؟

وتفسير تلك العلاقة هى أنه كما أن الناس من معدن واحد ومع ذلك يتفاوتون فيما تقدم أيديهم من أعمال ، كذلك الناقوس والمدفع من معدن واحد ، وإن تباينا فى رسالتيهما .

فمعدن النواقيس ومعدن المدافع يتكونان أساسيا من النحاس ، مضافا إليه القصدير بنسب مختلفة ؛ وينتج من خلط هذين المعدنين جملة سبائك يمكن تقسيمها وفقا

لخصائصها إلى قسمين : الأول ويشمل السبائك التى تكون أظهر خصائصها متفقة إلى حد كبير مع خصائص مركبها ، ويشمل القسم الثانى السبائك التى تكون خصائصها مختلفة تمام الاختلاف عن خصائص المعدنين المركبة منهما ، ومن هذا القسم الأخير السبائك المعروفة بمعدن النواقيس ومعدن المدافع .

والقصدير بطبيعته معدن ضعيف طرى بنصهر بسهولة ، ولونه قريب من البياض ، بينها النحاس قوى وصلب نسبيا ، ولونه قريب من الحمرة ، فبإضافة القصدير إلى النحاس بنسب متزايدة تحصل على عدد كبير من السبائك لكل منها خصائصه المختلفة عن خصائص الآخر .

فبإضافة 5% من القصدير إلى النحاس تنتج سبيكة صلبة قوية محتفظة ببعض لون النحاس ولكنها أصلب منه ويمكن سحبها أو تشكيلها بالضغط ، ولذلك فهى تصلح لعمل المداليات والنقود - وباضافة 5% أخرى من

القصدير نحصل على سبيكة أكثر صلابة من الأولى حتى إنه لا بد من صبها ولونها أصفر فاقع ، وهى التى كانت تستعمل قديما فى صنع المدافع ؛ وإذا كانت نسبة القصدير المضافة للنحاس ١٦ % حصلنا على السبيكة المستعملة فى صنع الأجراس الصغيرة ذات الرنين الموسيقى اللطيف وكلما زدنا نسبة القصدير بعد ذلك زاد الصوت عمقا إلى أن نصل إلى النسبة العظمى وهى ٢٤% التى تستعمل سبيكتها فى صنع النواقيس الكبيرة .

فمما سبق ذكره يتضح لنا قرب الصلة بين الناقوس والمدفع ، وبسبب هذه الصلة كانت النواقيس تؤخذ ضمن الغنائم الحربية ، وذلك لتكسيرها وصهرها لصنع المدافع وغيرها من الذخائر الحربية أو العكس .

وأشهر ما حدث من هذا القبيل كان خلال الحرب العالمية السابقة ؛ فقد أمرت الحكومة النمساوية بصهر ناقوس كنيسة سانت ستيفان الضخم الذى يرجع تاريخ صبه إلى عام ١٧١٠ أيام حكم الامبراطور جوزيف الأول ، وقد صب هذا الناقوس من معدن ١٨٠ مدفعا تبلغ زمنها ١٨ طنا تقريبا كانت قد غنمت من الأتراك .

وفي عام ١٨٧٤ وضع في كاتدرائية كولونيا ناقوس ضخم يزن حوالى ٢٥ طنا واطلق عليه اسم ( ناقوس القيصر ) وكان قد صب من مدافع فرنسية غنمت خلال الحرب الفرنسية الألمانية ، وقد نزع هذا الناقوس أيضا خلال حرب ١٩١4 ١٩١8 وصهر لصنع ذخائر لاستعمالها ضد الفرنسيين ، فتمت بذلك المهزلة ؛ فبعد أن كانت فى الأصل مدافع فرنسية تحصد الالمان تحولت إلى ناقوس يدعو للسلام والصلاح ، ثم انقلبت فأضحت أسلحة قاسية تفتك بالفرنسيين .

وفي بلدة بمقاطعة يوركشير بإنجلترا سلسلة مكونة من ثمانية نواقيس صبت من مدافع وقد نقش على أحدها هذه الكلمات :

" هذه النواقيس الثمانية قد صبت فى عامي ١٨١٤ ، ١٨١٥ من نحاس مدافع غنمت فى معركة جنوى " .

وفى أوائل الحرب العظمى الماضية نزع الروسيون عدة مئات من النواقيس من منطقة الحرب ، وكذلك كانت الكنائس فى بلجيكا وفرنسا تعانى كثيرا من فقد نواقيسها ونزع الألمان عدة نواقيس من كنائس جوتلاند الجنوبية ، وعند ما رغبوا فى عام ١٩٢٥ فى تعويض الكنائس عن نواقيسها الضائعة أصدروا الأوامر بصهر ٦٠ مدفعا نحاسية قديمة قدمتها دار الأسلحة فى كوبنهاجن صنع منها ٤٤ ناقوسا .

ويوجد فى قرية روفيرتو بايطاليا ناقوس يطلق عليه اسم " ناقوس الموت " كان قد صب من مدافع جلبت من جميع الأمم التي اشتركت فى الحرب الماضية ، ويدق ليلا تعظيما للموتى .

ولم يكن ممكنا فى العصور الوسطى أن يتخصص صناع النواقيس فى تلك الصناعة فقط نظرا لقلة الطلب عليها ، وعلى ذلك كانوا يصبون القدور والاحواض والأجران والمدافع .

وفى عهد هنرى الثامن أصبح تصدير النواقيس أو معدنها من انجلترا يعتبر من الجرائم ، فقد أصدر قانونا هذا نصه :

Noe p'son or p'sons shoulde from " henceforthe carrye or convey any brasse, copper, laten, bellmettall, gunemettall, ne shroffe metall into anye part or parts beyonde the sea."

وترجمته كما يلي " من الآن فصاعدا غير جائز لأي شخص أو أشخاص أن يحملوا أو ينقلوا النحاس الأصفر او النحاس الأحمر أو البرونز أو معدن النواقيس أو معدن المدافع أو

النقود المعدنية إلى أى جزء أو أجزاء خارج انجلترا " .

ومن المحتمل أن الغرض من ذلك القانون كان منع الدول الأجنبية المعادية من الحصول على تلك المعادن التى قد تحولها إلى مدافع تستعمل ضد انجلترا ، خصوصا أنه كانت فى انجلترا فى ذلك الوقت كميات كبيرة من النواقيس عقب انحلال الأديار ، ولكن نظرا لسكون انجلترا كانت فى تلك الفترة تستورد كثيرا من المدافع إلى جانب ما تنتجه مسابكها منها ، فانه من الأرجح أن المقصود من ذلك

القانون توفير المعادن لصنع المدافع فى انجلترا ، حتى لا تعتمد على البلدان الأخرى . ودليلنا على ذلك أن هنرى الثامن أخذ يشجع الإنجليز على التنقيب واستخراج النحاس من أرض الجزائر البريطانية ، كما أنه استحضر كثيرا من الأخصائيين فى التعدين والصهر من القارة ، وكان من أثر هذه الجهود أنه لم تمض فترة طويلة حتى أضحت انجلترا تصدر المدافع .

وخلال القرن الخامس عشر كان المتبع فى انجلترا أن تنتج المسابك المدافع إلى جانب النواقيس ، فمسبك هوايت شايل للنواقيس الذى أسس في عام ١٥٧٠ ( ويعتبر حاليا من أشهر المسابك بإنجلترا ) كان يصب المدافع لتجهز بها سفن الملكة اليصابات الحربية تأهبا لاشتباكها بالأسطول الأسبابي (الأرمادا) .

ومن الطريف أن خبرة الصناع فى صب سبائك النواقيس كانت سببا فى تقدم صناعة المدافع النحاسية التى استعيض عنها فيما بعد بمدافع من الحديد الزهر ثم حلت محلها مدافع الصلب بأنواعه .

وفى الحرب الحالية - كما حدث فى الحرب السابقة - تحولت أكثر الصناعات فى انجلترا لانتاج الذخائر الحربية ومنها مسابك النواقيس ، ولكنها تخرج ايضا أجراسا يدوية صغيرة توزع على متطوعى الوقاية من الغارات الجوية .

وبناء على ما تقدم يمكننا تشبيه العلاقة بين الناقوس والمدفع إنسان ذي شخصيتين : فاذا كان متقمصا إحداها ألفيته عميق الصوت حلو النبرات كريم السجايا يدعو إلى التقوى والتمسك بأهداب الفضيلة أما إذا رأيته فى شخصيته الثانية فانك لا تكاد تتعرف فيه أى شئ يمت لما كنت تعهده فى الشخصية الأولى بصلة ، فقد انقلب صوته إلى قصف مرعب ، لا يتكلم إلا ويلفظ شرا وشررا ، ولا يعمل إلا على سفك الدماء وتخريب الديار وكثيرة هى أمثلة ازدواج الشخصية فى بنى الانسان ، فلا غرابة إذا وجدناها فى المعادن أيضا وهى جزء من الكائنات .

اشترك في نشرتنا البريدية