الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 65الرجوع إلى "الرسالة"

الناي السحرية (1)، The Magic Flute

Share

حين قدم موزار Mozart (١٧٥٦ - ١٧٩١) الناي - السحرية للجمهور لم تلق ما تستحق من نجاح. ويقال إن مدير  الجوقة الموسيقية لأول مرة ظهرت فيها الناي السحرية، وبعد أن  هدأت عاصفة التهليل، تسلل إلى موزار وكان يشرف على  الإخراج، وقبل يده، فربت موزار على رأسه، لنا أن نذهب  من ذلك إلى أن المدير قد فهم ما عنته الموسيقى، وان موزار أدرك أن  المدير قد فهمها. كلاهما لم يستطع وضعها في كلمات رواية غنائية  libretto وهي في الواقع لم تكن مثبتة في كلمات؛ وما كانت كلمات  الرواية الغنائية لتحول دون إدراك المعاني الموسيقية لو لم يتساءل  النظارة عن معاني تلك الكلمات. لقد نجحت الناي السحرية - بعد موت موزار؛ وسبب هذا النجاح ولا شك أن النظارة لم  يعودوا يتساءلون عن معاني كلمات الرواية libretto وأدركوا شيئا  من معاني الموسيقى

كلمات الناي السحرية هي عناوين لموضوعات ضخمة، ونحن  نمر خلالها بسرعة إلى موسيقى بابا كينو Papageno الواضحة،  ولكنا سوف نضيع ذلك الوضوح إن نحن سعينا إليه عن طريق  الكلمات أو نشدنا موضوع الرواية في هذه الكلمات. إن  حوادث الرواية ليس لها ارتباط بالكلمات بعضها ببعض، كما  أن منطق الرواية كله في الموسيقى التي تخلق عالما تقع فيه  الحوادث عفوا، عالما تصدر فيه النغمة عن أختها أو تنعكس عنها  كما تنعكس قوى الطبيعة أو أفكار الرجل؛ هذا العالم هو الكون  كما يراه موزار، والرواية بكاملها هي إيضاح لايمانه الخاص. وعلى  هذا فهي بذاتها عمل ديني وان كانت سليمة مما نجده في الدين  من مسائل مبهمة وورع جبان. لقد عاش موزار في هذا العالم

الروايات الغنائية وبطلاتها في كل عصر ومصر، بلى قد لا تنتسب  ثيابهما لعالم الحقيقة أو الفن، وقد تعرض نماذج مصطنعة ومنمقة،  ولكن الموسيقى تلطف من ذلك وتساعد كل شخص على أن  يقوم بدوره أحسن قيام. من الواضح أن موسيقى الناي السحرية  تجلب السرور وتوافق أولئك الذين ينشدونها فإذا بهم كأنهم  يقومون بعمل ديني اكثر مما لو كانوا يقومون بعمل مسرحي،  وأنك اكثر ما تشعر بذلك عند انسجام الأنغام حينما يتراءى  لك أن ريح الفردوس تهب على جميع المغنين فيتمايلون لها تمايل  الأزهار بالرغم من ثيابهم الكثيفة. ولكن الناي السحرية  مفتقرة إلى عالم متجانس في النظر كما هو متجانس في السمع حتى  تظهر بمظهر كامل مرض، ولهذا فنحن أحوج ما نكون لفترة  إصلاح تتناول كل عاداتنا المسرحية؛ نضرب لذلك مثلا  سارسترو، انه يعيش بين مناظر مصرية، على حين إن هذا العالم  المصري لا يناسب الموسيقى وهو يعني لدينا أعاجيب القاعة Hall  المصرية، ولكن هنالك عالما مفردا يناسب الموسيقى كل المناسبة،  عالما تستطيع أن تمر فيه من العبث إلى الجمال مرورا طبيعيا؛ وفيه  تكاد تكون جميع الصور متناسبة وواضحة، ذلك العالم هو العالم  الصيني كما عرفناه في الفن الصيني حيث يوجد في هذا الفن الخيال  الروحي والهزل البهي؛ حيث يوجد في هذا الفن مزيج من  طفولة وقداسة يوحي إلى العين ما تحويه موسيقى موزار إلى  الأذن؛ وفي الفن الصيني فقط يقدر بابا كينو أن يكون قديسا:  في ذلك العالم فقط تعيش روح موزار بضحكتها وحكمتها، وكأنها  في بيتها؛ في هذا العالم تساوت الأزهار وجميع الحيوانات في  الخطر مع جنس الإنسان، في هذا العالم يظهر الأفعى والثعبان  وكأن كلا منهما مصنوع من ورق مقوى؛ في هذا العالم لا يظهر  السحر انه مجرد تعاويذ؛ في هذا العالم يمكن للمرء أن يقع على  مناظر طبيعية وصور جميلة؛ وفيه لا يكون سارسترو ساحرا  مسرحيا بل كاهنا كنسيا.

في الحق إن الفن الصيني هو عالم الناي السحرية حيث تتدلى  الأجراس الفضية من كل شجرة مزهرة، وتزدحم الحدائق  بالبلابل الساحرة؛ هو عالم الحماسة والتأمل، حيث يجلس الحكيم  في السرادق في ضوء القمر، ويبتسم ابتسام عاشق، وحيث يبتسم  العشاق كالحكماء .. حيث يوحي كل شي للعين ما توحيه موسيقى

موزار للأذن. وفي العالم الصيني يمكننا أن نتجنب كل تشدق  في الغزل الشهواني اعتاد أن يلفظ به المسرح الحديث؛ كما يمكننا  أن نخضع أنانية أوربا الثقيلة للشرق المنكر لذاته.

لقد تمرس موزار بالألم، ولكنه لم ينغمس في؛ انه يعني بجمال  العالم اكثر مما يعنى بجمال نفسه؛ عنده أن الشر من عمل  الشياطين الذين تقدر الموسيقى على طرد أرواحهم

لقد كان موزار اورفيوس orpheus هذا العالم الذي يستطيع  إن نحن أصغينا إليه أن يذلل الحيوانية الكامنة فينا جميعا؛ ومع  ذلك فان أقصى وقاره ومنتهى سر جماله إنما هو في رحمته التي  وسعت كل شىء؛ وهو حين يترحم علينا أو على نفسه لا يأخذه  البكاء، يطلب إلينا أن نجفف دموعنا وأن نكون من الصالحين،  وأن نصغي لنايه السحرية.

وهذا الحنان الذي ينبعث من أصواته خلال الناي السحرية  يبعث في الناي السحرية جمالاً وهزة وعجبا، لا يمكن أن تبعثها  أية عاطفة إنسانية.

سارسترو ليس بساحر، إن هو إلا قسيس، لأن فيه حكمة  الرحمة المحببة، ولأنه خصص مكانا في فردوسه لبابا كينو ابن  الطبيعة يلهو فيه مع صاحبته بابا كينا. مرت ببابا كينو وهو في  فردوس سارسترو الموحش لحظة فكر فيها أن يشنق نفسه، لأنه  لم يجد من يشاطره الحب، ولكنه لا يكاد يضع حبل المشنقة على  عنقه حتى تسمع في الموسيقى قهقهة تنبئك انه يتململ من حبل  المشنقة؛ ولكن سرعان ما تقدم إليه بابا كيناوسرعان ما يعود إلى  الفردوس أنسه، ويأخذ الاثنان في غناء دورهما في نهاية الرواية.

نحن على يقين بان عدالة الناي السحرية قضت ببراءة ملكة  الليل؛ والزنجي البشع وجميع معاونيه؛ لم يعاقب منهم احد؛ لقد  شقوا لغير ما سبب؛ فجاءوا نادمين مستغفرين؛ وهكذا تنتصر  الناي السحرية على شرورهم وشقاواتهم، فتدق الأجراس الفضية  من كل شجرة؛ وتغني البلابل غناء يخلب الألباب، ويبتسم  الحكماء والمحبون ابتسامة الأطفال، فتدخل ابتساماتهم دخولا  طبيعيا في دين موزار المقدس؛ هذا الدين المهيب الذي تالف فيه  الابتسام والعبوس، ولم يتنافرا تنافرهما على الأرض.

شرقى الاردن

اشترك في نشرتنا البريدية