الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 296الرجوع إلى "الرسالة"

النجم الذى هوى

Share

ما كنت أحسب أن الأيام تدّخر لى هذا  النصيب الضخم من  الحسرة والحزن والالتياع

ما كنت أظن أن فى أخبار الدنيا ما يهددنى بالموت وأنا سائر فى الطريق

ما كنت أتوهم أن صدرى يملك هذه الذخيرة  من الحرص على حياة الأصدقاء

رجعت إلى بيتى عصر الخميس ولم أخرج منه إلا صباح السبت طلباً للتفرغ لبعض الأعمال فماذا رأيت حين خرجت؟

رأيت أن يوما واحداً هو يوم الجمعة كان كافياً لأن تذهب  دولة من المروءة والشرف والأريحية من عالم الفناء إلى عالم البقاء إى والله، يوم واحد كان كافياً لأن يموت فيه رجل ويدفن

وينقضى مأتمه وينفضّ من حول بيته الجازعون بحيث لم تبق فرصة لمن يريد أن يقدم إلى أهله كلمات العزاء

إى والله، فى يوم واحد ذهب الأستاذ محمد الهراوى إلى غير معاد...

فيا أخى ويا صديقى ويا كل ما كنت أملك من الصدق الصادق الصحيح، كيف تطيب الدنيا بعدك وفيها ما أعرف وما كنت تعرف من ندرة الأصدقاء الأوفياء؟

كيف تطيب الدنيا بعدك، يا محمد، وكانت حياتك العزاء،  عما فى الدنيا من بلايا وأرزاء؟

كيف تطيب الدنيا بعدك، وما تخلَّق الناس بالصدق إلا ليزاحموك، ولا عرفوا الوفاء إلا لينافسوك؟ يا محمد، وما أجمل اسمك!

لك أن تعرف فى عالم الأرواح أن إخوانك وأصفياءك سيذكرون أيامك كما يذكرون بشائر الأحلام وبواكير الأمانى

لك أن تعرف، يا محمد، أن إخوانك وأصفياءك يؤمنون بأن  فجيعتهم فيك هى فجيعة الرياض بموت البلبل الصداح، وفجيعة  القلوب بذهاب الأمان، وفجيعة الجسد بفراق الروح

أين من يعزينى فيك يا أخى ويا صديقى؟ أين من يعزينى فيك وأنا أشعر بأن الموت حين خطفك لم يوجّه الطعنة إلى صدر غير صدرى؟

أين من يعزينى فيك وأنا أومن بأن أباك لو كان عاش حتى ثكلك لما جزع عليك معشار ما جزعت عليك؟ أين من يعزينى فيك إن كان قلبى سيعرف من بعدك العزاء؟

يا محمد، وما أجمل اسمك! كيف جاز عندك أن تغمض عينيك قبل أن ترانى؟ كيف جاز عندك وأنت مثال العطف والحنان أن تفارق الدنيا قبل أن أراك؟

أكنت تعرف بوحى القلب أنك مفارق؟ كنت تعرف ذلك ولا ريب، لأنك تلهفت إلى لقائى فى أيامك الأخيرة مرات ومرات، وكنت لجهلى أحسب ذلك من أمارات  الشوق، لا من إمارات التوديع، فضيَّعتُ حظى من لقائك  وأنا آثمٌ ظلوم

ليتنى أعرف، يا محمد، كيف تشعر بعد الموت بجزعى عليك!

ليت الحجابُ يكشَف مرةً، لأعرف أن حزنى وصل إليك!

أين من يعزينى فيك يا نعيماً ذهب وأملاً ضاع؟ أين من يعزينى فيك يا روضة من الحسن عصف بأزهارها الزمان؟

أين من يعزينى فيك يا دوحةً من المجد عَدتْ على أغصانها  العوادى؟

أين من يعزينى فيك وما عرفت معنى الأخّوة إلا حين  عرفتك، ولا تذوّقتُ معنى الأنس بالأرواح إلا حين أنستُ  بروحك، ولا فطنتُ إلى ما فى الدنيا من ذخائر إلا حين فطنتُ  إلى الذخائر المودَعة فى صدرك الأمين

يا محمد، وما أجمل اسمك! أفى يوم واحد تضيع من يدى، أيها الكنز الثمين؟ أفى مثل ومضة البرق يذهب الروض الذى كنت آوى إلى ظلاله حين يلفحنى هجير العناء؟

أفي مثل لمح البصر أنظر فأرانى وحدى وكنتَ جيشاً  أحارب به الزمان؟

أفى مثل خفقة القلب ينطفئ السراج الذى كنت أستهدى به فى الملمات؟

يا محمد، وما أجمل اسمك! سيكون فى دنيانا بعدك أفراح وأحزان، وسنلقى الدنيا بعدك باسمين أو عابسين، ولكنا سنذكر أن طالت الحياة أن خفقات  القلوب من بعدك لن تكون إلا مزاحا فى مزاح.

نكذب عليك، يا محمد، إذا قلنا إننا سنجعل خفقات القلوب وقفاً على الهتاف باسمك، والشوق إليك، ولكنك ستعرف أنك  ستظل فى قلوبنا مثال الشرف والصدق، وسترانا من أهل الحرص  على التغنى بمحامدك فى أكثر الأوقات، حين يجدّ ما يوجب أن  نتطلع إلى الأصدقاء الأوفياء.

يا محمد، وما أجمل اسمك! بموتك عرفتُ أن الحزن خليقٌ بأن يكون شريعة من الشرائع

بموتك عرفت كيف يجب أن أفكر فى لقاء الرفاق الأصفياء  كل يوم.

بموتك عرفت أن فى قلبى ذخائر من الصدق والوفاء يا محمد، وما أجمل اسمك! أقسم بالله وبمودتك أن الموت كاد ينتاشنى فى الطريق حين  قرأت خبر موتك، فإن طالت حياتى بعدك فسيكون ذلك أعجوبة  من الأعاجيب، وسأقضى ما بقى من حياتى فى تحقيق الأغراض  التى كنت تحبّ أن تحققها فى حياتك

أخى وصديقى: لا أقول: (يغفر الله لك)، فقد كنت أطهر من الزهر  المطلول، وإنما أقول: (يغفر الله لمن عرفك ولم يمت لموتك) .

أما بعد، فقد كان فى نيتى أن أرثى الهراوى فى إحدى الجرائد  اليومية، ثم رأيت أن أرثيه فى (الرسالة) لأحدث عنه إخوانه فى سائر الأقطار العربية.

وسأرجع إلى الحديث عنه مرة أو مرات لأبين ما صنع هذا الفقيد العزيز فى خدمة العروبة والإسلام والإنسانية.

نفعنى الله بدعواتك، يا محمد، وحرمنى فيك العزاء، فما أحب  أن يكون لى فيك عزاء.

يا محمد، وما أجمل اسمك! أحبك وأشتاق إليك، وأحب من أجلك ذاويات الأزهار، وهاويات الكواكب، فاذكرنى عند ربك يا أصدق صاحب  وأشرف صديق. وسلامٌ عليك من صفيّك وأخيك. (مصر الجديدة)

اشترك في نشرتنا البريدية