حينا لو وقف كل إنسان من نفسه مرة في العام هذه الوقفة التي وقفتها الكاتبة من نفسها ، " الثقافة "
عشرة شهور تألت فيها الحياة ، متبوعة مسافات طويلة ، ومراحل كثيرة ، مثقلة بالأعباء والتجارب وتصاريف الأيام . واليوم وقد جاء الثمار ليقطع أعناق النخل ويضم لى محصولها السنوي من التمر ، يجب أن أناقش النفس وأن آخذ العتاد لاستقبال الشهور والمواسم الآزفة . ولقد سعيت إلي نفسى منذ ساعة ، وخلوت بها بضع دقائق ، استعرضت في غضونها تلك الشهور العشرة التي أمست الآن في ذمة التاريخ ، فعادت إلي دفعة واحدة ، ثم شهرت للقديس " بولس " عبارة ثاقبة بلغت في الحكمة حد الإعجاز . وذلك حين قال " إذ أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام ، أسعى نحو الغرض " وإننا لنقرأ في هذه الأيام ، كثيرا من الإعلانات المغرية عن وسائل ناجعة لاكتساب ذاكرة قوية ،لقاء مبلغ زهيد من النقود ، ولكن ما أحرانا لأن نسعى إلى اكتساب " ناسية" قوية ، سعينا إلى تقوية ذاكرتنا !! وإنى قد خلوت بنفسي ، أثبت فيما يلى بعض الذكريات التي تعلقها حافظتي وقلبي ، من تلك الشهور ، وأحب أن أنساها . أجل . ففي مثل هذا اليوم فرغت من الإشراف على تنظيف حديقتي الصغيرة . التى تطل عليها حجرة نومي ، ثم عمد بعض الصغار إلى شحنها بحجارة حادة قذفوا بها النخيل الباسق ، فكسروا لوحة من زجاج نافذتي ، فأبطر عبثهم حلمي واستفز طيشهم غضبى ، فلم أتمالك سخطى ، ولم أقو علي حبس لساني . . والصبية جهلة صغار ، وقد حبيت سن الحنكة والرصانة ، ومفروض أني مثقفة . . ترى ماذا ظنوا بثقافتى ووقار سنى في ذلك اليوم ! !
وأريد أن أنسى تلك الساعة التي نبهتني فيها صاحبتى ، إلى واجب لازب توانيت في أدائه . فرجوتها أن تشغل بالها بأحوالها ، وأن لا تعنى ذاتها بالدخول في شئون غيرها . . وكم أريد أن أعرف أن العجرفة التي بدرت مني في تلك الساعة ، قد تسربت من وعاء ذاكرتها ، فما من مرة ألقاها
فيها ، إلا تمثلت أمامي حماقتي بوضوح .
وذلك الصباح الذي يعود إلي ، والأسف يعتصر قلبي - ذلك الصباح الذي فقدت فيه إحدي الرفيقات والدها فاستغرقت معها في رثائه وأحجمت عن لفت أفكارها إلي الله ذي الجلال والرحمة والحنان . ورقيقتي شابة ، ليست متدينة ، وقد استحييت من التحدث إليها بحديث الدين ، حتى في ساعة افتقارها إلى ما يوحيه الدين من عزاء وسلوى وتفريج للكرب ، وتفضية من الهم ، وإطفاء لحر الأ كباد . وإني لأتوق إلى نسيان ذلك الجبن الذي ملكني يومذاك . .
والمساء الذى زارني فيه طائفة من الأخوات ، أعضاء جمعية منع المسكرات التي كنت أرأسها ، فترامي الحديث إلى ذكر صديقة غائبة بارزة ، فأمسكت بعض الإمساك عن إظهار محامدها ، وتفسير مناقبها والتنويه بصنائعها ، واتخذ الأخريات من سكوني الضنين ما شجعهن على بسط ألسنتهن فيها ، وتناول تكثرها بمجهوداتها ونشاطها ، والتشتير عليها واتهامها بالزهو والطرمذة والتنفخ . . وقد اتصل إليها ما جري في تلك الزيارة فباعدتنا جميعا ، وانفصلت عن جماعتنا ، وعن الرسالة الكريمة التى نزعم أننا نذيعها لرفع شأن الأسرة والوطن .
وهذه التي سردتها قطرة ، من بحر الذكريات التي أود أن أنساها ، والتي يجب ألا أعود إلى مثلها ، إذ أواجه عهدا جديدا وموسما جديدا ، يفسح المجال " للفرصة " ويسنح بها جديدة طنية . وقد قال القديس بولس : " فإذ حسستما ، لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع " . ترى ما الذي يعنيه بالفرصة ؛ لقد رأى في بعض المدن الإغريقية التي زارها تمثالا اسمه " الفرصة " . وللإغريق أسطورة يتناقلونها عنه . ومؤداها أن نزيلا قصد يوما إلى ذلك التمثال ، وسأله قائلا :
- ما اسمك ؟ . - اسمي " الفرصة " . - ومن الذي صنعك ؟ . - ليسبيوس . - ولماذا تقف على أصابع قدميك ؟ . - لكي أريك أنى لا أبقى غير لحظة واحدة . - ولماذا جعلوا أجنحة على قدميك ؟ . - لكي أريك كيف أمر مرا سريعا منكرا . - ولكن لماذا يطول شعرك وينسدل على جبهتك ؟ .
- لكي يمسك الناس بتلابيبي فور التقائهم بي . - ولماذا أصبح قفا رأسك أصلع ؟ . - لكي ترى أنه لا يمكن إدراكي بعد مروري .
في أنى أرغب إلى الله الكريم أن يعينني على الإفادة من تقصيراتي ونقائصى ويقوينى على نسيان الأخطاء التي توهن العزم مني ، لكي أتمكن في الشهور المقبلة من انتهاز كل فرصة - مهما تكن خاطفة - كي أعمل الخير للجميع .
