الجمال هو مادة الفن , والتأثر به هو وحى الاديب , والتعبير عنه هو رسالة الادب , سيان جمال الطبيعة والجمال الانساني ؟ واصدق مقياس لرقى الادب وحيويته حسن تعبيره عن الفتنة بهذين الضربين من الجمال , وأدق برهان على رقى المجتمع وصحة بنيته جمول ادبه بالتعبير الصادق عن الشعور الحار بفتنة الجمال فى مظهريه . والأديب الموهوب لا مندوحة له عن الاتيان بشىء جليل فى بابى الوصف الطبيعى والنسيب , مهما كان حظه من سائر ضروب القول ؛ فالجمال الطبيعى والجمال الانساني هما لباب الفن وصميمه , وما عدا ذلك نوافل وفضول
والنسيب لايزدهر إلا فى مجتمع توفرت له شروط خاصة : فى مجتمع على جانب من الثروة لا هو الى الترف ولا هو الى الفاقة ، على جانب من الخلق العظيم لا هو الى النعومة والضعف ولا هو الى الجلافة او التزمُّت , على حظ من حب المغامرة لا فانٍ فى حروب متواصلة ولاخانع قابع , فى منزلة من الحضارة والرقي العقلي بين الهمجيه والتوحش , وبين الاغراق فى التقاليد المملوءة بالنفاق: ففى المجتمع الفقير يشتغل الأفراد بكسب القوت عن الترنم بعواطف النفوس , وفى المجتمع المترف ترذل الاخلاق وتدنس العلاقات , والتزمت أو التشدد الدينى يخفت صوت العواطف , وكذلك تخفته التقاليد الحمقاء الشديدة الوطأة , كما ان عصور المغامرة هى شباب الأمم الذى تحس فيه بكل نوازع الشباب , من حب الجمال والشغف بالعظائم
وقد تحققت هذه الشروط الى مدى بعيد فى العربية فى العصر الاموى ففيه كانت الامة العربية على جانب من الثروة والرقي العقلى والسمو الخلقى وحب المغامرة قد ورثت أخلاق
البادية المتينة وصقلتها الحضارة و لم تفسدها بعد , واصابوا من ثروة الامم التى دانوها , وما زالوا محاهدين متأهبين للجلاد , فلا غرو ارتق النسيب فى هذا العصر وكان قد بلغ فى الجاهلية درجة عالية من الرقى , فاصاب فى العصر الاموي غاية رقيه ؛ وكان ذلك العصر عهده الذهبى فى العربية , فيه نبغ من شعراء النسيب جميل و كثير وقيس , وجمع غفير منهم عروة بن حزام وان الدمينة و أبو صخر الهذلي وابن الطترية
امتاز نسيب هذا العصر بخير ما يمتاز به النسيب : صدق شعور , وحرارة عاطفة ، وجزالة نسج , وعفة مقال , وحسن بيان لمظاهر الحب وخفاياه واحواله , وحسن وصف لجمال المحبوبة الجسمي دون إغفال لجمالها النفسى . ومن عجب أن جيلا نبغ فيه من ذكر كان يصغى فى نفس الوقت الى الاخطل والفرزدق وجرير وهم يتشاتمون ؛ ونبه شأن هؤلاء حتى كادوا أن يخملوا الاولين , مع آن جميلا وعروة وأمثالهما كانوا يترنمون بعواطف انسانية نبيلة , والآخرين كانوا يتقاذفون بالأوضار ! ومن بديع النسيب المتخلف عن هذا العصر قول قيس بن ذريح :
نهارى نهار الناس , حتى إذا دجا لى الليل هزتنى اليك المضاجع
أفضى نهارى بالأحاديث والمنى ويجمعنى بالليل والهم جامع
وقول ابن الدمينة :
لك الله إنى واصل ما وصلتنى ومثن بما أوليتنى ومثيب
وآخذ ما أعطيت عفوا وإننى لأزور عما تكرهين هيوب
وإني لأستحييك حتى كانما علىَّ بظهر الغيب منك رقيب
تصرم ذلك العصر تدريجيا , ودخل عصر الترف والمجون والملكية المطلقة ذات الأبهة , فلم يعد المجتمع يصلح للحب الصادق , ولا الأدب يتسع للتعبير الصادق عن الحب فقد ضعفت الأخلاق وانتشرت المفاسد , واشتد تأثير الجواري فى المجتمع . وتقلصت مكانة الحرائر وضرب عليهن حجاب الجهل وفى ذلك الجو الخليع تفشو الغواية والشهوة , ولا يفشو الحب العذرى الحار ؛ فالحب الصادق لا يكون , والنسيب الرائع لا يزدهر , إلا حيث جمال وحيث عفة ،كما قال العذري ؛أما حيث تقع الجارية من نفس الرجل فيشتريها بماله ويصيرها فى اعداد ممتلكاته , فلا يكون ذلك
وذهب عهد المغامرة والجلاد وتلاه عهد الشيخوخة والوهن وكفَّت الأمة العربية عن الحرب , وأقيم عليها المرتزقة من الترك والعجم , وخمدت العزائم , واستخذت النفوس تحت جبروت الملكية المطلقة وعمالها الغاشمين الذين أفقروا الأهلين بمغارمهم , فانصرف الناس الى طلب القوت وحرصوا على المادة ولم يعد الحب إلا اسما يذكر , وطيفا يتوهم , وأنينا موصولا وعويلا , وتصابيا كتصابى الشيوخ أما صدق الشعور بالحب والتقلب فى أحواله وأطواره , فقد انقضى بانقضاء شباب الأمة أما الأدب فسرعان ما داخله التكلف فى ظل الملكية ذات الصلات , وتوفر الشعراء على المديح ؛ وبدل ان يبتكروا جديدا انصرفوا إلى معارضة معانى الأقدمين فى المدح والنسيب . ومن ثم انقسم شعراء العصر العباسي فريقين : فريقا انغمس فى تيار الشهوات وملأ شعره بوصفها , كبشار وأبي نواس اللذين أوغلا فى الباب الذى كان فتحه ابن أبي ربيعة فى العصر السابق , وفريقا كان انقى صفحة واعف طبعا فلم يجر إلى ذلك المدى , ولكنه لم يودع شعره وصفا صحيحا صادقا لعواطفه وغرامه كذلك الذى توفر عليه جميل ومعاصروه ، بل اكتفى بالنسيب الاستهلالي التقليدى الذى تتكلف فيه البراعة وتتوخى المحسنات البديعية ؛ ومن ثم لا ترى فى أشعار البحتري والطائى والشريف ومهيار وصفا صادقا حارا لغرامهم . ومن الخطأ الشديد حين الكلام على النسيب فى العربية ان نخلط نسيب هذا العصر الاستهلاكي التقليدي بنسيب العصر الماضى الصادق الحي
وقد شهد النسيب فى الانجليزية عصورا مشابهة لهذه وإن جاء ترتيبها مختلفا : فأما العصر الذهبي للنسيب فى الانجليزية فهو العصر الاليزابيثى الذى توفرت فيه الشروط السالفة الذكر , فكان عهد شباب وطموح و مغامرة , فيه ثروة ونهضة عقلية وخلق متين ؟ ومن ثم حفل مجتمع ذلك العصر بأحاديث الحب ؛ وكانت قدوة الشعب ملكته التى كانت على جانب عظيم من الجمال والثقافة , يحيط مها طائفة من الفرسان البواسل , يتقربون إليها بتدويخ اعدائها ومد سلطانها برا وبحرا ؛ ومن تم ازدهار النسيب فى أشعار شكسبير وسبنسر وبن جونسون وغيرهم وفى العصر التالى خمد النسيب حينا بتغلب طائفة المطهرين المتشددين الذين حاولوا المملكة إلى صومعة يسودها الوقار والكآبة ,
وحرموا شتى الملمات والمسرات , حتى قيل إن سبب تحريمهم قتال الديكة - وكانت تلك تسلية معروفة إذ ذاك - لم يكن رغبتهم فى الرفق بتلك الطيور , بل حرصهم على حرمان الناس من السرور والتمتع . وقد ركد النسيب كذلك فى العربية ركودا طبيعيا لم يفرضه عليه أحد , فى صدر الاسلام حين امتلأت النفوس برهبة الدين وانصرفت الهمم إلى جهاد أعدائه
وتلا عصر المطهرين فى انجلترا عصر ترف وفساد , جاء رد فعل للعصر السابق , فرانت الشهوات فى المجتمع , وشاع الفجور فى الادب , كالذى كان فى العصر العباسي ؛ ثم زايلت المجتمع والادب تلك اللوثة رويدا رويدا خلال القرن الثامن عشر. على ان النسيب لم يزدهر ثانية خلال ذلك القرن لاقفاره من روح المغامرة والطموح , و تقاعد رجاله فى المدن وتزاحمهم فى المنتديات التى شاعت إذ ذاك . ومن أهم ما يعاب على شعراء ذلك العصر أمثال بوب وأديسون وجونسون خلو شعرهم من آثار الفتنة بالجمال فى مظهريه الطبيعى والانساني
وإنما ازدهر النسيب وحفل الآدب بوصف فتنة الجمال بانبعاث النهضة الرومانسية , التي انصرف رجالها إلى الطبيعة والتفتوا إلى الماضى الحافل بحوادث البطولة , فكان جميع رجالها . كوردزورث وكولردج وكيتس وشلى مغرمين غراما شديدا بمحاسن الطبيعة ومفاتن الجمال الانساني . ولكيتس فى ذلك أقوال جرت مجرى الأمثال , كقوله ": الشىء الجميل هو حبور لا ينقضى " وقوله ": الجمال هو الحق والحق هو الجمال ؛ هذا كل ما هنالك , وهذا كل ما يعنيك أن تعلمه "
والحق ان النسيب فى الانجليزية مقرون غالبا بالوصف الطبيعى , لشعور الأدباء البدهى بما بين الأمرين من صلة وثيقة ؛ فالطبيعة غالبا هى المنظر الخلفى للصورة التى يرسمها الشاعر لموقف الحب الذى يريد رسمه , كما يتخذ المصورون مظاهر الطبيعة من بحر او غاب او افق مناظر خلفية لما يصورون من وجوه أو أشخاص ادميين . والطبيعة هى التى تمد الشاعر الانجليزى بالاوصاف والتشبيهات التي يمثل بها حبيبته وعاطفته ؛ وظواهر الطبيعة هى الرسل الأمينة بينه وبين محبوبته ، وهي أيضا الوحى الذى يوحي اليه فلسفة الحب التي ينسجها لنفسه
فشلي مثلا سقول"النافورات تمازج النهر, والنهر يمازج المحيط , ورياح الفضاء تمازجها دائما روح عذبة ، ولا شىء فى
العالم يمضى وحيدا , بل كل الأشياء مطيعة لقانون إلهي يمازج أحدها الآخر , فلم يشذ كلأنا " ومارلو يقول تعالى سويا وكونى لى , كى نستوعب كل المتعات التى يحبونا بها التلاع والسيول والوديان والحقول والجبال الوعرة " وتنيسون يقول : ما بالها تتباطأ فى إسباغ الحب على قلبها تباطؤ الوريقة على الغصن وفى اكتساء الخضرة وقد اخضر جميع الغابة "؟ ووولر يقول : " اذهى أيتها الوردة الجميلة إليها , إلى تلك التى تضيع وقتها ووقتى , والتي تعلم حين اشبهك بها كم هى تبدو لى جميلة جذاية . اخبريها - تلك الصغيرة التي يأبى لها الخفر أن يطلع إنسان على مفاتنها . انك لو نبت فى القفار الموحشة لذويت دون ان يطرى جمالك إنسان ؛ ثم موتى أيتها الوردة كى تقرا فيك النهاية المحتومة لكل غال عزيز , وتعلم قصر المدة التي يحظى بها كل جميل جذاب "(١)
ولولوع أدباء الانجليزية بالفنون الجميلة , وشمول نظرتهم إلى شتى مظاهر الجمال وأحواله ووسائل التعبير عنه , كانوا كثير . ما يمزجون جميع ذلك فى مقطوعة واحدة من شعر النسيب .
فشلى يقول مثلا ": ان رجع الالحان بعد خفوت الصوت يبقى مرددا فى الافئدة , و لنشر البنفسج بعد موته طيب فى الانوف ، وأوراق الورد بعد ذبولها تعثر على فراش الحبيب , وكذلك ذكرياتك تظل بعد ذهابك ماثلة ," وكولردج في قصيدته " الحب " يصور موقفه مع حبيبته حيال تمثل فارس مدجج تستند إليه محبوبة الشاعر , ثم يمضى يقص عليها حكاية غرام ذلك الفارس فى سالف الدهر فى اسلوب خيالى عذب , مازجا وصف عواطف الفارس بوصف عواطفه هو نفسه
وفى النسيب فى العربية شىء من ذكرالطبيعة ولكنه ضئيل وقد كانت الطبيعة على العموم مهضومة الجانب فى الادب العربي , كما مر ذكره في كلمة سابقة ؛ولم يخفق الأدب العربى فى عصر من عصوره بمثل ذلك الحب الحار الذى خفق به للجمال الانساني , فى معالجته للوصف الطبيعى ؛ إنماجرت عادة شعراء العربية على تحميل الرياح سلامهم , ودعاء الغيث إلى سقي منازل أحبابهم ، ومناجاة الحمائم و التشاؤم بالغراب , وتشبيه لواعجهم بلواعج الابل أو القطا لفقد صغارها وأُلاَّفها , كما كانوا يغبطون الوحش الآمن فى سربه المهنأ بألفه كما قال أبو صخر الهذلي :
لقد تركتني أغبط الوحش أن أرى
أليعين منها لا يروعهما الذعر
أما مناظرالطبيعة : أشجارها وأزهارها , والامتزاج الروحى بكل ذلك , فقليلة الأثر فى الشعر العربى عامة وفى النسيب خاصة ؛ فبينا نجد الشاعر الانجليزى حين يتأنق فى تصوير أقصى مناه يتصور نفسه ومحبويته يجوسان بين الخمائل والغدران , نجد الشاعر العربى الذى تعود حياة المدينة واستمرأ معيشة الحضارة ، لا يتصور اللقاء إلا فى الدار , ولا يقابل حبيبته إلا فى المجالس والمحافل والمآتم والحج ، كما قال أبوحية النميري :
رسته أناء من ربيعة عامر نؤوم الضحى فى مأتم أى مأتم
وكما قال كثير :
ولما قضينا من مني كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
نقعنا قلوبا لأحاديث واشتفت بذاك نفوس منضجات قرائح
وكما قال ابن الرومي .
يا ليت شعري هل يبيت معانقي ويداي من دون الوشاح وشاحه ؟
وقد يتفق النسيب العربي والنسيب الانجليزى من بعض الوجوه : ففي كليهما استعار الشعراء أحيانا أسماء خيالية تكتما وتعمية عند التحدث عن حبائبهم : فى العربية فشت اسماء هند وليلي وسعاد مأخوذة عن العرب المتقدمين , وفى الانجليزية استُعملت أسماء جوليا وإلكترا وثيرزا منقولة عن الادب الكلاسي ؛ وفى كلا الادبين اشتهر نفر من رجال الدين برقة النسيب والبصر بملابسات الحب : فى الانجليزية كتب دن وهربرت وسوبفت وغيرهم قطعا من أصفى وأنقى ما كتب فى النسيب , وفى العربية أثر عن عروة بن أذينة الفقيه نسيب رائع أشهره أبياته التي مطلعها " إن التى زعمت فؤادك ملَّها ," والف ابن حزم وهو فقيه من بيت فقهاء كتاب " طوق الحمامة " يفصل فيه أطوار الحب ونوازعه , ويبرهن على نظرياته بتجاريبه الخاصة
وقد تناول الأدبان شتى أغراض النسيب بين فارحها وحزينها , وبين الذكريات والآمال , وبين طرب اللقاء ولوعة الفراق , وبين التوجع لغدر الحبيب والتفجع لوفاته ؛ بل تتماثل فى الأدبين معان كثيرة جدا من معانى النسيب : فقول الشاعر العربى ": أسرب القطاهل من يعير جناحه "؟ له نظير فى مقطوعة تنيسون " إلى الخطاف ," وقول كراشو ": وجه لم يصنع من دكان غير ذلك الذى تفتحه يد الطبيعة البيضاء على
مصراعيه " شبيه بقول جميل ": إذا ابتدلت لم يزرها تركُ زينة " وقول تنيسون من قصيدته " مود ":" لو كنت فانيا منذ قرن لسمع قلبى خطاها على وقتها , ودقَّ وخفق تحت قدميها , وارتد زهرا أحمر قانيا " يشبه قول توبة الحميري :
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت علىَّ ودونى جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائح
واختص الأدب العربى بمواضيع احتفى بها وأدمن طرقها , وكان ا كثرها وليد خصائص بيئته , وقلنا التفت إليها الشاعر الانجليزى : كالوقوف بالاطلال , ومناجاة الأطياف , ووصف نحول الجسم وذم المشيب الذى يقعد عن المتعات ويروع الغانيات , والشكوى من الواشى والرقيب والعذول ؛ وهذا الأخير راجع إلى انتشار الحجاب وحظر الاختلاط بين الجنسين إلى حد بعد او قرب فى مختلف عصور العربية وهو أمر جعل مسحة الحزن والتفجع أظهرفى النسيب العربى منهافى الانجليزي ، إذ لا مانع فى المجتمع الانجليزي من الاختلاط , ولارقيب سوى الخلق القوى وكأن الشريف الرضى عنى هذه الحال فى المجتمع الانجليزي بقوله :
.عفاف من دون التقية زاجر
وصونك من دون الرقيب رقيب
يختلف النسيان من هذه الوجوه , ويختلف أدباءكلا الادبين بعض الاختلاف فى النظر إلى الجمال , لاختلاف البيئتين وأثر ذلك فى تكون الجسم : فالاديب العربى فى بيئته الحارة يشب بالعيون الدعجاء والحوراء , والشعور السوداء الاثيثة , والجفون المريضة , والجسم الممتلىء , ونؤوم الضحى ! على حين يهيم الشاعر الانجليزي بالشعور الشقراء يشبهها بالثلج نقاء , وبهوى زرق العيون وينفر من الحدق النجل ؛ والأديب العربي يشبب بكاعب " بنت عشرٍ وثلاث " كما قال بشار , ولا تكون مثل هذه فى الجو الانجليزى إلا طفلة غريرة , والشاعر الانجليزي آخر من يعجب بصاحبة الشاعر العربى التى يصفها بقوله :
أبت الروادف والثدي لقمصها مسَّ البطون وان تمس ظهورا وإذا الرياح مع العشي تناوحت نبهن حاسدة وهجن غيورا
ويختلف النسيبان من وجه آخر أهم كثيرا :ذلك أن النسيب كسائر فنون القول في الأدب العربيالتزم طريقة التعبير المباشر ,يعبر الشاعر عن احساسه الفردي تعبيرا صريحا ثم لا شأن له بسواه , كما عبر جميل عن حبه لبثينة ,وتوبة عن حبه
لليلى ؛اما في الانجليزية فيقوم بجانب هذا الضرب المباشر من التعبير ضرب غير مباشر ,فيه يتحدث الشاعر عن شعور سواه بالجمال , ويصف جمال غير محبوبته ,ومجال ذلك الروايات التمثلية كروايات أنطوني وكليوبترا لشكسبير ,والقصص كقصص وسكس لهاردي , ففي هذه وتلك يصور الأديب عواطف غيره ومواقفهم ,مازجا ذلك لا ريب بعواطفه ومواقفه ,مسبغا على إنشائه ثوبا رائعا من الخيال
وفى العربية شىء من القصص أولع بتأليفه بعض المتأخرين من الكتاب كابى الفرج الببغاء ؛ غير انه بدائى سطحى مشوب بلوثة الترف والشهوة واحسن ما فى العربية من وصف للحب وأطواره هو النسيب الشعرى ؛ فالشعر لموسيقاه واختيار ألفاظه واخيلته خير معبر عن الشعور الفردى المباشر ؛ فالشعر فى العربية دون النثر هو المستأثر بالتعبير عن الحب ؛أما فى الانجليزية فللنثر نصيب من ذلك تزايد بانتشار الرواية التمثيلية وذيوع القصة , حتى لبكاد بفضل الاخيرة يغلب الشعر على مكانته من نفوس القراء , لا يستطيعه دون الشعر من التحليل المسهب الدقيق ، والحركة المستمرة , والوصف المستوعب لدخائل النفوس واطوار الحب , مواقف الغزل , حتى ليستطيع القصصى البارع أن ييكى قراءه ويمزج نفوسهم بنفوس اشخاص قصته , ويجعلهم يتمثلونهم أحياء ويذكرونهم مدى حياتهم كأنهم أصدقاء قدماء قد فقدوهم
ومن ثم نرى أن أعلام الغرام المذكورين فى الأدب العربى ، والذين تتخذ أسماؤهم رموزا للحب , وتضرب أمثلا فى الهيام , هم الأشخاص الحقيقيون الذين عاشواوسجلواقصة غرامهم بأنفسهم فى أشعار هم وحدثتنا عنهم كتب الأدب , كعنترة وعبلة ، وجميل وبثينة , وتوبة والآخيلية , وابن زيدون وولادة , على حين ترى فى الانجليزية أن أعلام الغرام الذين تضرب بهم الأمثال ويجرى ذكرهم على الألسنة , هم الأشخاص الخياليون الذين اخترعتهم مخيلة الآدباء , مثل روميو وجولييت , وعطيل وديدمونة ، وأوفيليا وهملت , نعرف كل أولئك وهم من ابتداع شكسبير , ولا نعرف إلاالشىء القليل غير المستيقن عن محبوبته "الحسناءالسمراء " ولم ينفرد القصصيون بذلك الابتداع وذلك التعبير المباشر عن مظاهر الحب , بل حاراهم الشعراء : فمعظم شعراء الانجليزية الذين تناولوا الحب فى شعرهم تغنوا بالجمال الانساني على إطلاقه , ولجأوا إلى الخرافات اليونانية أو أساطير عهد الفروسية , ينتخبون
منها من وقائع الغرام بين بواسل الأبطال وفاتتات ربات الحجال ما يصوغونه شعرا سلسا , يصفون عليه ثوبا رقيقا من الخيال ، ويودعونه شغفهم المطلق بالجمال غير مقصور على امرأة واحدة , ولا على الوجه الانساني , بل شاملا لمحاسن الطبيعة أيضا
ولهذا الضرب من الشعر النسبى مزايا جمة : ففيه امتاع للخيال وإثارة للطرب , وإشباع لحب الجمال على إطلاقه ؛ وهو منزه عن الغرض الشخصى , وعن ريبة الشهوات تنزيها تاما ؛ وهو يجعل من الحب والجمال والبطولة والمرأة مُثلا عليا تهفو إليها النفوس , ويمنح المؤلف والقارئ معا جوا من النقاء والسمو كثيرا ما يعوزنا فى الحياة الواقعة , وفى ذلك عزاء النفس عن نقائص الواقع المجرد واوشاب الحياة التي قلما تتعلق بالكمال
فالادبان العربى والانجليزى فرسا رهان في مضمار النسيب , قد وعيا من آثاره سجلا حافلا يصور فتنة النفس الانسانية بالجمال الانساني ؛ يتمثل ذلك فى العربية فى بعض شعر الجاهلية ، وبالأخص فى شعر العصر الأموي ، وبذلك النسيب الأموي يعتز الأدب العربي ويفاخر اول ما يفاخر , لصدق ما فيه من شعور يعوز شعر العصور التالية , ونبل ما فيه من عرض ييابن غرض اشعار المديح والهجاء ، وجزالة ماله من أسلوب يزدرى أسلوب الصناعة والمحسنات التي داخلت الشعر بعده , وذلك الادب النسيبى لم ينل حقه من التقدير والاهتمام بعد , وأولئك الشعراء الناسبون لم يتبوأوا مكانهم الجدير بهم فى الأدب العربى
