قد أصاب الكاتب الفاضل التوفيق جين فالمان "النظريات العقلية المجردة والشطحات الفكرية الخاوية أخذت تفقد في العصر الحالي قيمتها على التوالي، واهتم الفكر الحديث المستنير بالبحوث الفلسفية والأدبية والعلمية التي تهتم بالحياة والإنسان وترمي إلي رفع مستواهما المادي" "الثقافة"
منذ انقسم البشر إلى فريقين، فريق أتبحث له منادح من وقت الفراغ للتفكير، وفريق استغرق العمل اليدوي طوال وقته، ظهرت أرستقراطية الفكر إلى جانب أرستقراطية المحتد ، واستعلي أهل الفكر . وازدروا أهل العمل والإنتاج، وقطعوا كل صلة بين الفكرة وتطبيقها، فتباعد الإنتاج النظري عن الإنتاج المادي ، بدل أن يستعين كل منهما بالآخر في سبيل التقدم والازدهار.
لم يكن انفصال التفكير النظري عن الحياة العملية إلا رد فعل للعقيدة الاجتماعية التي سادت العصور الغابرة ، وفرضت على السوقة حينذاك أن يعملوا ليعولوا سادتهم الأشراف، وجعلت من حق السادة الأشراف أن يظلوا عالة على السوقة؛ ولم يلبث اللهو والبطالة أن صارا من مفاخر اللاهين العاطلين ، كما صار العمل الشاق من مخازي الأشقياء الكادحين . ووقع فلاسفة اليونان تحت تأثير هذه الوجهة من النظر ، فأخذوا يؤيدونها بدل مناهضتها . ولم تفتهم أصالة رأيهم ولم تبصرهم بالصواب ، فنادوا بأن الفلسفة وهي أسمى ما انتج العقل البشري ، جديرة بأن تقتصر على تناول معضلات الوجود العليا دون مطالب الحياة التافهة، فهي أشرف من أن تسخر في سبيل تحقيق مكسب، أو توفير منفعة عامة ، وكان أولئك الفلاسفة يعتنقون مذهب العلم للعلم لا للحياة ، كما كان معاصر وهم من أهل الفن يعتقون مذهب الفن للفن لا للإنسان. أما سد مطالب الحياة فمتروك لأهل الحرف من سوقة وعبيد . وهكذا أصرت الفلسفة اليونانية على أن تقطع كل صلة تربطها بالواقع ، وأن تظل رياضة عقلية بحتة ، فلا تسف على زعمها إلى معترك الحياة ، ولا تمد يد العون إلى الإنسان فتحاول فض مشاكله المادية، وتحسين ظروفه الدنيوية.
كانت الصلة إذا مبتونة بين النظرية والتطبق عند قدماء اليونانيين، فلم يكن للعلم من هدف هناك يخرج عن نطاق البحث المجرد، على أننا نستطيع أن نقرر في شئ من التجاوز أن مشيدي هيا كل يونان القديمة ومعابدها، ومبدعي تماثيلها، انزلوا علم الهندسة إلى ميدان التطبيق العملي، والخلق المادي، في سبيل إبداع تحفهم الفنية. ولكنهم لم يجدوا في ذلك أية غضاضة ما داموا لم يقصدوا من وراء ذلك إلا تطبيق مذهب الفن للفن أو للجمال. وحين نزل فن كتابة التمثيليات إلى ميدان الحياة، وحاول أن يعرض مشكلاتها على المسرح ، أنف أن يهتم بعامة الناس، واقتصر على تصوير مغامرات الملوك والأبطال، وما وقع بينهم وبين الآلهة من أحداث .
على أن ازدراء فلاسفة اليونان لكل إنتاج مادي بلغ من التطرف الحد الذي أدخل معه أفلاطون الفنون في عداد الانتاج التافه. وقد قال في ذلك ما معناه إن المثال الذي يبدع تمثالا جميلا يبدع حسناً معيناً ، وهذا عمل تافه لأن ألوان الحسن لا تحصى، فعمله قطرة من بحر . أما الفيلسوف الذي يدرك خصائص الحسن على إطلاقه، فهو الذي يدرك من حقائق الكون المطلقة ما يؤهله للسيادة، على أن هذه الوجهة المتتطرفة من النظر لا تحتاج في هذا العصر إلي فينسوف لدحضها ، فمن العلوم اليوم أنه لا يوجد حسن مطلق ، وكل فكرة نكونها عن الحسن تستمدها من المحاسن المشاهدة ، وما الفكرة وتطبيقها إلا صنوان يتولد كل صنو منهما على التوالى من صنوه.
أما مصر القديمة فلم تهنج هذا النهج ، ولكنها اتجهت إلى العلم لتذلل به مصاعب الحياة ، وتوفر أسباب الراحة للإنسان . ولعل نهر النيل كان السبب في توجيه مصر إلى
ذلك الاتجاه ، فلم تزدهر حينذاك علوم الحساب والفلك والهندسة إلا بقصد الهيمنة على فيضان النيل والاستفادة منه على خير وجه وتحديد مواعيد دقيقة للزراعة . وترتب على ارتباط العلم بالتطبيق العملي أن اتضحت التفرقة بين النظرية والتطبيق . فلم يستعل الفكر ، ولم يزدر الحياة . وإنما كان قدماء المصريين لم يحفلوا بنظرية العلم المجرد أو العلم للعلم . فإنهم لم يتجهوا كذلك في فنونهم إلى نظرية الفن للفن. فلم تنحت تماثيلهم إلا لغرض إنساني ، إذ كانوا يؤمنون بخلود الروح ، ولكنهم كانوا مع ذلك يدركون أن الروح لا يعيش إلا متصلا بحسمه المادي، فلا روح خارج المادة ، ولذلك نحتوا التماثيل لأمواتهم حتى تتقمصها أرواحهم فتنعم بالحياة الحالدة . وما قيل عن تماثيلهم يقال كذلك عن نقوشهم وزخارفهم وتحنيطهم الجثث ولمأكولات وغير ذلك من مختلف فنونهم وعلومهم.
وحين دانت الحضارة للصرية القديمة دانت معها فكرة ربط النظرية بالتطبيق. وظلت أوربا حتى أوائل القرن الحديث خاضعة للفلسفة القديمة، فأبقت على الحاجز الكثيف الذي يفصل الفكر عن الحياة. وعمد المفكرون في محاولة حل المشاكل اليومية التي تعرض لهم إلى التفكير المجرد أو إلى مراجعة مصنفات أرسطو لعلهم يهتدون فيها إلى الحل المنشود. أما محاولة حل مشكلات الحياة عن طريق دراسة الواقع فكانت تعد جهلاً أو قصوراً فكرياً لا يقمن بالسادة المفكرين أن يوسموا به . وهكذا ظل الفكر منقطع الصلة بالواقع ،أى ظلت النظرية منفصلة عن التطريق حتى تغيرت ظروف الحياة المادية في أوربا التي شعرت بحاجتها الماسة إلى رفع مستوى الصناعة، فظهر العلماء الذين نادوا بضرورة اتصال الفكر بالواقع، واستقراء الحقائق من سفر الحياة. وكان الفيلسوف الإنجليزي بيكون في مقدمة هؤلاء.
أخذ العلم ينقلب في أوربا منذ ذلك الحين من رياضة عقلية مجردة إلى قوة فعالة تعين الإنسان على ترويض الطبيعة وتحقيق حاجات الإنسان ورغبانه . ولم يلبث هذا الاتجاه الجديد أن حمل ثماره، وأسفر عن ازدهار الصناعة ووصولها إلى ذلك المستوى الذي حقق للأوربين حضارتهم المعاصرة. ولكن ليس معنى هذا ان النظرية في محتلف نواحي النشاط الحضاري اتصلت كل الانصال بالتطبيق على أثر تطلب التقدم الصناعي ذلك، فوضعت الأمور لأول وهلة في نصابها،
وانحسم كل إشكال. فإن الذي وقع غير ذلك، إذ مر إشكال النظرية والتطبيق بمراحل جديرة بالتتبع والتمحيص. ولم يدرك ذوو الرأي أهميته الخطيرة على حقيقتها إلا ابتداء من الشطر الثاني من القرن الماضي.
بدأ العلم في انجلترا يقترب شيئا فشيئا من ميدان السنة ويتغلغل إلى معاملها على أثر النداء الذي وجهه إليه بيكون في أواخر القرن السادس عشر حين احتاج توسع انجلترا التجاري إلي تقدم صناعتها، ولكن نزول العلم إلي المجال العملي حينذاك لم يتم إلا بمقدار محدود. وظل الرأي العام في انجلترا، ثم في أوربا بعد ذلك يستخف بالعلم العملي، ويمجد العلم النظري ، حتى إن أوربا احتفت بمؤلفات نيوتن النظرية بعد ذلك بقرن من الزمان احتفالا منقطع النظير ، وحسبتها رسالة أوحيت إلى مؤلفها أو أنزلت عليه. أما الفلسفة فقد ظلت تحلق في السبحات الفكرية المترفعة عن الواقع.
وحين أسفر تقدم الصناعة وانتقالها من المرحلة اليدوية إلي المرحلة الآلية عن ظهور الطبقة البورجوازية التي تدين بحياتها وازدهارها للتقدم المادي ، أبت تلك الطبقة الجديدة بعد علو كعبها إلا أن تحاكي الأرسقراطية الدائلة ، وتتظاهر بالترفع عن الماديات ، والاستهانة بالعلوم المستمدة من التجارب الواقعية على الرغم من استعانتها بها في مصانعها ، وظلت تشيد بالبحوث الفكرية المجردة . وجاء فلاسفتها وأداؤها فحققوا وجهة نظرها، وأوغلوا في الابتعاد عن الواقع ، فازدهرت فلسفة ما وراء الطبيعة وظهر الأدب الرومانسي الذي طغى على سائر ألوان الأدب الأوربي إذ ذاك.
ولكن نهضة أوربا الصناعية الكبرى استنبعث يقظة مواد الشعب الأوربي . فأخذ العمال والصناع يشعرون بأهمة طبقتهم ويدركون خطر شأن العمل الذي يضطلعون به وما ازداد وعيهم نضجا حتى طفقوا يستخفون بالنظريات العلمية ، ويحسبون أن القائمين على الإنتاج المادي هم وحدهم الجديرون بالتقدير . وما زال هذا الوعي الجديد يفعل فعله حتى لفت حوالى منتصف القرن الماضي نظر بعض الفلاسفة الذين حاولوا دراسة موضوع النظرية والتطبق من جديد على أساس علمي صحيح.
فطن هؤلاء الفلاسفة أول ما فطنوا إلى العلاقة الوثيقة التى تربط بين كل من النظرية والتطبيق . ووجدوا أن استعانة كل منهما بالآخر هي وحدها التي تتيح الوصول إلى
أبهر النتائج . وقد تعمقوا فبحثوا في كنه كل منهما ، وأيهما السابق على الآخر في الوجود ، أي هل يستمد الإنسان نظريته من وحي خاطره ثم يطبقها على الواقع أم يستمدها من ذلك الواقع ثم يطبقها عليه؟ ولما كان الرأي العلمي الصحيح أن أفكار الإنسان مستنبطة جميعها بلا استثاء من العلم الواقع المادي المحيط به ، فقد انتهى الرأي في موضوعنا كذلك إلى أن التطبيق سابق على النظرية . فالإنسان في نشأته الأولى كان مدفوعا فيها يأتي من أعمال بدافع مطالب الحياة وضروراتها ، وهو لم يرقي في مدارج الرقي الذهنى إلا حين أخذ يفكر في تحسين حاله ، فاستنبط نظرياته الأولى التي كانت ترمي إلي تحسين طرفي معيشته من دائرة تلك الطرق نفسها ، فزاده ذلك فهما وحسن إدراك ، وجمله أقدر على استقباط نظريات جديدة ، وهكذا اتبع الرقي الإنساني ذلك الأسلوب حتى وصل إلى ما وصل إليه في عصرنا الحاضر.
ظلت النظريات العقلية المجردة والشطحات الفكرية الخاوية تفقد في العصر الحالي قيمتها على التوالى . واهتم الفكر الحديث المستنير بالبحوث الفلسفية والأدبية والعلمية التي تهتم بالحياة والإنسان، وترمي إلي رفع مستواهما المادي والمعنوي من طريق مباشر. وحين اهتدى الفكر البشري إلى نظرية تطور المجتمعات عرف الأسلوب الذي تسلكه الحياة في تطورها ، وأصبح لزاما على كل مفكر ، إذا ما أراد اجتناب الزال أن يبني كل نظرية جزئية لنفسه أو لغيره في الحياة على أساس تلك النظرية العامة . فهو إذا حاول أن يتصرف في أمر من الأمور فلا بد أن يدرس موضوعه دراسة واقعية من طريق تمحيمة والإحاطة بظروفه وملابساته ، والبحث عن تاريخه وكيف كان في ظروف وملابسات أخرى، ثم مقارنته بما يماثله واستقصاء أوجه المشابهة والاختلاف بينهما، والبحث عن أسبابها. وعدم إغفال أي ناحية من نواحيه أو من المؤثرات التي تؤثر فيه . فإذا ماتم له ذلك وضع خطة العمل وسار على مقتضاها . وما خطة العمل هذه إلا النظرية، وما السير على مقتضاها إلى التطبيق . وواضح هنا أن النظرية مستوية من الواقع وعائدة إليه.
وآن لنا قبل أن نختم هذا المقال أن نمتحن النشاط الأدنى على ضوء ما قدمنا ، أى على ضوء النظرية والتطبيق، فإننا مازلنا نجد نقاد الأدب منقسمين إلى فريقين :فريق يري أن العمل الأدبي لا يقوم إلا على فكرة وتصميم، وفريق آخر يري أن ينزل الكاتب إلى الواقع ، وما عليه
إلا أن يعمل على تسجيله تسجيلاً صادقاً ليبدع عملا فنياً قيماً؛ والذي تتبع شرحنا لمرضوع النظرية والتطبيق واقتنع به لا يلبث أن يدرك أن تقدير العمل الأدبي على ضوء ذلك الشرح جدير بأن يسدد خطانا صوب الحكم الصحيح ؛ فالأديب الذي يبتعد عن الواقع حين يمسك بالقلم ، ويعمل على ابتداع معانيه بتوليدها مما قرأ، أو مما علق بذهنه من تجارب قديمة بهتت ألوانها ، وشاهت معالمهما ، لا يستطيع أن ينتج إلا أدباً مصطنعاً لاحياة فيه ولا رونق له ، أو أدباً فرديا قاصرا على تسجيل خوالج الكاتب الخاصة ، وأطماعه الشخصية ؛ ومن الواضح أن هذا النوع أو ذاك من ألوان الإنتاج الأدبي لم يستطع أن يحتفظ في العصر الحاضر بأية قيمة بعد أن نضج وعي الشعوب ومهد السبيل لظهور الأدب المعنى حياة المجتمعات ومشاكلها ، لا حياة الأفراد المحدودة ، ومشاعرهم الخاصة الرخيصة ؛ وما يقال عن الأديب المبتعد عن الواقع يقال كذلك عن الأديب الذي حسب أن النزول إلى ميدان الواقع والاغتراف منه كاف وحده لتحقيق أربه ، فإن إنتاج مثل هذا الأديب الأخير لابد أن يخلو كإنتاج سابقه من خصائص الأدب الممتاز، لأن تصوير الواقع كما هو أشبه بالتصوير الفوتوغرافي، وأين التصوير الفوتوغرافي من اللوحة التي تنقشها ريشة فنان؟ ...
إن النجاح في الأدب وفي غير الأدب لا يتاح إلا لمن يوفق في مزج النظرية بالتطبيق ؛ فالأديب المثابر يحتاج محتاج فوق الثقافة العالية الواسعة إلى دراسة المجتمع الذي يحاول الكتابة عنه دراسة واقعية ، أي عليه أن يدرس ظروفه وملابساته، وأن يحلل ميوله وعاداته على ضوء تلك الظروف والملابسات، وأن يدرس تاريخه ومراحل تطوره، وكيف انتهى إلى المرحلة التي انتهى إليها من ذلك التطور؛ فإذا ما استوعب الكاتب الأديب كل هذا من الناحية النظرية، نزل إلى ميدان الواقع . وعاش بين ظهراني أولئك الناس الذين سيكتب عنهم ، ودققق في دراسة واقعهم على هدى ما عرف عنهم ؛ وحين يتم له ذلك تتم له معرفة كل ما ظهر وخفي من امر أولئك الناس فيستطيع تصويرهم على الوجه الصحيح، وبث الحياة والنشاط في صورهم ، وإبراز نواحي تقدمهم، وتبين المرحلة الجديدة التي سيرتقون إليها . ولا يكون هدف أديه في هذه الحالة مقصورا على إبداع صور فنية حية لأولئك الناس. ولكنه يتعدي هذه الدائرة إلى إعانتهم على سرعة التطور.
