نهضت في الصباح الباكر ودعوت حمالاً يجعل الحقائب إلى المحطة. وكنت قبلها قد هممت مرتين في صباحين متواليين أن أسافر، ولكنني كنت كل مرة أصل المحطة متأخراً عشر دقائق أو نحوها. وكنت بالطبع ألقى اللوم على أصحاب الفندق الذين يتعمدون التلكؤ عن تنبيهي صباحاً حتى يستنزفوا البقية الباقية من دراهمي! والحقيقة التي لا مراء فيها أن أصحاب الفندق لم يهملوا تنبيهي في الوقت الذي سألتهم أن يفهموني فيه، ولكنها الرغبة الكامنة في هذا البلد الجميل - لبنان - كانت كل مرة تتغلب على الإرادة الشاعرة فتغمض العينين بعد انفتاح، وتضرب على الإذنين بعد انتباه، وتهوم للشعور فيغفو بعد صحو ويغيب بعد حضور.
وكنت بعد أن ابلغ المحطة وأحملق في القطار الذاهب في حنق مكذوب أعود أرضى نفساً وأوفر بشراً مما لو كنت لحقت بهذا القطار - قطار لبنان العجيب - ليحملني بين أنفاسه الفاسدة في أنفاقه المتعددة، وسيره المتخلع البطيء ويلفظني بعد مسيرة سبع ساعات على حال شر من الحال الذي خرج عليه يونان بعد ضيافة ثلاثة أيام قضاها في بطن الحوت في غير رحب ولا سعة.
وسمعت، وأنا لا أزال في الطريق، مناديا ينادي؛ يا أفندي، تفضل! وأدركت إنني أنا المقصود بهذا النداء. فاستدرت ونظرت وإذا شاب حسن البزة واقف بجانب سيارته البديعة وعينه إلي ويديه تشير إلى السيارة. ودنوت أساله في تلكوء متكلف ماذا يريد أجابني متلطفا: أوتوموبيل جميل. وخير لك أن تسير فيه من أن تيسر في القطار.
وبعد أن أستنزف بلاغته في صرفي عن السفر في القطار قال أنني لا آخذ منك إلا مثل ما آخذه من كل راكب. وذكر مبلغاً هو
ضعف ما يؤخذ عادة أجراً على مثل هذه المسافة. وعندها أدركت أني البس سدارة، ومن هنا سيأتيني الخطر في هذه الصفقة، وبادرت أصلح الموقف على قدر ما يمكنني الإصلاح وقلت: لتعلم أن من غير العراقيين من يحب أن يلبس السدارة (وإخواننا العراقيين - سامحهم الله - يبعثون، حيثما حلوا، موجة من الطمع في نفوس الساقة والباعة. على أن السدارة من ناحية أخرى (حماية) وصاحبها لا يزرأ إلا في نقوده. وفيما عدا ذلك فهو من نفوس القوم حيث تشاء الكرامة ويسموا الأباء والعزة). وبعد مساومة قصيرة رضى صاحبنا بنصف القيمة التي ذكرها.
ووقفت السيارة أمام فندق جميل من فنادق (عاليه) . وبعد نفخة أو نفختين من بوق السيارة أقبل راكبان: رجل وامرأة يجري أمامهما طفلان صغيران.
والرجل ربعة القامة، تخطى العقد الرابع من عمره، جامد الملامح، محني الظهر كأنه يحمل عبئاً ثقيلا. أما الفتاة ففي ربيع الحياة، في قامة هيفاء يخيل إليك أنها نحيلة وما هي بنحيلة؛ ضحوك المبسم في وجه صبوح، ونظرات تشع ذكاء، يكسر منها قليلاً خفر طبيعي ووداعة ملازمة.
وانطلقت بنا السيارة في بطء ملحوظ. فكأن سائقها الذكي فهم من تلفتنا ونظراتنا الشائعة أننا نودع عزيزاً ونشيع غالياً، فلا تحمد السرعة في هذه الحال.
وأطلت زوجة المزامل من نافذة السيارة، وأخذت تجيل الطرف في كل ما يمكنها من اتجاه. والتفت إليها زوجها ونصحها متراضياً بأن تكف عن النظر والالتفات، وإلا أصابها الدوار، ثم إذا كان لابد من النظر فانتظر إلى الأمام فقط.
والتفتت إليه الفتاة وقالت في وداعة ظاهرة: لست أرى أمامي إلا الزفت؛ فهل تريد لي أن أغادر لبنان وليس ما يقع عليه ناظري إلا الزفت؟ إنني أحب أن أشبع النظر من لبنان، وأشبع الخاطر من فتنته قبل آن أغادره. فبادرها بقوله: ماذا في لبنان مما يفتنك ويتصباك، ويجعلك تعرضين نفسك لخطر الدوار المؤكد؟ عندما خاطبته في شيء من التبرم وكثير من الأغراء والرغبة في استثارته إلى مشاركتها في متعتها وقالت:
الله ! ألا ترى هذه الجبال كيف تهاوت صخورها عند الحضيض ، وكيف شخصت برؤوسها المددة كأنها أعمال رصت صفا وراء صف ؟ ثم ألا ترى إلى هذه الأخاديد والوهاد كيف تقطعها تقطيعا بديعا فتجعل منها مثل ماتجعل الشوارع من المدينة ؟ وإليك هذه الأشجار ، منها الجبار يقف ثابتا لاتلويه ريح ولا يثنيه إعصار , تستكين إلى ظلها هذه التفجيرات الصغيرات كأنها الحجلان , الى جنح الأمم وتلوذ بجنوها وتدنو قدر ما تدنو من قلبها الخفاق . ألا ترى فى ذلك جمالا ولا جلالا ؟؟ وأى جمال وأية فتنة فى هذه الجبال الجرداء الشامخة تقوم الى جانبها هذه التلال الوطيئة فى هذا الحقل من شجر الأرز , والسنديان يكلل رؤوسها , وكأن كل ربوة من وباها دوحة جبارة واحدة أغصانها جذوع هذه الأشجار وأوراقها أغصائها ! ثم هذه الغيوم ومنها الذى أسف الى قمر الوادى واختلط بأهله اختلاط الألفة , وجاورهم جوارا زالت معه الكلفة ؟ ومنها الذى أبي إلا تمهيدا ومنافسة لأعلى هذه الجبال فيختم على . رأسه ! كليلا من ذهب صباح مساء , ومن فضة فيما بين ذلك .؟ ومنها الذى أبى إلاامعانا فى التحليق والتصعيد فوق ذلك , فجعلت من التيارات القوية ما يجعله النسر من ريش الطائر , وقد شد النسر عليه مخالبه وألهبه .سعار الجوع ؟ ثم هذا البحر المسجى من ورائنا جاث عند ركبتى لبنان يبذلها بزبده وينسلهما بموجبه , ويهمس فى أذنه أن خل مكانك , وتعال أبوئك الصدر بدل أن تكتفي متى بالزبد , والزبد دائما يذهب جفاء . وقد ما أغراء همس البحر السحرى فتحرك وتناول خير ما أنبت , وبعث به جوارى من الأرز ملء ضلوعها رجولة وقلوب كبيرة أونسيت الباروك وما " القرار نمير ؟ أنسيت ينابيع لبنان الثلجة وكيف كنا نتجرع ماءها قطرة قطرة ولما كانت تفعل الجرع الكبيرة المتوالية فى الأسنان ؟ثم هل نسيت البارحة وكيف أمطرتنا السماء وابلا اضطرنا أن تتعطف المعاطف كأننا من العام فى شهر آذار ؟ أمثل هذا يجتمع ويتيسر لغير لبنان من بقاع الدنيا ؟ أوه ! وماذ أقول فى هذه المدن المنثورة المنورة ، وقد ألهبتها فى الليل مشاعل الكهرباء ، فغدت نجوما تومض على الأرض ، وتتحدى السماء فتحار أيهما أجمل وأروع : تلك التي تحتك ، أم هذه التي فوقك ؟ وهذه البيوت المبثوثة هنا وهناك , لاهى بالقرى المتراصة ولا هى بالصوامع ، المنعزلة , ترف عليها وحولها أغصان
السنديان والصنوير رفيفا كان بدأ سحرية تروح عليها ؛ وأخيرا هذه الحمائم البيضاء فى عرض البحر تمد اجنحتها للريح تتلقى منه المدد , فتسير باسم الله مجراها ومرساها ؟ انسيت كل هذا لتسألنى ماذا فى لبنان من جمال وماذا ارى من فتنة ؟ ألايفتنك بالله هذا التعانق الشديد بين السماء والماء والغبراء , وهذه الالفة الفاتنة بين هذه العناصر حتى لكان هذا ما خلق إلا ليكمل ذاك , ولا ذاك إلا ليكمل هذا ؟؟!
وبعد أن غمرت فتاتنا فتاها بهذا السيل الجارف من الأسئلة صمتت ترقب وتتأمل . وفتح صاحبنا فاه .. أوتدرى لماذا أجاب عن كل ذلك ؟ قد تحسبه اضاف لونا آخر الى هذه اللوحة التي رسمها خيال فتاتنا بهذه السرعة الطائرة ؟ لا ان شيئا من هذا لم يحدث , إذ لم يزد صاحبنا أن قال :
هذه الجبال قد رأيت مثلها وأعلى منها فى البرازيل . والأشجار -كذلك - فى البرازيل , لفة منداحة تكاد لاتدع لأحد منفذا . والبحر رأيت أضعاف سعته فى طريقى الى امريكا . والمطر كثير أيضا فى تلك البلاد . والباروك يعد "حنفية" ماء بالنسبة الى الأمزون .
عندها أكدت أنشق غيظا , وهممت والله ان أتناول شيئا واطرحه فى وجه هذا الجلف الغليظ القلب , الذى لا يرى إلا ان يقيس الجمال بالاميال , ويكيله بالمكيال . وحاولت الفتاة محاولات يائسة أن تنبه من هذا الصخر مكامن الاحساس بالجال , فكانت - كما يقولون - كالصارخ فى واد , وكالنافخ فى رماد .
وأدركت أخيرا من الفتاة ومن فتاها : هى شعلة من الذكاء والثقافة العالية , والإحساس العميق بالحياة , والتفطن الى همس الجمال بله صوته . اما هذا الذى يجالسها فهو من هؤلاء الذين ذهبوا إلى أميركا ورجعوا خلوا من كل شىء , إلا المال , فتقدموا مهذا الطعم المغرى , فاصطادوا خيرة الفتيات جمالا وعلما وذكاء
وصاحبنا هذا - مع الأسف الشديد - ليس بالمثال النادر فى الشرق ولا بالشاذ , وإلا ما كنا نعنى به ونغنى على القارئ الكريم بعرض صورته البغيضة , إنما هو يمثل لنا طغمة من الناس فى شرقنا كثيرة كثرة مفزعه حقا , لاتتفتح نفوسهم على
جمال , ولا تنبسط لفتنة ولا تنشط لمتعة من متع الفن ٠. يعيش . الواعد من هؤلاء فى بقعة ركم الجمال فيها ركما ولكنه يحيا - ان صح أنه يحيا - ويموت , وكأن هذا الجمال لا يعنيه بحال . من الأحوال ، وكان هذه المفاتن لأناس من غير طينته , وفى عالم و عالمه , وقد يصيب بعضهم من ينبه فيهم مراكز الجمال ، والتغطن إلى مواطن الملاحة فتقبدل النفوس غير النفوس وتنقلب حياتهم انقلابا شديدا ، وتنفسح أمامهم متع الجناة انفساحا يمتد مداه على قدر ما تكشف لهم من مفاتن الطبيعة ومجالى الجمال ، إلا أن السواد الأعظم منهم يظلون على جهودهم ونضوب أنفسهم مهما حاولت أن تثير فيهم مكامن الاحساس بالجمال , وتذوق الفن . وإذا رأيتهم يستملحون أو يستظرفون فانما يفعلونها من طرف لسان ومجاراة , خشية أن يرموا بتبلد الاحساس وعقم العاطفة , ولسنا نعزو هذا إلى نقص طبيعى فى الاحساس , ونضوب معين العاطفة فى الشرقيين إنما تعزوه متأكدين إلى نقص فى التربية وتقصير في التوجيه . فمدارسنا قلما تعنى بتنبيه مواطن الاحساس بالجمال فى الصغار , وإذا فعلت فى صورة سطحية ميكانيكية , وهو تقصير يدفع الشرقيون اليوم تمنه غاليا - يدفعون ثمنه ضعفا فى الوطنية , وجمودا عن التضحية . وهل ترجو خيرا ممن لا يرى فى جبال بلاده ولا فى سهولها ، ولا فى حزونها ولا فى أنهارها ، ولا فى ينابيعها ولا فى أشجارها ، ولا فى أطيارها ، ولا فى سمائها , ولا فى مائها سحرا ولا فتنة يربطانه بها بعرى من الشوق والهيام لا تنفصم ولا تهى ؟ هذا الأوربي إجمالا ، والانكليزي , على التخصيص , انظر كيف ينقل ذكرى جباله وأنهاره , وقراه ودسا كره , ووديانه وينابيعه ومدنه إلى أميركا . وأفريقيا وأوستراليا وغيرها من قارات العالم لم يستطيعوا أن ينقلوا هذه الأشياء العزيزة عليهم بالذات فنقلوا ذكراها المحببة ، فظلت تربطهم بها رابطة من الشوق والهيام يؤكدها التذكير ويديمها النوى .
ولنعد إلى فتاتنا . فقد شاقنى حقا أن أتابع هذه الدراما الصغيرة إلى النهاية , أبت الفتاة إلا تطلعا وإسرافا فى التطلع , برغم نصائح زوجها الغالية , فكان حديثها السابق قد أذكى شعورها
وفتح لها أفقا أوسع للتفطن والاستشراف , وقد آلمنى حقا أمر هذه الفتاة . فهى تشعر شعورا عميقا بهذا الجمال الغزير وتأبى إلا أن نشرك غيرها معها فى هذا الشعور , وهى تزعة طبيعية ملحوظة فى جميع الناس . فليس احد يشعر بجمال الفن سواء أكان طبيعيا أم صناعيا , إلا يرغب أن يرى من يساهمه فيه الأحماس ويشاطره المتعة , ولعل متع الفن هى المتع . الوحيدة التي لا يخشى المرء فيها الشركة , بل هى المتع الوحيدة التى لاتطيب نفسه ولا يحس بها ارهف الاحساس واحده , إلا إذا كان من يشاركه . فكان كثرة الناظر بن او السامعين لآيات الفن , المرايا تتقابل حول الصورة فتضاعف الأشباح وتزيد الصور .
ويئس صاحبنا من صرف الفتاة عما تريد من النظر والتلفت ، فراح يتلهى بالصغيرين ويناغيهما , وانتهى به الحديث معهما والمناغاة إلى صيغته بعينها جعلها لازمة حديثه وهى : يا بابا ! صباح الخير يا بابا ! وراح يرددها ويدهورها فى حنجرته طوال الطريق . وخيل إلى أن الرجل لن يكف عن ترديدها ولو أمسى المساء , وضاقت به الزوجة الوديعة ذرعا (وللصبر حد) وطلبت اليه متوسلة أن يكف عن الحديث , أو يغير هذه العبارة التي يوشك أن يتبرم بها الصغيرين ! وصمت قليلا . فحيل إلينا أننا قدارتخنا هذا القليل من الجرأة من هذه القدر المقررة , غير أنه ما عتم حتى عاد وكان عشرين ضفدعا تتق في حلقه ! ولعله خشى إذ صمت أن نحسبه ذل وخنس . فضاعف الصخب وزاد الجلب وقلت : ليتك يافتاتى لم تحاولي إسكاته , فقد زدته ضراما على ضرام . على أنه لم يمض حتى فاجأه أحد الصغيرين بقىء شديد ملأ صدره وانحدر يسيل إلى أسفل , وهنا عبس الآب واتقطع عن المناغاة , واضطر أن يشتغل باماطة ما علق بصدره من هذا السائل اليارك , وقلت فى نفسى : عوفيت معدة ياصغيرى فقد ابرأت سقمنا , وجازيته جزاء وفاقا , وليت معدتك أوسع قليلا فقد محتاج إليها مرة أخرى .
وبلغت السيارة دمشق . وغادرتها وفى القلب ما فيه من غصة وألم بهذا الدهر الأهوج الذى يجمع بين الانسان وشبه الانسان.
