-٢-
نشرت الثقافة المقال الأول من هذا البحث الذى يقدمه للقراء الأستاذ عز الدين إسماعيل ، ومجمل رأيه فى ذلك المقال أن النقد الأوروبى كان يتجه فى الماضى إلى تقدير العمل الفنى من ناحيته الجمالية أو من ناحيته الخلقية ، ولكن الاتجاه الجديد فى النقد يميل إلى ناحية التفسير ، إذ أصبح عمل الناقد أقرب إلى إيصال تجربة الفنان إلى نفس المتذوق . ويرى الكاتب أنه أولى بنا أن نؤسس نهضتنا النقدية على أسس من الفهم الكامل والتذوق الصحيح والشرح والتفسير ، وهو ذلك يرى أن هناك علاقة وثيقة بين علم النفس وبين النقد الأدبى )
٣ - وإذا بحثنا عن الدوافع التى تحرك الموجودات أو تحرك الناس فى شتى نواحى الحياة . وجدنا للغرائر نصبيا وافرا . ولكن ترى هل يتحرك الإنسان فى جميع حالاته بوعى منه أو دون وعى ؟ حقا أنه يتحرك لتلبية حاجة فيزيائية أو حاجة عقلية ، ولكن يبدو أن المحركات البشرية الأساسية شئ آخر غير ذلك فقد عرف الشعراء من غير شك أن الحب والكراهية والخوف هى القوى التى حركت الرجال والنساء ، ولكن الألفاظ العديدة التى استخدمت فى أى لغة من اللغات قد مالت إلى إبهام الحقيقة القائلة بأن هناك - أساسيا - قوة واحدة بسيطة تحرك الإنسانية كلها . . . وقد اختار فرويد لتسمية هذه القوة كلمة الجنس . وهى - ككل الكلمات - قد مالت إلى أن تأخذ أكثر من معنى
واحد ، فتكون محمودة أو مذمومة بخاصة إذا ارتبطت بالسرور أو الألم ، أو ارتبطت بالسلامة أو الخطأ (١) ولكى نستطيع الإفادة من فرويد فى تفسير الأدب فإنه يجدر بنا هنا أن نقف وقفة قصيرة عند تحليله للنفس ، فنتبين العناصر التى تتألف منها ، ونحدد ميدان عمل كل من هذه العناصر .
تتكون النفس البشرية - بحسب فرويد - من الأنا والذات العليا والهى . والأنا هو الجانب الظاهر من الشخصية ، وهو يتأثر بالعوامل اللاشعورية من ناحية ، وبعالم الواقع من ناحية أخرى . ففى عالم الواقع تجد المجتمع بتقاليده وقوانينه وعلاقاته وأفراده ، وتجد فيه كذلك الأزمنة والأمكنة والأشياء ومختلف المؤثرات التى ندركها بحواسنا ونتأثر بها تأثرا يمكننا من استعادتها ومن التأثر بها فى خبراتنا التالية . ويتقدم نمو الأنا مع تقدم نمو الشخص فى بيئه المعينة . . وكأنما تتميز الأنا عن الطاقة الحيوية الغريزية بعد اتصال هذه بالواقع . وتتصف الأنا بأنها شعورية ، ويقصد بهذا أن مكوناتها يمكن الشعور بها أو بآثارها . يضاف إلى ذلك أنها عادة منطقية معقولة ، فهى تميل إلى ترتيب النتائج
على مقدماتها ترتيبا منطقيا ، وهى خلقية كذلك ، إذ أنها تميل عادة إلى أن تكون تصرفاتها فى حدود المبادئ الأخلاقية التى يقرها عالم الواقع (١)
وتصنف الأنا فوق هذا بأنها حلقة الاتصال بين الطاقة الغريزية وبين العالم الخارجى ؛ فالأنا هى التى تتصل بعالم الواقع لتحقيق النزعات الغريزية بالصورة التى تراها خلقية معقولة . وفوق كل هذه الصفات فإن الأنا هى تتصل اتصالا مباشرا بعالم الواقع . ويلاحظ أن الأنا تغفل فى ساعات النوم
والخلاصة أن الأنا شعورية ، منطقية ، خلقية ، تتصل مباشرة بعالم الواقع ، وتعمل كحلقة اتصال بين النزعات الغريزية وعالم الواقع ، ثم إنها تغفل فى ساعات النوم .
وهذه الصفات الخاصة بالأنا ( أو بالشعور الواعى ) سيتضح لنا تماما - عندما نتقدم فى البحث - أنها ليست هى الصفات اللازمة فى العملية الإبداعية الفنية ، وأن الأدب أو الفن بوجه عام ) يتم - عادة - فى حالات أخرى منافية ، وبالجملة سنرى أن الفن ليس مصدره الأنا أو الوعى - ذلك المنطقى الخلقى الخ وإنما مصدره شئ آخر . وقد قال الفيلسوف الألمانى هارتمان فى ( فلسفة الشعور ) :
إن التفكير الشعورى يقتصر علي النقد والإنكار والمقابلة والتصحيح والتصنيف والقياس والموازنة والربط واستنتاج العام من الخاص ، وترتيب الحالات الخاصة تبعا للقاعدة العامة غير أنه لا يمكن أن يبدع فى الإنتاج أو يفتن فيه ، إذ يعتمد الإنسان فى ذلك على اللاشعور كل الاعتماد (٢)
ونتقدم مع فرويد فى تحليله للنفس فنجد العنصر الثانى : الذات العليا (٤) والذات العليا تتكون منذ الطفولة ! فالطفل يزن الأمور والأشياء ويقدرها بحسب تقدير والده أو من يعيش معه وبتوجيه منه . وقد يكون الطفل معجبا بوالده محبا له لأنه يجمع بين مظهرى القوة والعطف . فيتقمص الطفل شخصية والده تقمصا يترتب عليه توجيهه لسلوك نفسه وتوجيهه لسلوك غيره . . وبعبارة أدق فإن فى نفسه جانبا هو عنصر السلطة المختصة ، وهو الذى يقوم بعملية الزجر والتوبيخ . . وهذا العنصر مركب لا شعورى ( ٥ ) وهو
لا يفترق عن الضمير المسيحى المألوف ، أو إله سقراط المتغلغل فى كل شئ . God within (١)
وتتلخص الصفات الأساسية للأنا العليا فى أنها الناقد الخلقى الأعلى الذى يشعر الأنا بالخطيئة ( ٢ ).
ويتضح من هذا أن الأنا العليا مكلفة بالأنا ورقيبة عليها ، وهى بذلك لا دخل لها فى عملية الإبداع الفنى لأن الأنا كما رأينا - ليس ميدانها العمل الفنى .
وأخيرا يأتى العنصر الثالث : الهى ( ٣ ) ؛ فبتكوين كل من الأنا والأنا العليا لا يقضى على المنابع الاساسية للدوافع الغريزية ، وإنما تظل هذه حية مندفعة للتعبير عن نفسها . ولا يمنعها من التعبير عن نفسها إلا الأنا العليا ، وإلى حد ما الأنا . ويرى فرويد أن هذا الجانب يلعب دورا هاما فى حياة الإنسان ويسميه الهى . ومن خصائصها أنها لا شعورية وأنها لا تتجه وفق المبادئ الخلقية ، وإنما تسير على قاعدة تحقيق اللذة والابتعاد عن الالم ، ثم إنها لا تتقيد بقيود منطقية . ومن مركباتها النزعات الفطرية الوراثية والمكبوتة ويقال - حسب رأى فرويد - إن أهم هذه المركبات هى النزعة الجنسية (٤).
وهنا نستطيع أن نخلص إلى النتيجة التى نريدها . فإذا كان الفن - بحسب رأى هارتمان السابق - هو عمل اللاشعور ، وكان اللاشعور هو خاصية الهى ، وكانت الهى لا تتجه وفق المبادئ الخلقية ولا تتقيد بقيود منطقية ، وكان من مركباتها النزعات الفطرية الوراثية التى أهمها النزعة الجنسية ، فإن الفن - بالتالى - يكون فى أصله الأصيل صدى لتلك النزعة الجنسية ( بمفهومها الواسع عند فرويد ) وعملنا الآن أن نتبين الخطوط أو الحلقات الموصلة بين الطرفين ٤ - وقد عزز فرويد نظريته بفهمه الخاص لظاهرة الكبت . " وقد نشأ هذا الفهم من دراسته للظاهرة التى تبدو - من وجهة النظر المعقولة - لغوا ، فى مثل الرغبة اللاواعية عند الابنة فى أن تحتل مكان أمها فى حب أبيها ( ٥ ) ، أو الرغبة اللاواعية عند الابن فى أن يحب أمه ويحتل مكان أبيه فى ذلك ( ٦ ) . وقد منعت هذه الرغبات - منذ بداية
التاريخ المدون - بواسطة أقوى المحرمات الدينية والاجتماعية ، وكان نتيجة ذلك أنه صار ينظر إليها باعتبارها غير طبيعية . . وقد وجد فرويد أن مثل هذه الرغبات تتمثل بوضوح فى الأحلام ، فى الوقت الذى لم يتضح له فيه هذا من سلوك مرضاه الواعى اليقظ عندما حلل هذا السلوك بألفاظ الكبت . ومن هنا فهم أن الدوافع الطبيعية عندما توصف بأنها خطأ ، فإن من الممكن أن تكبت ، ولكنها لا تنمحى ، بل تبقى فى اللاواعى ، حتى إن لم يعد العقل الواعى يعرفها ( ١ ) . فوظيفة الكبت إذا هى منع النزعات النفسية من السير فى طريقها الطبيعى . . وهذا المنع لا يقضى على النزعات النفسية ، فهى تظل قوة متحفزة للظهور ، ولكنها تبقى مع كل هذا مختفية فيما يسمى باللاشعور (٢) وهى تحاول في كل وقت أن تطفو علي السطح وأن تظهر بصورة إيجابية ، ولكن الذات العليا ( والأنا فى بعض الأحيان ) ما دامت منتبهة وواعية فإنه لا مجال لطفوها وتحققها . فهى إذا لا تظهر فى اليقظة وإنما تلتمس الفرصة التى يغفل فيها الأنا والذات العليا وهى فترة النوم ، فتتحقق بصورة ما فى الأحلام ، سواء أكانت أحلام النوم أم أحلام اليقظة . " وفى اللاوعى تتخذ ثيابا رمزية ينظر إليها العقل الواعى على أنها كلام فارغ وهو فى الحقيقة لا يعرف أهميتها (٣ ) .
فالرغبات المكبوتة إذا تجد مجالا للظهور فى الأحلام ، وهى تظهر على شكل رموز . " وقد ألقى فحص المحلل النفسى للأحلام وأحلام اليقظة فيضا من الضوء على عمل العقل عند الفنان . . فإن العمل الإبداعى عند فنان ما - كما هو الشأن فى حلم اليقظة - هو إلى حد بعيد عملية لا واعية ( ٤ ). على أن القول بأن العمل الإبداعى عملية لا واعية ليس جديدا علينا الآن ، وإنما المهم هو ذلك الربط بين العمل الفنى وبين الأحلام . ونحن إذا كنا نحاول الآن أن نجد الحلقة التى تربط العمل الفنى بالنوازع الجنسية فإن الأحلام هى تلك الحلقة المنشودة . فهناك نوازع جنسية مكبوتة لسبب أو لآخر ، وهى مكبوتة فى اللاشعور ، فليست تستطيع الظهور إلا فى حالات الغفلة التى تصيب الوعى .
فتظهر عندئذ ، ويفرغ اللاشعور شحنته فى شكل رموز لا يقبلها العقل الواعى بصدر رحب ، بل ربما اعتبرها لغوا ، وليس ما يتحقق فى الأحلام - فى الواقع - شيئا آخر يغاير فى طبيعته ما يتحقق فى العمل الفنى . ويؤكد جوته نفسه " أنه كتب أحسن قصصه فى أثناء فترة نوم حالمة غريبة يقارنها هو بحالة النائم فى أثناء السير Somnambulist وإذا نحن بحثنا عن مثل من الكتاب الأحياء فإن برفسور هوسمان على استعداد لأن يخبرنا عن الطريقة التى كتبت بها أشعاره الخاصة حيث يقول : إننى اعتقد أن إنتاج الشعر عملية فيها من الانتباه أقل مما فيها من الغفلة اللاإرادية (١ ) .
وإذا كان الحلم - فى الأغلب الأعم - يشبه حلم اليقظة فى كونه سلسلة من أفكار وصور ليس بينها كبير علاقة ( ٢ ) فإن العملية الإبداعية كثيرا ما تتخذ فيها الرموز نفس الصفات ، فكما يقول ودورث : إن الحالم لا يعمل ، وإنما هو يلعب لمل الفراغ ، وصوره تأتى - على نطاق واسع - بواسطة الارتباط الحر مع وجود الرغبات الشخصية الموجهة (٣) ، فإن العمل الفنى أيضا فيه من صفة اللعب هذه قدر كبير.
العمل الفنى تدفع إليه أسباب هى التى تدفع إلى الحلم ، ويحقق من الرغبات المكبوتة فى اللاشعور ما يحققه الحلم وهو كذلك يتخذ من الرموز والصور ما ينفس عن هذه الرغبات ، ويخلق بين هذه الرموز أو الصور علاقات بعيدة وغريبة فى الوقت نفسه - على الأقل بالنسبة للعقل الواعى . " فحيث يعبر العقل الواعى عن فكرة ( ا ) و (ب) باستخدام حرف العطف ، فإن اللاوعى يجعل منهما صورة واحدة . . وحيث يربط العقل الواعى بين شيئين ربطا سببيا (بما أن ا مرغوب فيه فإن ب مرغوب فيه ) فإن اللاوعى يضع ب مكان ا . . وحيث يدرك العقل الواعى أن الشخص يمكن أن يحصل على ا أو ب لا كليهما ، فإن اللاوعى يجمع بينهما فى مكان واحد ( ٤ ) وهكذا تنقلب كل المعايير المنطقية عند العقل الواعى بحيث يظهر اللاوعى
وكأن له منطقا آخر معاكسا فى الغالب لمنطقى ذلك العقل الواعى . وهذه فى الواقع هى صورة اللعب ؛ فقد لوحظ أن النشاط فى حالة اللعب - أيضا - نشاط حر ثقافى وأما فى حالة العمل الجدى فإننا نجده مقيدا توجهه النظم المفروضة من الخارج . وبذلك يكون اللعب نشاطا تلقائيا حرا ممتعا ، ويكون معبرا عن الحالة النفسية الداخلية تعبيرا صادقا ( ١ )
(يتبع )
