أعتقد أن شخصية النبى محمد لم تُدرس حق الدرس إلى اليوم فى البيئات الإسلامية لأن المسلمين يجعلونه رسولاً فى جميع الأحوال: فهو لا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحى من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلى بإشارة من جبريل
ومعنى ذلك أن شخصية محمد فى جميع نواحيها شخصية نبوية لا إنسانية
يضاف إلى هذا أن جمهور المسلمين يعتقدون أن النبوة لا تُكتَسب، وهم يعنون بذلك أنها لا تنال بالجهاد فى سبيل المعانى السامية، وإنما هى فضل يخص الله به من يشاء
وإنما غلبت هذه العقيدة لأن الإسلام نشأ فى بيئات وثنية، أو خاضعة للعقلية الوثنية، والرسول لم يَشْقَ بين قومه إلا لأنه حدثهم بأنه بَشرٌ مثلهم، ولو أنه كان استباح الكذب فحدثهم بأن فيه عنصراً من الألوهية لوصل إلى قلوبهم بلا عناء
الواقع أن محمداً كان آية من آيات التاريخ، ولكن كيف؟ لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم. فبنوا آدم يصلحوا لكل شىء إلا سماع كلمة الحق
أراد الله أن يكون الإسلام إعزازاً للفكرة الإنسانية، ولكنْ بنو آدم يؤذيهم ذلك؛ لأنهم خضعوا لألوف أو ملايين من الأوهام التى تشل القلوب والعقول
كان محمد إنساناً بشهادة القرآن، والقرآن كتاب سماوى نص على أن محمداً إنسان، وبنو آدم يؤذيهم أن يتلقوا الحكمة عن رجل يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق!
وفى غمرة هذه الضلالة نُسيت النواحى الإنسانية فى حياة الرسول وإلا فمن الذى يصدق أن رجلاً مثل محمد يضيع من عمره أربعون سنة بلا تاريخ؟
ولأى سبب ينسى الناس أو يتناسون تلك المدة من حياة الرسول؟
إنهم يصنعون بتاريخ الرسول ما صنعوه بتاريخ الأمة العربية لأنهم أرادوا أن يخضعوا خضوعاً تاماً للمعجزات، فالنبى لم يكن رجلاً عبقرياً وإنما خصه الله بالرسالة فكتب له الخلود، والعرب لم يكونوا أمة قوية وإنما ارتقوا بفضل الرسول
وما يجوز عند جمهور المسلمين أن يقال: إن الله خصَّ محمداً بالرسالة، لأنه كان وصل إلى أسمى الغايات من الوجهة الإنسانية، ولا أن يقال: أن الله اختار ذلك الرسول من العرب، لأنهم كانوا وصلوا إلى غاية عالية من قوة الروح.
ماذا أريد أن أقول؟ أنا أمشى على الشوك وأنا أقيد هذه الفكرة الفلسفية، لأن بنى آدم يحتملون جميع الأفكار، إلا الأفكار المتصلة بحيوات الأنبياء
ثم ماذا؟ كان محمد إنساناً قبل أن يكون نبيًّا، وذلك من أعظم الحظوظ التى غنمها فى التاريخ، فسيأتى يومٌ قريب أو بعيد يثور فيه الناس على الأمور الغيبية، ولكنهم لا يستطيعوا أن يثوروا على عبقرية محمد.
كان محمدٌ فى سريرة نفسه إنساناً يخطئ ويصيب، بدليل ما وُجَّه إليه من اللوم أو العتاب فى القرآن؛ وهو قد خضع للضعف الإنسانى فذرف الدمع السخين يوم مات ابنه إبراهيم، وهو
قد عانى الحب والبغض كسائر الناس، وهو قد توجع من ظلمات الخطوب، وهو قد تألم من غدر الأصدقاء، ثم لم ينج من الكرب عند سكرات الموت
أحبك أيها الرسول! أحبك لأنك كنت إنساناً له ذوقٌ وإحساس، ولم تكن كما يصوَّرك الجاهلون الذين رأوا عظمتك فى أن تكون حاكياً لوحى السماء، وما أُنكر وحى السماء، ولكنى أومن بأن فى السريرة الإنسانية ذخائر من الصدق والروحانية، وأنت أول نبى أعز السريرة الإنسانية.
أليس دينك هو الدين الذى تفرد بالنص على أن المرء يتصل بربه بلا وسيط؟ أحبك أيها الرسول وأشتهى أن أتخلق بأخلاقك السامية. أحب أن أكظم غيظى كما كنت تكظم غيظك. أحب أن أسلم بجهادى من شهوات النفس كما سلمت بجهادك من شهوات النفس. أحب أن أفرَّ من الشيطان كما فررت من الشيطان، على شرط أن أحب الحياة كما أحببت الحياة
أتدرى لماذا أحبك أيها الرسول؟ لأنك أول من شرع الديمقراطية بين الأنبياء. ألست أنت الرجل الذى كان يتبذل فى أكله ويقول: (إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد)
أتدرى لماذا أحبك أيها الرسول؟ أحبك لأنك جعلت الحرب فى سبيل الحق شريعةً من الشرائع وهى مزية إنسانية، وكان الأنبياء من قبلك يكتفون بالتفكير فى عجائب الملكوت!
أحبك لأنك أعلنت حبك لطيبات الحياة واحتقرت الرهبنة والانزواء فى العابد والصوامع
أحبك لأنك انتقلت من المعلوم إلى المجهول أحبك لأنك أعززت الشخصية الإنسانية يوم اعترفت بأنها صالحةٌ للخطأ والصواب
ولكن ما رأيك فيمن يقاومون الحرية الفكرية باسم الغيرة على دينك؟
ما رأيك فيمن لا يرضيهم أن تكون إنساناً يتذوق أطايب
الحياة ويلهو أحياناً بالمزاح المقبول؟ ما رأيك فيمن يحاربون الفنون والآداب باسم الدين؟ ما رأيك فيمن يتوهمون أن الشخصية النبوية مجردة من البهجة والأريحية؟
ما رأيك فيمن يُخرِجون من فردوس العقيدة الصحيحة كل من يتَّسم بسمة الحب لأطايب الحياة؟
أنت حاربت الزهد، وحاربت العبوس، وحاربت اليأس، ولكن بعض الناس يرون الإيمان لا يكمل إلا عند من يغرقون فى لجج المسكنة والكآبة والقنوط
كنت إنساناً أيها الرسول قبل أن تكون نبيًّا، وتلك الإنسانية هى التى فتحت صدرك للصفح عن هفوات الناس، وهى التى جعلتك تنظر إلى ضعفهم بعين العطف، وهى التى قضت بأن تذوق ملوحة الدمع فى بعض الأحيان
أنت نزهت نفسك عن الشعر، الشعر المحبوس فى قواف وأوزان، ولكنى لا أنزهك عن الشاعرية العالية التى تواجه الوجود بنظر ثاقب، وقلب حساس
وكيف تخلو من الشاعرية وقد خلوتَ إلى مناجاة القلب فى غارِ حراء؟ كيف تخلو من الشاعرية وقد كنت رجلاً فحلاً يجيد افتراع المعانى؟
أنا أعرف لماذا نزهت نفسك عن الشعر أيها الإنسان الحساس إنما نزهت نفسك عن الشعر لأن الشعراء فى عصرك لم يكونوا عظماء الأرواح
وإلا فأى شعرٍ فاَتك وأنت تدعو إلى التفكير فيما خلق الله من غرائب وأعاجيب؟
أى شعر فاتك وأنت تجعل السير فى الأرض من واجبات الرجال؟ أى شعرٍ فاتك وأنت الذى أشار بالأفضلية فى الإمامة لمن وهبهم الله حسن الوجه وجمال الصوت؟
أى شعرٍ فاَتك وكان شخصك الكريم قيثارة تتغَّنى بمحاسن الوجود؟
الآن عرفتُ لماذا يضن عليك بعض أتباعك بصفة الإنسانية، إنما فعلوا ذلك لأنهم فى ذات أنفسهم لا يؤمنون بعظمة
الإنسانية، أما أنت فقد رميت بالكفر كل من يريد يخلع عليك ثوب الألوهية لأن الله خصك بأجمل مزية من مزايا الإنسانية وهى الصدق
لقد فكرتُ مرات كثيرة من الاقتراب من روحك فلم يعقنى عائق لأن بينى وبينك وشيجةً من الإنسانية
ودعانى الشوق مرة إلى مسامرة خيالك فرأيتك إنساناً كاملاً لا تقع عينه على غير الجميل من شمائل الأصدقاء
وصحبتك مرةً فى بعض غزواتك فهالنى أن تكون رجلاً نبيلاً يصبر على الظمأ والجوع والأذى فى سبيل الحق
وشهدتك وأنت تعانى الكرب من فضول الناس وتزيّد المنافقين وتقوّل السفهاء، فعرفت أنك إنسانٌ ممتاز، لأن الابتلاء بأذى الناس لا يكون إلا من حظوظ الممتازين بين الرجال
وشهدتك يوم الموت وأنت تواسى ابنتك فتقول: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) فعرفت أن الكرب فى الدنيا مقصور على عظماء الرجال
شهدتُ من أخلاقك وشمائلك ما شهدتُ، أيها الإنسان الكامل، فزدتُ اقتناعاً بأنك على خلقٍ عظيم
ولكن ما هى العظمة فى خلقك، أيها الرسول؟ أنت رويت القرآن عن جبريل فيما يقول المؤمنون، وأنشأت القرآن فيما يقول الملحدون. وهذا القرآن فيه لوم كثير وجه إليك، فإن كان وحياً من السماء فأنت غاية الغايات فى أمانة التبليغ، وإن كنت أنت منشئ ذلك الكتاب كما يتقول الملحدون فأنت غاية الغايات فى أدب النفس، لأنك سجلت ما آخذت به نفسك فى كتاب مجيد
وأين الرجل الذى يدين نفسه بنفسه كما صنعت أنت حين رويت القرآن أو حين أنشئت القرآن؟
لقد وضعت أعظم دستور للسريرة الإنسانية، وهو دستور الصدق، يا أصدق من عرف التاريخ من الرجال
أما بعد فقد ارتاض القول بعد جموح، وصار من السهل أن أحكم بأن النبوة عهد من عهود العظمة فى الطبيعة الإنسانية، ولولا خوف الفتنة لزدت هذا المعنى تفصيلاً إلى تفصيل
محمد إنسان، ولكنه إنسان مظلوم، لأن أتباعه جردوه من فضل الاجتهاد فى سبيل الخير والحق والجمال
وهنا تظهر مزية جديدة لذلك الرسول هى نكران الذات، فلو كان محمد رجلاً من أمثال فلان وفلان وفلان من الذين نقلوا أممهم من حال إلى أحوال لملأ الدنيا بالحديث عما وضع للحياة من أصول وقوانين
ولكن محمدا كان يحبّ أن يعيش مسكيناً وأن يحشر بين المساكين، وقد جزاه الله خير جزاء، فخصه بالعظمة فى الحياة وبعد الممات
محمد بشرٌ مثلكم يا بنى آدم، وقد دعاكم إلى التخلق بأخلاقه، ولم يكتف بذلك، بل دعاكم إلى التخلق بأخلاق الله إلا الكبرياء
فهل رأيتم إنسانية مثل هذه الإنسانية؟ محمد تحدث عن هفواته - إن كان له هفوات - ليدلكم على أن العظمة الحقيقية لا تكون إلا باتهام النفس والحذر من طغيان الأهواء
كان محمد يقول فى صدر خطبته (أيها الناس) أو (يا عباد الله) وأنتم تقولون فى صدور الخطب (أيها السادة) أو (سيداتى، سادتى)
فتأملوا الفرق بين العبارتين لتعرفوا أنه كان يبتعد عن تملق الأهواء.
استطاع محمد أن يتحدث عن هفوات الأنبياء، وعجزتم عن الحديث عن هفوات الزعماء
فاعرفوا - إن شئتم - أن عظمة محمد من الوجهة الإنسانية هى تمجيد الصدق والخوف من زيغ القلوب
قد تقولون: إن الله أوحى إليه أن يكون كذلك. وأجيب بأن أكمل خصيصة من خصائص الرجال هى الصلاحيةُ لتقُّبل وحى السماء.
وللسماء وحى فى كل وقت، ولكن أين القلوب التى تسمع؟ إن محمداً حدثكم بأن الرجل يستطيع أن يخاطب ربه بلا وسيط.
فأين المسلم الذى فهم أسرار الحروف واتجه بقلبه إلى مناجاة فاطر الأرض والسموات؟
أين المسلم الذي تأدب بأدب الرسول فعرف أنه مسئول أمام الله لا أمام الناس؟
والآن أرجع إلى نفسى فأقول:
كان محمد إنساناً، ولكنه كان أعظم من جميع الناس لأنه لم ير الغنيمة فى غير المعنويات.
كان محمدٌ يستطيع أن يبنى لنفسه داراً تشبه إيوان كسرى؛ وكان يستطيع أن يبنى لنفسه قبراً يشبه هرم فرعون، ولكنه آثر أن يحيا ويموت وهو فى مَتْربة المساكين.
إن محمداً ظلم نفسه لينتصر ويفوز، وقد انتصر وفاز. إن محمداً حرم نفسه أبهة الملك، وباسمه عاش الملوك. إن محمداً حرم نفسه الشهرة بإجادة البيان، وبفضل الكتاب الذى بلّغه عاش البيان. فيا رسول الله ويا إمام العرب والمسلمين إليك أوجِّه أصدق الثناء.
