الآن أنجزت قراءة كتاب ضخم! أنه كتاب النيل، وكفى به تعريفا أن نقول: ألفه أميل لودويغ وترجمه عادل زعيتر!
أنه يقع فى (٧٤٥) صفحة، أنيق الطبع، صقيل الورق، شأن ما تطبعه دار المعارف بمصر
هذا الكتاب العظيم، قضى لودويغ فى تأليفه ست سنوات وقام من أجله بثلاث رحلات، درس فى أثنائها جميع النيل الأبيض فى أوغندة والسودان والنيل الأزرق فى الحبشة حيث بلغ منابعه، وفى السودان. ومما يذكر أن المغفور له (الملك فؤاد) قد وضع باخرة تحت تصرف المؤلف تيسيراً لمهمته وعرفانا بأهميتها
ولاح النيل للودويغ كعظماء الرجال فاستنبط من طبيعته تسلسل حوادث حياته، وأبان كيف أن الوليد وهو يتفلت من الغابة البكر ينمو مصارعا ثم تفتر همته ويكاد ينفد ثم يخرج ظافراً، والنيل فى تمام رجولته يقاتل الإنسان فيقهر ويروض ويوجب سعادة الناس ولكنه قبل ختام جريته - يسبب من المآسى أكثر مما فى شبابه، فقارئ الكتاب إذن إنما يقرأ وصف حياة، لا كتاب دليل، وإنما يقرأ مغامرات النيل لا مغامرات لودويغ
وأول ما يأخذك فى الكتاب هذا الوصف الذى امتاز به لودويغ وتلك الملاحظة الدقيقة التى أثرت عنه، فيبهرك وصفه للطير وللبعير وللفيل، ويبهرك وصفه للتمساح والحوت والنعامة
والزرافة والبقر الماء.. ويبهرك كذلك وصفه للشعوب وعاداتها وطبائعها، وهو ينقلك من أقزام الباكوا إلى الزنوج إلى أكلة لحوم البشر إلى شعب الباهيما فى أوغندا إلى الحبشة ليعرفك
بقساوستها وبشركك فى أعيادهم وطقوسهم ويجمعك بمسلميها وبهودها ثم ينتقل بك إلى النوبيين
هذا الوصاف البارع والملاحظ النبيه لا ينتقل بك فى وصفه انتقالا جغرافيا ليطلعك فيه على دقائق شعوب الوادى ونباتاته وحيواناته فقط، وإنما يطوى بك الزمن القهقرى ليريك بعينيك حياة الفراعنة، ثم يعرض عليك رقا سينمائيا يريك فيه بسرعة الرق السينمائى. تتابع الأحداث فى مصر، فترى الفرس والأغارقة، وترى إنشاء الإسكندرية - وهو أهم حادث فى تاريخ مصر - وتجتلى طلعة كليوباترة التى عنى المؤلف بسيرتها (وله كتاب مشهور) ، وترى المسيحية تدخل مصر، وترى الإسلام، حتى إذا انتقل بك إلى الفاطميين والمماليك رأيت عجبا ورأيتك فى زفة العرس أو فى موكب الختان أو فى صميم خناقات الأزهريين، وينتقل بك إلى العهد النابليونى فالعلوى ويجمعك بإسماعيل ويسرد لك قصة قناة السويس وينتهى بك إلى القول الفاصل الذى تردده اليوم فى ثورتك الراهنة على الإنجليز؛ أنه يقول: (والحق أن العالم بأجمعه اسفاد من فتح البرزخ وإن مصر وحدها هى التى خسرت به... وكان إسماعيل رلغبا فى إنشاء القناة من أجل مصر لا أن تكون مصر خادمة للقناة) ثم يهمس فى أذنك: (إن الملك فؤادا قد أخبرنى بأن إسماعيل كان عازما على التخلص من متبوعة الضعيف بأن يعلن فى افتتاح القناة فى خطبه مدوية استقلال مصر وينادى بنفسه ملكا، ولكن هذا المشروع قدمنى بالإخفاق فى الدقيقة الأخيرة لما كان من اعتراض دولة أجنبية)
وإذا ما وصل بك إلى عرابى وحركته أخذ عليه فقدانه حزمه فى الساعة الحاسمة، ولكنه أنصفه، ونقل إليك قول الجنرال غوردون الإسكتلندى فيه: (ومهما يلعب به عرابى فإنه سيبعث قرونا فى ذاكرة الشعب الذى لن يقول ثانية: خادم الخاضع) وقد يزدهيك قول لودويغ فى الحديث عن ضرب الإسكندرية والغزو البريطانى: (إن الذى لا ريب فيه
هو أن المصريين قاوموا ذلك الغزو الأجنبى فى أسابيع بحمية لم يبدوا مثلها فى ألوف السنين، كما أنهم أظهروا من العزم والشعور القومى ما لم يظهروا فى تاريخهم الطويل) ويروى لودويغ أن يعرفك بكرومر على تقدير روحه العلمية ونزاهته وعطله من الزهو وإشعاره الفلاح المصرى أنه مساو للباشا أمام الله والقانون، ولكنه يحملك كذلك على استنكار رعاية كرومر للامتيازات الأجنبية، ويثير فيك النقمة من سياسة التعليم فى عهده، وأخيرا ينقلك إلى الثورة المصرية ويعرفك بسعد زغلول: (ويسأل مكدونالد رئيس الوزارة البريطانية زغلولا عن المكان الذى يود أن ترد إليه كتائب الإنجليز قائلا: إلى إنكلترا يا سيدى الوزير...)
أما معاهدة سنة١٩٣٦ فقد يروقك أن تعلم - وأنت الذى صفقت اليوم لإلغائها - أن لودويغ قال فيها: (إنها اتفاق لا يحقق جميع آمال المصريين لأن الإنجليز سيقضون سنين طويلة لإنشاء بضع ثكن، ولأن الجلاء عن القاهرة لا يؤدى إلى الجلاء عن قناة السويس. ومع ذلك تسير مصر لتستقل هى والسودان، ويتوقف كل شىء فى السنوات الآتية القليلة على أحد البلدين يظهر فيه القطب السياسى الأعظم اقتدارا، وسيعرف هذا السياسى كيف ينتفع بالحرب القادمة لحل تلك المسألة)
لقد قدمت للقارئ لودويغ وصافا مبدعا للحيوان والنبات، للشعوب والعادات، للأحداث والأحوال، ولكنني أحب أن أقول أنه وصف السدود - كسد أسوان - وقارن بينها وبين سدود العالم، ووصف الأقنية والرى وحقا لا يستطيعه غير مهندس رى قدير...
وفى أثناء ذلك كله يحرص لودويع على استيفاء عنصر المقارنة والتشبيه، فيقارن بين محمد ونابليون مثلا، ويقارن بين زغلول وعرابى، ويحرص فيما يحرص على عنصر الحكاية الشائقة فيلذ لك أن تقرأ قصة بلقيس وملوك الحبشة، وتروقك حكاية الفرعون أمازيس الذى يعزل القضاة اللذين برءوه فى فتائه لأنهم صدقوه مثبتا جهلهم... ويكافئ من حكموا عليه فى شبابه لما أبدوه من فطنة... ويأمر بصب طشت من ذهب كان يغسل فيه رجليه
وأن يصنع منه تمثال للرب... ويبجل الندماء هذا التمثال ويخبرهم أمازيس بأنه صنعه من الطشت الذى كان يبصق فيه..) وتروقك حكاية النصرانية فى مصر ودور القديسين بولس وأنطوان... وقد يدهشك أن تعلم أن ملك الحبشة عرض الزواج من الملكة فيكتوريا، وأن حربا نشبت على أثر الرفض، وأن تيودور ملك
الحبشة لم يلبث حتى انتحر. . . وسيأتيك فى الكتاب
حديث النجاشى منليك فى معركة عدوى، وحديث شامبليون الدءوب، وطرائف عن محمد على فى السودان ومقتل ابنه وما كان من أمر محمد المهدى والتعايشى ومقتل غوردون وحملة كتشنر ومقتل الخليفة ونبش قبر المهدى وقصة مارشان وفاشودة
وتروقك كثيرا وأنت تقرأ الكتاب لفتاة للودويغ بارعات وتعليقات طريفات وأحكام تشفى الصدور، فإذا تحدث عن الزنوج قال. (إنهم يجهلون أن الرجل فى أوربة لا يحق له أن يتزوج أكثر من امرأة واحدة ولكنه ينال زوج جاره بلا جزاء على حين يمكن الزنجى هنا أن ينكح عدة أزواج ولكن من غير أن يأخذ زوج الجار بلا عقاب)
وحين يكون منبع النيل فى بلد آخر وتنافر الفريقان فصرف ساكن المجرى الفوقانى منبع الماء وجهته عن خبث فإن الاشتراع الدولى فى أمور الرى لا ينفع (إنه اشتراع وهمى ككل حق دولى)
وإذا تحدث عن الحكم الثنائي فى السودان قال: (إن هذا النظام يثير الجميع لتوزيع الحقوق بين الفريقين توزيعا غير متساو يمكن أن يقال إن هذا قران شرقى تقدم به الزوج ما لها وتضع أولادها من غير أن تنال فى مقابل ذلك غير حق الحياة، أى ماء النيل، وهى مع ذلك زوجة شرعية تمر فى الأحوال العظيمة تحت أقواس نصر، راكبة حصانا بجانب بعلها، مغمورة بالحلى محجبة تماما...)
ولودويج إذا ما تحدث عن دخول مصر فى الإسلام ووصف ما سبق ذلك من فوضى قال: (ولكن القضاء على تلك الفوضى كان يتطلب أمة جديدة لم يقدر على استعبادها الآشوريين والفرس والمصريون والبطالسة والرومان) ، ولودويع يتحدث عن هوان
المرأة لدى المسلمين وما رافق ذلك من عادات، ثم يقول: (ومن المحتمل أن تكون هذه العادات قد عاقت تقدم الإسلام الذى هو أكثر الأديان رجولة، ومن المحتمل أن يكون هوان المرأة قد أفقده العالم بعد أن كان فى قبضته)
وسوف يعجبك قوله فى محمد على وما يراه من خير للبلد فى ذبح المماليك وأنه قد قام بأول تجربة لاشتراكية حكومية؛ وأن حكمة نظام استبدادى فى صلاح إدارى وأنه أول من ضمن حرية الأديان وسلامة جميع طبقات المجتمع وأموالها
وإذا انتقل بك حديث الحشيش وأطرفك بأنبائه وقارن بينه وبين الغازات السامة قال لك كذلك (إن العدالة التي تحكم على متعاطى المخدرات بالسجن سنوات ولا تقضى بحبس تاجر المخدرات التركى غير بضعة أشهر لعدالة عرجاء)
ولعله من أبرز ما لحظه المؤلف تأثير الإقليم فى الشعب المصري وقد سمى الشمس والنيل إلهى ذلك الإقليم. والشعب المصرى مدين للشمس بالقناعة ومرح، الحياة ومدين للنيل بروح النظام والطاعة (وهنا قامت دولة فجعلت من فرعون إلاهاً وجعلت من العمل ضرورة ومن الرى فنا ومن العقلى والجلى مبدأ... وفى هذا البلد يظهر أن الشمس خفضت إرادة التمرد بما فرضه من حساب، ومع ما كان من اختراع هذا الشعب أموراً كبيرة قبل الشعوب الأخرى بألوف السنين - حاشا ما تم فى وادى الفرات - ومع ما كان من عظمة هذا الشعب بعلمه وآثاره التى تنطوى على حسابات بادية حتى فى أقدم التماثيل، كان هذا الشعب العملى، المقدام. عاجزاً عن إيجاده لنفسه عالما علويا، فلم يكن العالم المنوع الذى تصوره عما بعد الموت غير صورة عن حياتهم فى هذه الدنيا، فقد جعلهم خوفهم من العنصر، من النيل، أتقياء، اجتماعيين، محافظين)
وظاهرة الكتاب الأولى هذا العطف الذى يثيره فى نفسك على الفلاح المصرى، وذاك الرثاء البليغ لحاله والوصف الأليم لمعاشه وطرز حياته منذ أقدم العصور حتى اليوم، وتكاد صفحات الكتاب تدعو إلى تحريره وإلى النهوض به
وأما الجهد الذى بذله الأستاذ الجليل عادل زعيتر فى التعريب
فجبار. وأنت إذا لمست قدرته على إيجاد الأسماء العربية للمئات من النباتات والحيوانات، وأنت إذا أمعنت فى تعريبه للمصطلحات العلمية وفى إشتقاقاته أنعمت أن جهده الفردى هو جهد مجمع علمى كامل الأدوات؛ وأيقنت أنه فى وفرة إنتاجه السنوى وفى صحة لغته وقوة بيانه مؤسسة قائمة بذاتها. وما تقول فى من أتحف العربية بعشرين مجلداً ضخما من نفائس القرائح العالمية فى بيان ناصع وأسلوب متين؟
وقارئ كتاب النيل وعيره من معربات عادل زعيتر يدرك أنه الرجل الذى أعلى راية اللغة العربية وذلل أمامها كل صعب وأخضع لشوكتها أرقى اللغات؛ وبرهن على أن اللغة التى وسعت آى الله بها كتاب العظيم لن تضيق عن كتاب فى هذه الدنيا ما توفر على التعريب عالم نابغ، دءوب، ضليع كعادل زعيتر
هذا وقد تطغى على الأستاذ زعيتر أحيانا الناحية اللغوية فتظن أن الكتاب كتاب لغة، فتراه يطعم اللغة مقدارا من الكلمات الغير المألوفة، وتراه كثيرا ما يشكل الكلمات وكثيرا ما يؤثر غير الشائع على الشائع، وقد يكون هذا مأخذاً عليه فى رأى البعض ولا سيما فى كتب تكون فى أصلها غامضة الفكر والتعبير ككتب لودويغ. وقد يكون فى جنوحه إلى ذلك مقدارا فى رأى البعض الآخر من رواد الفوائد اللغوية
ولعل من مبتكرات المعرب الموفقة اجتنابه تكرار النسبة فى الكلمات المعربة خلافا لما اعتمده كتابنا فهو يقول: دبلمى وكلاسى وميكانى وبلجى.. بدلا من دبلماسى وكلاسيكى وميكانيكى وبلجيكي.. والمترجم حين يقدم لكتابه يرجو أن يكون قد قدم إلى إخوانه أبناء النيل هدية صغيرة ليعرب لهم بها عن مودته لوادى النيل، البلد الكريم الذى أحبه كثيرا
وفى الحق أن نقول للأستاذ زعيتر: إنها هدية كبيرة، ومن الحق أن نعيد القول:
هذا كتاب.. كفى به أن يكون عن النيل وأن يؤلفه أميل لودويغ وأن يعربه عادل زعيتر
القاهرة

