الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 406الرجوع إلى "الرسالة"

الهذيان

Share

أوشك الفجر أن يطلع، وتصايحت الديكة إيذاناً بطلائع  النور، فأخلدت الحجرة إلى السكون والصمت، كأنما أسلمها  أنين المرض الموجع وتأوه الإشفاق الأليم إلى الهمود. كانت  ترقد على الفراش امرأة شابة يبدو من اصفرار وجهها وذبول  خديها وشفتيها وتضعضع كيانها أنها تعاني وبال مرض يهتصر  شبابها. وعلى فراش قريب رقد شاب في مقتبل العمر يثقل  جفنيه السهاد، ويأبى القلق أن تلتقي أهدابهما، يطالع وجه المريضة  في حزن ثم يعطف رأسه إلى مهد جديد فيجري الحنان في عينيه  الذابلتين ويتمتم في رجاء صادق:   (اللهم صن حياة الأم  المسكينة. . . وطفلتنا البريئة). وكان الشاب من ذوي القلوب  الرقيقة والنفوس الندية بالرحمة والعطف. وكان على عهد صباه  يلذ لرفاقه أن يدعوه رجل البيت، لما طبع عليه من النفور من  المجتمعات والأندية، والاشتراك في المظاهرات التي تستهوي  أفئدة أقرانه، والانجذاب نحو البيت بسبب وبغير سبب؛  فكان يقضي نهاره في الحديقة يسقي أشجار البرتقال والليمون،  أو في السطح بين الدجاج والحمام؛ فإذا كان الخميس أعطى ذراعه  لشقيقته ومضيا معاً إلى السينما. ولذلك أخذ يفكر في الزواج  تفكيراً جدياً منذ اليوم الذي عين فيه مهندساً بمصلحة الأشغال  العسكرية. وراح يقصد من مرتبه ما يقوم بنفقات الزواج  من هر وشبكة وهدايا وفرح، كما كان يفعل شباب الجيل  الماضي. فلم يكن يمضي عليه عامان خارج المدرسة حتى تزوج،  ولم يدهش أحداً أن تنعطف هكذا سريعاً إلى الزواج هذه النفس  المطمئنة إلى الحياة البيتية منذ نعومة الصبا، ولكنه كان سىء  الحظ، فما كاد يستدير عام ويستقبل طفلة حتى أصيبت زوجه  بحمى النفاس فزلزل بيته الهادئ المطمئن وارتجت حياته السعيدة.  وقد عرف منذ اليوم الأول للمرض ما الخوف وما الإشفاق

وما الجزع، واندفع إلى استدعاء أعظم الأخصائيين من الأطباء  حملة الباشوية والبيكوية غير مبق على مال أو ضان بثمين، حتى  اضطر إلى بيع المذياع وساعته الذهبية، ولو طلب إليه أن ينقل  دمه إليها لأداء إلى آخر قطرة. . . وبالغ في ذلك، فطلب من

مصلحته إجازة كيلا يفارق المريضة، وكان يرقب أعين الفاحصين  من الأطباء ويسألهم، ويطالع وجه زوجه ساعة بعد ساعة،  ويسأل العرافين، ويزور أضرحة الأولياء ويفسر الأحلام،  ملتمساً الطمأنينة في مظانها جميعاً. . .

وهل ينسى الليالي التي قضاها مسهداً قلقاً لا يغمض له جفن  ينظر ببصر حائر إلى الوجه الشاحب على ضوء المصباح الأحمر  الخافت؟. . . وكانت هي مسكينة تستحق الرثاء، تضطرب بين  النوم القلق واليقظة الحائرة، وبين النزاع والهذيان، وما هذا  الهذيان!. . . إنه ظاهرة عجيبة تدل على أن الإنسان قد يخون  نفسه كما يخون الآخرين. كان يصغي إليها وهي تذكر بلسان  متقطع أسماء أناس وأماكن وحوادث كثيرة، وكان شاركها  شهود بعضها، فجرى الابتسام على فيه، وترطب التهاب عينيه  المحمرتين بنظرة حنان. وفي ذات ليلة سمعها تناديه بصوت واضح  قائلة: (صابر) فهرع إليها متسائلاً: (نعيمة. . . هل تحتاجين  إلى شيء؟) ولكنه أدرك أنه خدع لأنها كانت مغمضة العينين  يابسة الفم كما يبدو ازدراد ريقها بصعوبة، فعلم أنها ماضية في  هذيانها الذي لا ينتهي فعاد إلى سريره، وما كاد يرقد مرة أُخرى  حتى سمعها تقول وكأنها تحادثه: (صابر. . . أنا متألمة خجلة)  فهز رأسه المثقل المتعب وقال لنفسه: (أنت متألمة بغير شك.  أعانك الله على ما أنت فيه، ولكن مم تخجلين! أن هذا الابتلاء  لا يخجل أحداً وإن كان يحزننا جميعاً) وظن أنها تألم لما يتكلفه  من حولها من العناء والسهر، فرمقها بنظرة حنان ورجا أن يكون  هذا الشعور من آي اليقظة والشفاء؛ واستدركت المرأة تقول:    (زوجي أحسن الأزواج؛ أما أنا فشقية. . . لست أهلا لوفائه)   فتنهد الشاب حزناً وتمتم قائلاً بصوت غير مسموع: (أنت أهل  لكل خير) . وأراد أن يناديها لعله ينتشلها من تيار أفكارها  المحمومة، ولكنها حركت رأسها بعنف على الوسادة وقالت بحنق:    (راشد. . . كفى وابتعد عني. . . أبتعد ودعني. . .)  وكان يهم  بمناداتها فاحتبس الكلام في فيه، وحملقت عيناه المسهدتان،  وبدا على وجهه الذهول والإنكار وجلس في فراشه وهو يتساءل:

رأي أحد هؤلاء الأقطاب - محصورا في قوله تعالى: (فأقم  وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل  لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (8) "

وصنيع كل من السابقين والحديثين هذا، وهو جذب الدين  نحو الأفكار الفلسفية وشرح العقيدة وحقائقها بآراء الفلاسفة،  شيء آخر يختلف اختلافاً جوهرياً عن محاولة تعليل مبادئ دين  من الأديان مما يسمى (حكمة التشريع)، ويختلف كذلك عن  تعليل العاطفة الدينية في الإنسان وضرورة وجود الدين في الجماعة  البشرية تبعاً لذلك مما يسمى (سيكولوجية الدين)

فتعليل مبدأ الزكاة في الإسلام مثلاً، وجعل حظ الذكر  في الميراث مثل حظ الأنثيين، ومبدأ صلاة الجماعة والحج. . .  وتعليل: لماذا كانت طبيعة الدين تحتم وجود أمور تعبدية  في العقيدة؟ أو لماذا كان الدين ضرورة اجتماعية وعنصراً أساسياً  في التنشئة والتهذيب؟ أو لماذا كان القانون المستمد من الدين  أشد أثرا على النفوس من القانون الوضعي به؟ تعليل مثل هذه  الأشياء غير شرح الحقائق الدينية التي ترد في أصل العقيدة  وفي كتاب العقيدة غير محددة وغير معرفة تعريفاً منطقياً - ويجب  أن تبقى غير معرفة، لأن في عدم تعريفها أساس أبديتها وأساس  عمومها - بشروح مستمدة من محيط الفلسفة كما تقدم.

وما عنيته للآن بالكلام تحت عنوان (الدين والفلسفة) هو جذب الدين نحو الفلسفة، ومحاولة شرح حقائق العقيدة بالآراء الفلسفية.

والآن نلقى السؤال مرة أخرى: هل مثل هذا الصنيع يساعد  على نمو طبيعة الدين، ومن خصائصها أن يكون وإن يبقى ميسراً  سهلاً؟ وهل مثل هذا الصنيع يساعد على تحقيق غاية الدين وهي  تتجلى في التفاف الجماعة حوله من غير تحزب ولا تعصب لتأويل  معين في حقيقة وردت مجملة من حقائقه؟ أم أن مثل هذا الصنيع  سبب من أسباب تعقيد العقيدة وإبهامها على كثير من الناس؟

واعتقد أن في المحاضرة التي أذاعها الأستاذ الكبير الشيخ  شلتوت وكيل كلية الشريعة منذ أسبوعين من محطة الإذاعة  للحكومة المصرية عن (موقف المسلمين من القرآن وموقف  القرآن من المسلمين) ما يلقى كثيراً من الضوء على فهم طبيعة الدين  وفهم غاية الدين. ولو تفضل بنشرها على صفحات "الرسالة"(1)   لاتضح - أكثر من الآن - قيمة تفلسف العقيدة، وتحدد - بشيء أكثر من الدقة - أثره في تفلسف العقيدة نفسها،  إيجاباً أو سلباً.

وهو لما له من شخصية علمية دينية ناضجة، أن فعل لاشك  أنه يؤدي خدمة جليلة للبحث العلمي في تراثنا الإسلامي، والبحث  العلمي في هذا التراث غايتنا وغايته وغاية شباب الأزهر الحديث.

اشترك في نشرتنا البريدية