وهذه قصة شعبية أخري تختلف اختلافا كبيرا عن القصتين السابقتين اللتين عالجناهما في الثقافة من قبل ، أعني سيف بن ذي يزن ، وعنترة بن شداد (1) . قسيرة بني هلال كما يدل عليها اسمها ليست سيرة فرد بل جماعة ، وحوادثها الرئيسية وقعت في غربي العالم الإسلامي لا في شرقيه ، وفي صقع هو وطن لمزيج من أجناس ، لا في بلاد عرفت بوحدة العنصر وبعدها عن الدخيل ، في شمالى إفريقية ، حيث العنصر الفينيقي السامي والبربري الإفريقي ، ذلك الشعب صاحب التاريخ القديم ، والأثر البعيد في حضارة البحر الأبيض المتوسط ، والذي كانت تربطه بروما إلى جانب الروابط السياسية الثقافة اللاتينية ؛ لذلك لا غرابة إذا رأيناه يتطلب من العرب المسلمين معاملة
خاصة ، تختلف عن سائر المعاملات التي عرفتها البلاد الأخرى التى خضعت للإسلام والمسلمين . فتاريخنا يحدثنا ان أمور تلك البلاد اضطربت اضطرابا خطيرا عقب وفاة فاتحها وقاهرها عقبة بن نافع ، ونحن نعلم أيضا أن قبائل بربرية كثيرة ارتدت عن الإسلام بعد أن اعتنقته ، حتى أن الوليد بن عبد الملك اضطر إلي إعادة فتحها بإسناد أمورها إلي موسي بن نصير . وبالرغم من يده الحديدية التي حكم بها البلاد فنحن نجد العروبة والإسلام في كفاح دائم ، يختلف حدة وضعفا باختلاف العصور ، مع البربرية والوثنية . ولعل أجمل صورة من صور هذا النزاع هي تلك التي تقدمها لنا سيرة بني هلال في أسلوبها القصصي الشعبي ، لا التاريخي العلمي الذي تركته لأمثال ابن الأثير وابن خلدون . فسيرة بني هلال وإن لم تكن في حجم سيرة " ذات الهمة والبطال" التى تقع فيما يقرب من اثنين وعشرين ألفا من الصفحات ، إلا أنها تعتبر من كبريات
القصص العربية الشعبية ؛ وكما أن مكتبة الدولة ببرلين تفخر بامتلاكها المخطوطة ذات الهمة ، فهي ليست أقل تيها بنسخة السيرة الهلالية التي تخالف النسخ المتداولة بيننا اليوم .
ونستطيع أن نقسم هذه القصة إلي ثلاث حلقات : الحلقة الأولى ، وهي التي تعالج بني هلال منذ ظهورهم في الجزيرة حتى استيطانهم بلاد السرو ؛ والحلقة الثانية ، تحدثنا عنهم وقد رحلوا إلي نجد ؟ بينما الثالثة ويطلق عليها تغريبة بني هلال اهتمت بحروبهم وأعمالهم في الغرب . أما الحلقة الأولى فتبدأ بالحديث عن بني هلال ونسبهم وذريتهم ، فهي تقول إن هلال بن عامر وفد علي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قومه ، وأسدي إلي المسلمين معاونة قوية ، حتى أن النبي أسكنه وادي العباس . وقد اشتهر هلال هذا بالشجاعة والكرم ، ورزق بولد دعاه المنذر ، ولم يكد المنذر هذا يبلغ مبلغ الرجال حتى ترك والده واحترف الفروسية ، وقام بكثير من أعمال السلب والنهب ، ثم تعرف إلي الأمير ) مهذب ( وتزوج بابنته ) هذبا ( ومضت على زواجهما عشرة أعوام ولم يرزق منها بطفل ، فقرر الزواج بأخري ، ورحل إلي بلاد ) السرو وعبادة ( حيث تزوج بابنة الملك الصالح واسمها ) عذبا ( . وبعد ذلك تري السيرة تحدثنا أن ) هذبا ( وضعت له ) جابرا ( ، و ) عذبا ( ) جبيرا ( ؛ ولم يمض علي ولادة الطفلين زمن طويل حتي نري الغيرة تدب بين الاثنتين ، ونري كلا منهما تريد المنذر لها ولابنها ، وهنا تعرض لنا السيرة هذه الناحية من نواحي الحياة الشرقية الاجتماعية عرضا جميلا ، وينتهي الأمر بطلاق ) عذبا ( ورحيلها مع ابنها ) جبير ( إلي نجد . ومن نسل جابر وجبير انحدرت إلينا رجالات بني هلال ونساؤهم الذين قاموا بالأدوار الهامة في مختلف فصول السيرة . فجابر ولد له عامر وتامر وهشام وحازم ؛ ومن نسل هؤلاء انحدر ) رزق ( والد أبي زيد ، وسرحان والد السلطان حسن . أما جبير فقد ولد له رباح
وحنظل والنعمان ؛ ومن ذرية رباح دياب . فمن جدول النسب هذا يتبين لنا أن أبا زيد من نسل جابر ، بينما دياب من ذرية جبير .
وبعد قصة جابر وجبير ، نقرأ خبر زواج ) رزق ( بخضراء ، وكيف أنه رزق منها بفتاة تدعي ) شيحا ( وفتي يدعي ) بركات ( ؛ وكان الولد أسود اللون ، لذلك اتهمت خضراء في عرضها ، وانتهي الأمر إلي رحيلها وابنها إلي بلاد الأمير الزحلان عدو بني هلال ؛ فيكرم الأمير وفادتها ، ويعني بها وبتربية ابنها ، ويوكل أمر تعليمه إلي خطيب كان يشرف على ابنيه " منعم ونعيم " ثم يحدث شيء من سوء التفاهم بين الخطيب ويركات ، فيعتذر الخطيب بقصيدة فيها شيء من الطرافة ، لأنها تذكر لنا المواد التي كان يدرسها الخطيب في ذلك العصر ، فهو يعني باللغات وخاصة السامي منها :
ولسان عبراني اليهود ينفعك ولسان سرياني تصير مشير
والطب والرياضيات والكيمياء
والطب أيضا دانيال أعلمك وعلم الحساب وكل علم ظهير
وأعلمك علم الصباغات كلها تصبغ لروحك ما تريد يا أمير
ويحدث أن يهاجم الهلاليون بلاد الزحلان فيتصدي لهم بركات ويأخذ والده أسيرا ، ويعترف له الهلاليون بشجاعته ، ويطلقون عليه ) سلامة ( ويعجب به الزحلان فيزوجه بابنته ) غصن البان ( ؛ وتعلو مكانة ) سلامة ( في أعين الهلاليين الذين رأوا كيف ان مهابته آخذة في الزيادة ، لذلك أطلقوا عليه منذ ذلك الوقت اسم ) أبي زيد الهلالي سلامة ( وبعد أن تفرغ السيرة من سرد حروب الهلاليين مع الزحلان تنتقل إلي سرحان ، وتحدثنا عن خبر تعرفه بشما ووقوعهما في أسر الإفرنج ونجاتهما بحيلة لطيفة ؛ثم تسجل لنا بعض الأغاني الشعبية التي نري ما يشبهها وزنا وقافية في أغانينا الصعيدية الحديثة التي يسهل حفظها ، ويحلو ترنيمها . وهذا النوع من الفن الشعري إن ذكرنا بشيء
فإنما بفن الملاحم السامي القديم ، والذي وصلتنا نماذح منه في الأدب البابلي الأشوري . فاسمع ) شما ( تصف نفسها :
ربي أعطاك هني والكف متحني
وخشوف وردتي في موج وسوية
انظر لشامتها هذي علامتها
انظر لقامتها شبه الردينية
والشعر مثل الليل كأنه سياسب خيل
والوجه مثل السبل وعيون هندية
واصغ إلى سرحان يعاتبها :
شما تلفتني بحبك ضنيتيني
قومي واسقيني من فوق شبريه
قومي أتي دورك وهلكت من جورك
بالليل أنا أرورك وها لوقت شويه
وقبل أن تنتهي الحلقة الأولى من السيرة نقرأ شيئا كثيرا عن أعمال الهلاليين في اليمن والهند .
أما الحلقة الثانية فتبدأ برحلة السلطان حسن وأبي زيد من بلاد السرو إلي نجد ، حيث تعيش قبيلة زغبة وذرية جبير ، أعني الأمير غانم وابنه دياب ، وسبب هذه الرحلة القحط الذي حل ببلاد السرو . وفي طريقهم إلى نجد نقرأ فصلا طويلا عن حروبهم مع يهود خيبر وانتصارهم عليهم ؛ وفي نجد يتزوج السلطان حسن ) نافلة ( أخت دياب بعد أن يعده بأخته ) نور بارق ( أي الجازية ، وفي هذه الفترة نجد وصفا للمعارك التي قامت بين الهلالية والعقيلي حنظل والهيدبي ، ثم تنتهي إلي الاصطدام بين أبي زيد ودياب ولا تنتهي هذه الحلقة إلا بعد أن تطيل في الحديث عن بطولة العرب عامة ، والهلالية خاصة ، وانتصاراتهم على الإفرنج
وتغريبة بني هلال أو الحلقة الثالثة من حلقات هذه السيرة تعنى بأعمال الهلاليين في الغرب خاصة ، في شمال إفريقية ، وهذه الفترة من فترات التاريخ الإسلامي صحيحة لاشك فيها ، كما أن بني هلال عرفتهم الجاهلية وعاشوا في
الإسلام ، وقاموا وحلفاؤهم بنصيب وافر في سبيل العمل علي تعريب تلك البلاد جنسا وثقافة . فابن الأثير يحدثنا في كاملة بأن رسول الله ) ص ( تزوج في العام الرابع من زينب بنت خزيمة أم المساكين وهي من بني هلال ، ثم يذكرهم مرة عند الحديث عن غزوة هوازن ، ومرات كثيرة أخري في مناسبات مختلفة . أما خروجهم إلي إفريقية فقد ذكره أكثر من واحد من المؤرخين ، أذكر منهم هنا ابن خلدون فقد جاء في ص 62-63من الجزء الرابع من تاريخه ما نصه : ) كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بإفريقية ، وخطب للقاضم العباسي ، وقطع الخطبة للمستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة ، فكتب إليه المستنصر يهدده ، ثم إنه استوزر الحسين بن علي التازوري بعد الجرجراي ولم يكن في رتبته فخاطبه المعز دون ما كان يخاطب من قبله ، فحقد ذلك وأغري به المستنصر ، وأصلح بين زغبة ورباح من بطون هلال ، وبعثهم إلي إفريقية وملكهم كل ما يفتحونه ، وبعث إلي المعز : أما بعد فقد أرسلنا إليك خيولا ، وحملنا عليها رجالا فحمولا ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا . (
وبينما نجد التاريخ جافا في تصوير هذه الحملة ، إذ بالسيرة تعرضها عرضا وافيا مستفيضا ، فهي تخبرنا أنها أعدت كأحسن ما تعد حملة اليوم ، فنحن نقرأ خبر إرسال العيون إلي البلاد أولا لاستطلاع أخبارها ، ومعرفة قوتها ، وأحسن الطرق الموصلة إليها ، وكان هؤلاء الجواسيس من خيرة أبناء الهلاليين من مرعي ويحيي ويونس وأبي زيد ، ويقع جميعهم في قبضة العدو ولا يفرج إلا عن أبي زيد الذي عاد وجهز الجيوش لفتح تونس ؛ ويسير أبو زيد مع بني زحلان ، وحسن مع بني دريد ، ودياب مع بي زغبة . ويؤتي بالجازية من مكة لتكون في الطليعة ؛ ثم نقرأ قصصا كثيرة حول هذه الجيوش والتقائها بالخفاجي عامر والملك الغضبان ، والخزاعي ، وشبيب التيمي ، والبردويل بن راشد ، وأشهرها هي قصة بني هلال مع الماضي حاكم صعيد مصر . وما كادت تتحرك هذه
الجيوش لملاقاة الزناتي خليفة حتى زودها أبو زيد بخططه الحربية الخطيرة ، فهو يضلل جواسيس العدو مرة ، ويستولي على عيون المياه مرة اخري ، ويأتي بحيل لا تقل طرافة عن حيل قواد الحرب الحالية . وقد أطلق مرة المنادي ينادي في العرب ؛ كل من كان عنده ناقة والدة يبعد ابنها عنها . أو فرس والدة يبعد ابنها عنها ، وكل من كان عنده حصان طلوق يجيبه عند فرس شابع ويلحقونا علي عين الخطيري ، وتخلي العرب كلهم يدقوا طبولهم في نزولهم على العين ، فيسمع الزناتي حنين المهاري وصهيل الخيل وحس الطبول فينكسر قلبه قبل ما يجي لنا الحرب ( . كما أنه كثيرا ما استخدم النساء للتسرب إلي داخل البلاد ، والقيام بأعمال السلب والنهب لإيقاع الذعر بين الأهلين والتمهيد لدخول الحيوش ؛ وكان تنفيذ هذه المهمة يوكل عادة للجازية التي كانت تقوم بها خير قيام ، فاسمعها مثلا تتحابل علي منصور أحد بوابي تونس :
يا بواب منصور افتح لنسا السور
نسر له بدستور ونبيع المخالي
والله ما افتح الباب لو شفت العذاب
ولا اضرب بحراب من غز سكاري
افتح لا تبالي دا إحنا لا عيالي
ونبيع المخالي وأحزمة المهاري
والله يا ظريفه خايف من خليفة
له حربة رهيفه تمرق من الحجاره
وبعد حديث طويل نجد الجازية تتغلب على منصور ويفتح لها ولمن معها من نساء ورجال ، ويتمكن الهلاليون من إطلاق سراح مرعي ويونس . ثم تدور الدائرة علي الزناتي فيقتل بفضل خطة وضعتها ابنته سعدة التي شغفت بمرعي عندما كان في سجن أبيها ، فهي التي اشارت على الهلالية بإرسال دباب إلي أبيها ومنازلته لأن ديابا أقدر الفرسان لمنازلة خليفة . خلا الجو للعرب في تونس واستولوا علي
عروش الغرب السبعة ، وشرعوا في تقسيمها بينهم ، كما أخذوا في الاستعداد لغزو مراكش . وهنا نجد النزاع الذي كان قائما بين العرب في الجزيرة، أعني بين اليمنية والقيسية ، ينفجر مرة أخرى في إفريقية ، فيمثل أبوزيد القيسية ودياب اليمنية وقد مهدت السيرة لذلك أحسن تمهيد ، فهي في جدول الأنساب الذي ساقته من قبل جعلت ديابا ينحدر من فرع تجري في عروقه دماء حمير ، فهو دياب بن غانم بن رباح ابن حمير بن رباح بن جبير ، فذكر ) حمير ( هنا لم يات عبثا ، وإنما تمهيد لسائر الخصومات التي قامت بين أبي زيد من ناحية ، ودياب من ناحية أخري ، وهو يعلل لنا قتل دياب للسلطان حسن وأبي زيد فيما بعد .
أدت هذه القبائل القيسية اليمنية رسالتها في شمالي إفريقية وجعلته عربيا جنسا وثقافة ودينا حتى يومنا هذا . وبعد ذلك نقرأ خبر انتقال دياب إلي السودان والحبشة ، ويقتل دياب ، ويتولي ابنه نصر الدين الزغبي حكم بلاد الغرب وتنتقل بعض القبائل القيسية إلي صعيد مصر ثانية ، فأعالي النوبة ، فالخرطوم ، فدارفور حيث نسمع عن وجود قبائل عربية مثل الرزيقات نسبة إلى رزق والد أبي زيد ، وقبيلة سليم نسبة إلي بني سليم . وهنا تؤيد السيرة أبحاث المؤرخين ورجال اللغات السامية ، فهم مجمعون علي أن لهجة صعيد مصر وعرب أولاد علي ، غرب الإسكندرية ، ومالطة وشمالي إفريقية وأعالي النوبة ، و كردفان وجنوب الخرطوم ودارفور لهجة واحدة ، لها مميزاتها الخاصة التي تميزها عن سائر اللهجات العربية
لكن قبل أن أختم مقال اليوم أحب أن أقول إن استقرار هذه القبائل العربية خارج الحزيرة لم ينسها يوما نجدا وجمال نجد ، وحرية نجد ، وقد عبر مرعي عن هذا الحب بقوله يخاطب سعدة بنت خليفة :
يا سعده نجد العريضة مريه وبيت بها أهلي وكل جدود
بلدي ولو جارت عليا مريه وأهلي ولو شقت عليا نجود
