الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 462الرجوع إلى "الثقافة"

الى من يلزم من أهل البصائر :, أليس كذلك ؟

Share

هب أيها القارئ العزيز أنك من أصحاب المصالح الحقيقية كما يقولون . هب ذلك ، أو كن ذلك إذا شئت . وهب أنك تملك قطعة سمينة من أرض مصر وتريد أن تزرعها كما ينبغي لها أن تزرع . ثم هب أيضا أن بها عددا عظيما من الماشية التي نستخدمها في الفلاحة : من حرث ، وتدوير سواق ، وجر توارح وغير ذلك ثم هب أنه قد ظهر لك أن الخولى الذي يتولى أمر هذه الماشية لا يقدم لها العلف الكافي كل يوم . هبه رجلا يأخذ لنفسه ما كان يجب عليه أن يقدمه للمواشي من العلف ويستأثر به أو يبيعه لكي يتفسح بثمنه ويعيش هو وأولاده في بحبوحة ، فتصبح الماشية عجفاء ضعيفة تتساقط من الإعياء إذا ما ربطت إلى المحراث . وهب ذلك كله ، فماذا كنت فاعلا ؟ إنك بغير شك تغضب غضبا شديدا ، لأن هذة الحيوانات لها عليك حق . أليس كذلك ؟

إنك بغير شك تغضب على ذلك (الخولى) اللص الذي يأخذ ما هو من حق هذه البهائم الخرساء ، منتهزا فرصة أنها بهائم لا تستطيع الكلام ولا الشكاية أليس كذلك ؟ وإنك بغير شك تنتهي إلي طرد ذلك ( الخولي) من حظيرتك ، وقد تدفع به إلى القضاء لعقابه على خيانته إذا استطعت أن تثبت عليه السرقة ، أليس كذلك ؟

ثم إنك بلا شك تمتلئ منه غيظا لأنه لم يقم بما كان يجب عليه نحو البهائم الخرساء ، وتأخذك رحمة شديدة عليها ، فتنتصر لها على ذلك الخولي ، مع أنها من جنس الحيوان ، والخولى من الجنس البشري بكل أسف . أليس كذلك ؟

ألمح من بعيد أنك أيها القارئ العزيز تهز رأسك بالموافقة التامة ، أليس كذلك ؟

هذه مسألة الحيوان . والإنسان جدير بلا شك بمثل هذه المعاملة ، أليس كذلك ؟

هذه مقدمة بسيطة ، فلنتنقل الآن إلى موضوع آخر لا علاقة له بالإنسان ولا بالحيوان ولا بالزراعة ولا بالخولي الخائن . لنتنقل إلي سؤال من نوع آخر : هب أنك أيها القارئ العزيز رجل من أ كابر أهل مصر ، أو كن ذلك الرجل الكبير إذا شئت . وأغلب ظنى أنك كذلك . ثم هب أنك دعوت أحد معارفك من (بلاد برا) ، سواء في أوربا أو أمريكا ، لكى يزورك في مصر . فلما جاء ذلك الصاحب الأجنبى إلي مصر ، ذهبت به إلى دارك النظيفة وأ كرمته ، وأنزلته على ما ينبغي له من الترحيب والإعزاز . ثم هب أنه أراد أن يتفسح في البلاد وطلب إليك أن يري الريف المصري . هبه طلب منك أن يزور القري المصرية ليري القوم الذين تنتمي إليهم ، ليري قومك الذين يدعونهم - كما يدعونك - أهل مصر وأبناء مصر

إنني أستطيع أن أراهن يا سيدي العزيز أنك سوف تنتحل كل الأعذار حتى تحول بينه وبين زيارة ذلك الريف ، لأنك بغير شك ممن يشعرون بشيء من الخجل أن يكون قومك على غير ما ترضي لهم من الحال . أليس كذلك ؟

إنك بغير شك لا تحب أن تسمع منه كلة واحدة في وصف هؤلاء (القوم) بأنهم مسا كين - عراة - قذرون - جهلاء الخ . أليس كذلك ؟

ولقد وقفت أنا مرة موقفا قريبا من هذا ، فقد كنت أسير مع أستاذ أجنبي ، فوقعت عيونا على بعض مناظر مؤلمة في هذا الشعب . فماذا تظن ذلك الرجل لأجنبي قد فعل ؟ لقد رأيته بعد حين يبكي . نعم كان يبكي - ذلك الرجل الطيب القلب . فكان واجبي أن أضع وجهي في

الأرض كما يقولون . أليس كذلك ؟ فوضعت وجهى فى الأرض . أراك أيها القارئ العزيز تهز رأسك متأثرا . أليس كذلك ؟

هذا موضوع ثانى ، فلنتركه كما تركنا الموضوع الأول ، ولننتقل إلى معنى ثالث لا علاقة له البتة بالموضوعين السابقين .

هب أيها القارئ الكريم أنك زعيم وطنى في وقت من أوقات الأزمات الشديدة التي تعترض حياة الأمم . وهب أنك وجدت من واجبك أن تثير كل الهمم لكي يقف المصريون جميعا من ورائك صفا واحدا للجهاد في تلك الأزمة الشديدة ، فوجهت دعوة حارة إلى جميع أفراد الشعب ليهموا معك للجهاد في سبيل خلاص البلاد وتقديم التضحية الواجبة . أتظن أن الشعب يهب معك إلا إذا كان كله شعبا من الأحرار ؟ ألا توافقني على أن الشعب إذا كان محروما جاهلا لا  كرامة له في حياته - ألا توافقنى على أن الشعب إذا كان مهملا مثل العبيد كان جديرا ألا يشعر بالتضامن الواجب في عنقه لبلاده ؟ إنك توافقني بغير شك على أن كل فرد في الشعب الحر لابد أن يكون متمتعا على الأقل بالحد الأدنى من الحياة الإنسانية . أليس كذلك ؟

قد يقول قائل : إننا نستطيع أو إننا قد استطعنا فعلا في تاريخنا الطويل ، أن نحشد كل قوي الأمة للجهاد ، فلم يجرؤ فرد منها أن يتخلف عن أداء الواجب . ولكن هل كان يجدي في الجهاد من يساقون إلى الجهاد قسرا ؟ هل كان يثبت في الجهاد إلا الأحرار الذين يندفعون إلى أداء الواجب بدافع من قلوبهم ؟ إنى واثق من أن القارئ العزيز يوافقني على أن العبيد الذين لا يعرفون لأنفسهم كرامة لا يستطيعون أن يتضامنوا في الجهاد صفوة متراصة ثابتة . أليس كذلك ؟

هذه موضوعات متفرقة قد انساق إليها القلم بغير نظام ولا قصد ، فلندعها فإنها كلها (دردشة) عامة ، ولا أستطيع أن أجمل حديثي كله من هذه (الدردشة) العامة . فلننتقل إلى كلام آخر فيه تحديد ، وله غاية مقصودة ، وعندي اقتراح أعتقد أن القارئ الكريم يوافقني عليه وإن كان من أصحاب المصالح الحقيقية في مصر . فبلادنا العزيزة في أشد الحاجة إلي أن تهب هبة صادقة لتضع الأساس الأول لنهضتها الصحيحة . وهذا الأساس الأول لا خلاف فيه مهما اختلفت وجهات النظر ، فهو الشعب المصري نفسه ، هو هذا العدد العظيم من الفلاحين الذين يملأون القرى ، وهذه الملايين الكثيرة التي تقوم بالإنتاج والعمل في مرافق الحياة . هو هذا الشعب المحطم الذي يموت في كل عام بالآلاف ويهم في الحياة هيام الضال . هذا الشعب هو أول أساس لكل نهضة ، ولا يمكن للبلاد أن تكون بلادا متمدينة حقا ، إذا لم يكن لها شعب جدير بالحياة في القرن العشرين . ووضع الأساس هو أكبر عمل في البناء كله ، فإذا كان سليما أمكن أن يقوم البناء شامخا عظيما ؛ وأما إذا كان ذلك الأساس واهيا لم يمكن أن يقام فوقه بناء . فإذا فرضنا أن مهندسا أراد أن يبني عمارة في أرض رخوة كان عليه أن يستوثق أولا من أنه قد وضع أساسا ثابتا يمكن أن يبني العمارة فوقه مهما كافه ذلك من النفقة وهو يعرف بلا شك أن كل نفقة يصرفها في سبيل الوثوق من متانة الأساس لا تكون نفقة ضائعة ، بل هي نفقة تقتضها كل القواعد الاقتصادية السليمة . فإذا احتاج الأمر إلي صرف الألوف المؤلفة ليكمل متانة هذا الأساس كان لابد له من صرف تلك الألوف ، وإلا كان مهندسا خائبا لا معرفة له بقواعد الهندسة ولا الاقتصاد .

فنحن إذا أردنا أن تكون لنا بلاد كان علينا أن نهتم أولا بالأساس الذي تقوم عليه بلادنا وهو الشعب - ذلك الفلاح ، وذلك العامل ، وذلك المنتج .  وكل عناية

توجهها البلاد إلى هذا الشعب لا بد أن تعود أخيرا إليها بخير مضاعف . فيجب أن نعنى أ كبر المناية بحياة الشعب في كل نواحيها مهما كلفنا ذلك من تضحيات . يجب أن نصلح حياته إصلاحا شاملا ، يجب أن نخصص كل عام لذلك الإسلام الشامل عشرات من الملايين في تعمير القري وإعادة تنظيمها ، وفي اصلاح الطرق ، وتعميم مشروعات مياه الشرب ، وإقامة المباني الحديثة للمسا كن في القرى ، وما أشبه ذلك من وسائل التعمير . إن القري المصرية مخربة منذ عهود طويلة ، وعلينا أن نقوم بتعميرها وإنشائها إنشاء جديدا يتلاءم مع نظرة العصر الحاضر . فإذا نحن لم نجد من الأموال ما يكفي لذلك كان علينا أن نلتمس الوسائل لإيجاد ذلك المال . وعلى أصحاب المصالح الحقيقية أن يعرفوا أن في هذا ضمانا لمصلحتهم . فإذا فرضنا أنهم لم يفهموا ذلك من تلقاء انفسهم كان على الدولة أن تجعلهم يفهمونه ولو قسرا - أي يحكم القانون . ينبغي ألا نتردد في هذا الإصلاح الشامل مراعاة لمصلحة البلاد كلها ، وإن كان

يلقى مقاومة من مجموعة محدودة ممن نسميهم أصحاب المصالح الحقيقية .

وعلى فكرة - أحب أن أسأل : هل هناك مصلحة حقيقية لبعض أهل مصر ومصلحة غير حقيقية للبعض الآخر ؟ إن مصلحة الجميع واحدة وحقيقية . والمجتمع المصري كله واحد لا يستطيع بعضه أن يستغنى عن بعض . وإذا كان للبعض مصالح عينية أو مالية فإن للبعض الآخر مصلحة لا تقل عنها خطورة ، وهي مصلحة الحياة نفسها . علينا أن نتيقن من ذلك المعنى قبل فوات الفرصة ، فإن القرن العشرين أصبح لا يهضم مبادئ القرون الخالية التي كانت تسمح بوجود الطبقات والامتيازات واستغلال البعض للبعض الآخر . قد زال الرق من كل المقائد ، وأولى بنا أن نعترف في صراحة بأن الحياة الكاملة للأمة متوقفة على وجود الحياة الكاملة لكل الأفراد المكونين لها . أليس كذلك ؟ .

اشترك في نشرتنا البريدية