الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 125الرجوع إلى "الثقافة"

اليقظة من حلم الحياة

Share

" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " " الدنيا نوم والآخرة يقظة والمتوسط بينهما الموت ونحن أضغاث أحلام "

ليس هناك أموات . أجل هذه هى حقيقة الحقائق التى ينبغى أن نغرسها فى أبعد أغوار نفوسنا ، ونركزها فى أدق تلافيف أدمغتنا ، لأن هذا العالم الوسيع الذى لا يحد ، هذا العالم المترامى العظيم ، بكل ما كان عليه فى الأمس البعيد ، وبكل ما وصل إليه اليوم ، وبكل ما سيصير إليه فى الغد ، لم يوجد من العدم ليؤلف مشهدا تتخطفه العين لحظة ثم يختفى من أمامها ؛ كما أن كل تعب ابن آدم وكده وشقائه ، وانتصاره وانكساره ، ونجاحه وخذلانه ، وطموحه وسعيه - ليس بخارا يظهر قليلا ثم يضمحل ، أو ريحا تذهب ولا تعود .

والله من وراء الكون ، وهو تعالى من فوقه . والحياة التى سقطت كما تسقط الحبة من يد الزارع ، تحث خطاها إلى مصيرها المحتوم وغايتها المعينة ، وتبلغهما حين تستوفى أجل أكلها وتنقضى مدتها ويحين يومها . .

وأنت وأنا ، وجميع الخلق الذين تقلهم هذه الغبراء ، ممثلون فى رواية الكون . ويا لها من رواية !

ولن يعرف أحد إلى أية نهاية نحن سائرون ، كما لا يعرف أحد من أين ابتداؤه ولا إلى أين انتهاؤه ، فإن هذا هو لغز حياتنا السرمدى . وقد أجاد بروفسر جلبرت ميررى أحد كبار المفكرين الأفذاذ فى هذا العصر حين قال : (( ليس فى تلك المغامرة الكبرى - مغامرة حياتنا - نعيم أعظم من كوننا لا نعلم كيف تكون خاتمة قصتها ، وهل هى أرض متجمدة وشمس خامدة واضمحلال بطىء للعقل وللوجود ، وهل نحن ممثلون فى ملهاة انتصار أو مأساة انكسار ! "

ونحن قد نتناول كتابا ساعة العشاء فننحنى على صفحاته وتسحرنا مضامينه وتذهلنا عن دورة الزمن ومرور الوقت ، فلا نكاد ندرى أننا قد شارفنا الساعة الثالثة من الصباح . ولكن هل يوجد ما هو أشد سحرا من هذه المغامرة الجليلة ، مغامرة الحياة الانسانية ، التى تبزغ من بكرة الخفاء الذى لا يفضى إليه كاشف ، لتقرب فى فحمة الغموض الذى لا يماط حجابه ، بل تخرج من ماض سحيق لا يناله متسقط  و يصنعه خطى , تمضى إلى مستقبل مبهم مجهول لا علم لانسان به .

بل إنها قد ابتدأت بأناس متوحشين ، كانوا يأوون إلى الكهوف ، ويعششون فى فروع الاشجار الباسقة المورقة ، ثم تدرجت فى تصاعدها ، فاجتازت أودية الظلام ، واقتحمت عصور الجهل ، وطوت مراحل الاحقاب ، متهالكة فى فلوات التضحية ، متبدعة فى مجاهل البطولة ؛ وظلت فى سراها حتى أفضت بنا إلى هذا العصر الذى علت فيه قيمة الفكر ، وجرى الانسان إلى أبعد غايات القدرة والصولة ، وصار إليه الأمر والنهى فى هذه الكرة الأرضية . ولكننا مع ذلك نراه - بعد أن بلغ نهاية مطافه الطويل المديد - يرتعد حيال تلك القوة والأهوال التى ابتدعها ، كما كان يرتعد قبلا أمام الأسد

والحب ! . حقا أن تصورات الإنسان عجيبة ، ولكن أعجب من جميع التصورات والأفكار . . الانسان نفسه . وبعد ، فما هى الظاهرة التى تحتكر انتباهنا ، فى هذا الدور العنيف ، الذى يمثله الانسان اليوم فى رواية حياته الحاضرة ؟ ! أليست هى تلك الظاهرة التى تلح علينا أن نفكر ونذكر أن عشرين مليون رجل يرقدون الآن تحت أطباق الثرى فى حومات القتال المنتشرة فى أنحاء العالم بعد أن بذلوا حياتهم وجادوا بأرواحهم ، فى الكفاح الشديد المتواصل من أجل الحرية والاستقلال . وها هو الصيف قد عاد إلينا مرة أخرى ، وها هى البراعم تنور على الغصون المبادة ، والأطيار تغرد فى الغابات ، والريح تسقى فوق حقول الحنطة . ولكن ، فى مكان ما ، بل فى كل مكان ، تجلس تلك الأم الثكلى ، وتفكر فى وليدها الذى احتضنه الرمس ، فيتضاءل بهاء الوجود لدن التفكير فى هؤلاء الذين غادروه وانتقلوا منه ؛ ومع ذلك فهل يوجد انتصار أعظم من انتصار أولئكم الفدائيين الذين قدموا كل شئ لينقذوا الجنس البشرى ؟

إنهم ليسوا أمواتا وليسوا نائمين الآن . بل إنهم قد استيقظوا من حلم الحياة .

وقد انفتح لهم الباب وارتفع من أمامهم الحجاب ، واصبحوا يعرفون النهاية التى تتجه إليها الخليفة كلها . ولئن بادت أجسامهم ، فإن أسمائهم باقية للتاريخ ومشكاة للسارى وكتابا يقص حوادث الماضى فيجعله جليلا حافلا . وإننا لنذكر أن " دارون " قد أبى أن يفكر فى أن الانسان الموهوب لا بد أن يرتحل من هذه الدار الفانية بعد تراثه القصير فيها . .

وبالهزيمة العقل وصولة الجهل ! لو حسبا أن الانسان وحى يتقشع ، وأن أحاسيس قلبه الباسل ومبتدعات يده الصناع ، أوصال تسعها حفرة من رمسه ، وأن مواهب عقله الجبار ، وكتب تطوى مراحل السنين المديدة ،

وتقشر معاليه المديدة ، لتغير بعد أن كانت الأرض تضيق من نفسه .

بيد أن الحياة الانسانية ليست كذلك ، لأنها ترتقى من جيل إلى جيل ، وتسير إلى الأمام على الولاء ، وتندرج على الدوام إلى العلاء ، وتجرى أعمالها بأساليب لا نعرفها ، وفى عوالم لا نستطيع أن نبصرها . . والنوم الذى ندعوه موتا ، هو مرور من باب غائم بين عالمين ، ونحن لا نفهمه ؛ وهذا كل ما فى الأمر .

على أننا نعرف شيئا واحدا على الاقل ، وهو أنه لا يوجد فى الحياة اليوم ، ما هو مؤكد ، وباق ، وحاضر فى كل مكان ، مثل تلك القوة الصامتة المليئة من دبوات الصناديد الأباة الذين انتقلوا إلى حيث يوجد الأمن والسلام ، وتسود الطمأنينة ، وهم يشحذون عزيمتنا يوما بعد يوم ، ويدفعوننا إلى الإمام ويشددون إيماننا ، ويزيدوننا استمساكا به . ونحن من أجل هذا كله نفكر فيهم ، ولا نعتقد أنهم قد فقدوا منا ، أو أن حياتهم قد انتزعت منهم انتزاعا ، بل نرى فيهم أولئكم الأبطال البواسل ، الذين توجوا بأكاليل الظفر ، ونالوا أجرهم بعد أن جاهدوا الجهاد الحسن .

حقا ليس هنالك موت ، فإن هذا التراب الذى تطأه أقدامنا سيتحول بفعل غيوث الصيف ، إلى حصيد ذهبى مفعم بالثمار اليافعة والأزهار الشذية التى تختال فى أبراء زاهية ، وستسير قربنا على الدوام تلك الأرواح العزيزة الخالدة بعظمتها ، وإن كنا لا نراها رأى العين .

لأن هذا العالم الوسيع الذى لا يحد ، يعج بقوام الحياة وستار العيش ، أو هو الحياة عينها والعيش بجملته , ولذلك نقول : " ليس هناك موتى " [ سرية من الكاتب الإنجلزى المعروف أرثر سى ]

اشترك في نشرتنا البريدية